23 ديسمبر، 2024 9:01 ص

بعد نصف قرن .. سأنتخب

بعد نصف قرن .. سأنتخب

كم بقي من العمر حين يمضي نصف قرن منه في الظلام ؟! خمسون عاما مضت من عمري في ظل الديكتاتورية والفجيعة والألم . فتحتٌ عينيّ في الثاني من شهر تموز ( يوليو ) عام 1963م في ظل حكم البعث الاول وتأسيس أول جمهورية للعراق . كان عبد السلام محمد عارف رئيسا للعراق , وهو جاء لتوّه على ظهر دبابة ( ناصرية – أميركية ) أطاحت حكم رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم , ونخّبت صدره طلقات الحقد والضغينة والحسد , وألقاه رفاق دربه في النهر , من دون أن يتركوا له أثرا كي نستدل به على قبر , أو شاهدا يتصدره يعرفنا بقائد الانقلاب الذي أطاح العهد الملكي .
كانت قد مرت خمسة شهور على اعدام الزعيم قاسم , في شباط ( فبراير ) خلال زواج المتعة والمسيار ( عبد السلام – البعث ) وما هي الاّ أربعة شهور تمرُّ من عمري حتى انقلب عارف على رفاقه البعثيين , ليطلق عليهم تسمية الحرس اللاقومي , بعد ان كان قوميا منذ شباط وحتى تشرين .
لم يهنأ عارف بالحكم طويلا ( 1963 – 1966 ) تخللته محاولات انقلابية ومؤامرات ومشاكل مع الاكراد وعبد الناصر .. وغيرها , واذا بالرجل يحترق في سماء النشوة بالقرب من البصرة في حادث الهي , أو من تدبير الانسان ( الله أعلم ) ليتسلّق أخوه الراحل عبد الرحمن عارف حكم العراق بالوراثة البشرية , وليست الالهية , لاعتبار انه لا يوجد بديل أفضل منه , حيث الانسان العراقي منذ خلقه الله ليس عنده بديل لمن يتسلط عليه .. هذا وقد مرّ عليه آلاف الحكّام خلال ثمانية آلاف سنة من عمره , ويقول لا يوجد بديل , ولا أدري ماذا سيقول العراقيون لو كانوا أميركييين وعمر دولتهم قرنين من الزمان , ولم يمر عليهم سوى بضع عشرات من الحكّام , لا آلاف ؟!
يشهد آباؤنا ومَن هم أكبر منا سنّا وأوعى في تلك الفترة , على أن فترة حكم عبد الرحمن عارف كانت من أفضل الفترات , من حيث الاستقرار والامان والانفراج الذي حصل خلال العهد الجمهوري , رغم خوض العراق حرب ال67 مع اسرائيل الى جانب مصر وسوريا , وحدوث عدة محاولات انقلابية في العراق .. ولكن هذا الانفراج لم يستمر طويلا , فحكم عبد الرحمن هو أقصر فترة حكم في العهد الجمهوري حتى عام 2003م .
في تموز عام 1968م قاد البعث مؤامرة عسكرية أطاحت بحكم عارف , وأخرجته من السلطة سالما هذه المرة , ليكون شاهذا على العصر والتاريخ , حتى مات مؤخرا في عمّان الى رحمة الله .
جاء أحمد حسن البكر الى الحكم والى جانبه صدام حسين , وشنّ حملة التبعيث في صفوف العراقيين . ساءت العلاقات مع شاه ايران , وبدأت أول حملة تسفير بحق العراقيين الى ايران عام 1970م . خضنا حرب تشرين 1973م ضد اسرائيل , أيضا الى جانب مصر وسوريا . ثم خضنا حرب الاكراد عام 1974م , والتي انتهت باتفاقية الجزائر في آذار عام 1975م .
في عام 1979م أزاح صدام حسين الرئيس البكر وحلّ مكانه رئيسا للعراق في مؤامرة معروفة ومكشوفة . ثم مسك الرجل المنجل وراح يحوش القمح في منظر خالد ظل نذير شؤم للعراق والعراقيين . شنّ صدام ثلاث حروب داخلية وثلاث خارجية , لم تبقِ ولم تذر . فحين نتحدث عن حروب نتحدث عن ضحايا ومعوّقين وأسرى وارامل ويتامى وتفكيك أُسَر وتدمير اقتصاد وانهيار بنية تحتية وانقلاب معاني ومفاهيم وشيوع الجريمة والفساد والرعب والدمار .. نعم حينما نتحدث عن الحرب نتحدث عن كل هذه المعاني .
حاول صدام جاهدا أن يظهر أمام العالم بمظهر الزعيم البطل والمنقذ والمحب لشعبه ووطنه , فعمد الى اجراءات سياسية شكلية ترقيعية لاظهار حكمه بمظهر الحكم الشعبي , فأجرى انتخابات برلمانية في العراق قبل الحرب مع ايران وخلالها .. حتى انتهى حكمه عام 2003م بدبابة أميركية .
كل تلك السنين الاربعين الفائتة ( 1963 – 2003 ) لم أنتخب ولم أمارس حقا من حقوقي السياسية , لانها أصلا لم تكن حقوقا بمعناها الصحيح .. لقد كانت اضحوكة . حتى حل العهد الجديد , وقلنا بأننا سنؤسس لدولة ديمقراطية حقيقية , لعراق جديد خال من الضحك على الذقون . واذا بالولايات المتحدة الاميركية تحوّل بلدنا الى ساحة لعبثها ولتصفية حساباتها مع الآخرين لمصلحتها , وعلى حساب دمائنا وأموالنا وأعراضنا .
ولم يتحالف معها الشرفاء الوطنيون الكرماء المناضلون الحقيقيون من أجل العراق وشعبه . انما تحالف معها محرومو الجاه والسمعة والصيت , تحالف معها محرومو التاريخ والشرف والنضال والارادة في الحرية والاستقلال , تحالف معها جوعى المال والحكم والتسلّط , تحالف معها أشباه الرجال من المخانيث والجبناء والموتورين والمرتزقة والمأجورين ..
هؤلاء اشتغلوا عملاء عند الاميركيين ينفذون سياساتهم المؤذية بحق العراق ومخططاتهم المدمرة لشعبه مقابل رواتب وأجور , ثم مقابل نهب الدولة والاموال والسلطة . فصنعت لهم دستورا مشوّها معيبا ناقصا , وأسكنتهم المنطقة الخضراء , وطوّقتهم بالكونكريت المسلّح , ووضعت تحت أمرهم الحمايات من أصحاب العضلات المفتولة , وجهزتهم بالاسلحة والحراب , وسلمتهم الاموال , وحمتهم بالسيارات المصفّحة , وأعطتهم الوزارات , ثم قالت لهم : روحوا طبّقوا الديمقراطية في بلدكم .
واذا بهؤلاء الأوباش يتلاقفوها كتلاقف الكرة , لتنهال الرحمات والسكنات على قلب أبي سفيان وقلوب سائر بني أُمية الغابرين !
جرى استفتاء على الدستور الاعرج وانتخابات مشوّهة , استخدمت فيها الخرافة والشعوذة والدجل الديني , وأشيع فيها الجهل والتخلّف والأُمية , واعتلى المنابر خطباء المسح بالحجارة , وزيّفت ارادة الانسان العراقي وصودر صوته .
ولعلمي ومعرفتي المسبقة بكل ما يجري في العراق من خطط وبرامج وقرارات , امتنعتُ هذه المرة بمحض ارادتي وامتلاكي لقراري المستقل أن لا أدلي بصوتي , وأن لا أذهب الى الانتخابات , وأن لا أشجع أحدا على ممارستها , وأن لا أدعو ولا أروّج لها . كل ذلك كي لا أكون شاهد زور على نتائجها وعلى ما تقذف به من أدران وأوساخ الى الى مجالس المحافظات والبرلمان والحكومة , كي لا أشترك في الجريمة , كي لا أبرر القتل الذي يجري بحق الابرياء من العراقيين , ولا أبارك السرقة والنهب لأموال الشعب والوطن .
ان نضالي الوطني في سبيل العراق والعراقيين يمنعني من أن أضحك على شعبي , ان شرفي السياسي لا يسمح لي أن انهب وأستغفل بلدي .. انني أأبى ذلك .. لهذا كله امتنعتُ عن الادلاء بصوتي .
أما اليوم , مع وجود كل النواقص والاخطاء والعورات والملاحظات التي ذكرتها والتي لم أذكر الكثير الآخر غيرها , فقد قررت أن أمارس حقي الانتخابي كناخب , ولأول مرة في حياتي في بلدي العراق , حيث لدينا مرشحون في حزب الشعب في عدد من المحافظات العراقية . لا نزعم ولا ندعي بأنهم الأشرف والأعظم والأفهم من الآخرين , فهم من أواسط الناس وشرفائهم , ولكنهم غير ملوّثين بفساد مالي أو اداري أو مهني أو تاريخي .. سأدلي بصوتي لهم وأدعو كل الشعب العراقي الى انتخابهم , لأنهم أهل للمسؤولية والشرف .. والا هل يُعقل بأن شخصا يُقصى أو يقصي نفسه خمسين عاما من عمره عن الانتخابات , ثم بالتالي يدلي بصوته لانسان لا يستحق الامانة والشرف ؟!
سأمارس الدعاية لمرشحينا وسأدلي بصوتي لهم في العشرين من نيسان باذنه تعالى , لانه لم يعُد لدي أدنى استعداد أن أقضي بقية عمري من دون أن أتمتع بهذا الحق وأمارسه علنا , ثم وهل بقي من العمر شيء , حتى أبقى متفرجا ؟! أيها العراقيون الشرفاء هيهات ذلك أبدا .. فبعد نصف قرن من الزمان سأنتخب .