كان دور الدولة في ادارة جوانب الحياة المختلفة موضوعا للنقاش والاختلاف بين العديد من الفلاسفة والمفكرين والسياسيين على مدى قرون لعل اكثر بداياتها وضوحا هي تلك التي تضمنها كتاب افلاطون :الجمهورية .
حيث ناقش الادوار التي ينبغي على الدولة القيام بها لضمان الازدهار والرفاه في الجمهورية، وقد حدد بعض المهام الحصرية للدولة والتي لايجب ان تناط باي جهة أخرى.
وتجنبا للاطالة، نقفز الى حقبة ابن خلدون الذي تحدث عن هذه القضية في كتابه المشهور بمقدمة ابن خلدون (مع ان المقدمة هي احد اجزاء الكتاب وليس الكتاب كله. اذ ان اسم الكتاب هو: كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبرفي ايام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الاكبر).
في زمن ابن خلدون الذي عاش في القرن الرابع عشر(1332 م – 1406 م)، لم تكن الدولة الحديثة معروفة وكان الحكم المطلق للملوك والسلاطين . لذلك فهو يقدم النصائح للحاكم الذي يطلق عليه الامير ونظام الحكم الذي يطلق عليه الامارة.
لقد دعى الحاكم الى عدم الجمع بين التثمير والامارة ، لان في ذلك مفسدة لكليهما. وهو يقصد الجمع بين الحكم وبين النشاط الاقتصادي.
فعندما يكون الحاكم تاجرا في السوق وهو الذي يشرع القوانين ، فانه سوف يشرع القوانين بشكل متحيز وبما يخدم مصالحه مما ينزع عنها النزاهة والبحث عن المصلحة العامة.لكنه شدد على وظيفة الحاكم في ضبط الاسواق ونزاهة التجارة ومحاربة الغش.
في العصور الاحدث ،نشأ اتجاهان فيما يتعلق بدور الدولة :
الاتجاه الذي يمثله الشيوعيين والفوضويين : والذي دعى الى الغاء الدولة باعتبارها حامية للمصالح الطبقية وممثلة لها ويجب الغائها بسبب غياب الطبقات وانتفاء الحاجة لدورها..احد اساتذتنا الكبار رحمه الله استخدم تعبيرا مميزا في حديثه عن الغاء الدولة بالقول: ان الدولة سوف تذوي بسبب انتفاء الحاجة الى خدماتها.
الاتجاه الذي يمثله الفكر الاقتصادي الكلاسيكي : والذي حرم على الدولة اي دور اقتصادي وحدد وظائفها بالادارة والامن الداخلي والخارجي.
وبما أن الاتجاه الاول لم يجد له تطبيقا فعليا في الحياة واستمر باعتباره مادة نظرية فقط تمثل اتجاهات فلسفية لاغير، فأن الاتجاه الثاني سيكون محور البحث فيما يتعلق بالتطورات التي حصلت فيه.
استمرت الدول الرأسمالية باعتماد النظرية الاقتصادية الكلاسيكية وادواتها لغاية الازمة التي تسمى بالكساد العظيم في الثلاثينيات. وكان من بين فرضيات الفكر الكلاسيكي الاقتصادي ان السوق وحدها كفيلة بتعديل اوضاع السوق واعادتها الى التوازن من خلال ماكان يسمى ب (اليد الخفية) وبالتالي لاضرورة لتدخل الدولة.
لكن الاحداث اثبتت ان اليد الخفية لم تعمل وتفاقمت الازمة واوشكت توقعات كارل ماركس ان تتحقق عندما قال ان النظام الراسمالي سوف ينهار بفعل تناقضاته الداخلية.
وهنا جاء التكييف من ضمن منظومة الفكر الراسمالي نفسها حينما اصدر الاقتصادي البريطاني الكبير جون ماينارد كينز كتابه المشهور : النظرية العامة للاستخدام والفائدة والنقود في عام 1936 والذي احدث تغييرا جوهريا في الفكر الاقتصادي عندما اعطى موقعا مركزيا للاقتصاد الكلي ضمن النظرية الاقتصادية.
دعى كينز ،من اجل اخراج الاقتصاد من الازمة، الى ان تتدخل الدولة عن طريق أقامة المشروعات العامة والتي تعني الانفاق العام على مشاريع البنية التحتية بشكل اساسي من اجل توفير وظائف تسحب العمال من دائرة البطالة وحصولهم على دخول تسمح لهم بالانفاق على شراء السلع والخدمات. ذلك سوف يؤدي حتما الى ارتفاع الطلب وتحريك عجلة الاقتصاد وتشغيل المشاريع المتعطلة كليا او جزئيا.
اضاف كينز الى ذلك نظرية اخرى تعرف بنظرية المضاعف الكينزي التي تشرح كيف ان الانفاق الابتدائي من قبل الدولة سوف يتضاعف كتاثير نهائي على الدخل القومي ( بموجب صيغة رياضية يمكن حسابها وتوقع النتائج عند توفر بعض قواعد البيانات الاحصائية اللازمة لذلك).
ولازالت الدول الراسمالية تتبنى المنهج الكينزي للتعامل مع ازماتها ، حيث اصدرت الولايات المتحدة في ازمة العام 2008 حزمة انقاذ بمبلغ 750 مليار دولار لغرض ضخها في الاقتصاد وانعاشه ( مع ان ميزانيتها كانت تعاني عجزا حادا نتيجة حرب ألعراق والتكاليف الباهضة لتلك الحرب ، الا انها لجأت للاصدار النقدي الذي هو مقابل مصطلح طبع العملة الذي يسود في اوساط مجتمعاتنا).
يلاحظ ان ضخ هذه المبالغ الضخمة يذهب لانقاذ الشركات الخاصة ومنعها من الانهيار مع انه يمثل دينا عاما يتحمل عبئه المجتمع باكمله.
يترافق ذلك التبني المستمر للمنهج الكينزي اثناء الازمات مع تضييق دور الدولة في مختلف القطاعات لاسيما الصحة والتعليم والنقل وشبكات ألأمان الاجتماعي.
وللحقيقة التاريخية ، فان صعود الاتجاه اعلاه الداعي الى تحديد دور الدولة والى الخصخصة، بدا بشكل فعال في العام 1980 عندما صعد اليمين الجديد ممثلا بالسيدة مارغريت ثاتشر كرئيسة لوزراء بريطانيا ورونالد ريغان كرئيس للولايات المتحدة الامريكية.
وبالعودة الى الاحداث الجارية حاليا في العالم ، نجد ان الدول الرأسمالية الكبرى والاتحاد الاوربي اعلنت عن حزم انقاذ ضخمة وصلت الى التريليونات من الدولارات من اجل تجاوز آثار الازمة الحالية التي عمقتها ظاهرة فايروس كورونا.
ومن جديد ، تعلن هذه الدول عن هذه التخصيصات مع انها جميعا تعاني من عجز في ميزانياتها ، مما يعني انها سوف تلجأ الى الاصدار النقدي مرة اخرى.
بمعنى آخر ان نظام السوق الراسمالية يستعير فكرة التدخل الحكومي ،التي تعتبر من افكار وتوجهات اليسار في العادة، لغرض الخروج من الازمة ثم العودة او الاستمرار بسياسة تقليص دور الدولة في مختلف النشاطات.
ماحصل اثناء ازمة الوباء الحالي (كورونا 19) هو انكشاف هذه الازدواجية والاصرار غير المبرر على اقصاء الدولة ممثلة بالقطاع العام عن الميادين التي تتعلق بحياة الناس ومنحها لشركات القطاع الخاص الباحثة عن الربحية.
الجانب المهم في هذه القضية هو المتعلق بصورة العالم بعد انتهاء الازمة الحالية ، لاسيما العالم الراسمالي الذي يقود العالم باكمله تقريبا من الناحية الفعلية.
لقد عانت دول كبرى كان يحسب لها حساب في ميدان التكنولوجيا والتطور العلمي والقدرات الاقتصادية من نقص حاد في مستلزمات بسيطة يمكن انتاجها من قبل دول نامية !!
امريكا وبريطانيا وفرنسا وايطاليا لاتستطيع سد حاجتها من الكمامات والمعقمات !!!
تطلبها من الصين بالملايين والمليارات وتستجيب الصين لكل الطلبات وتبدأ بالتجهيز مع حاجتها لتلك المواد لسد احتياجات عدد سكانها الهائل.
طلب الرئيس ترامب من شركات كبرى كانت تعتبر فخر الصناعة الامريكية وبموجب قانون الانتاج الحربي ان تنتج اجهزة تنفس لكنها ابلغته انها تحتاج الى عدة اشهر للبدأ بذلك.
لماذا تمكنت الشركات الصينية من الاستجابة السريعة ؟
في الاقتصاد تسمى هذه الظاهرة : مرونة الجهاز الانتاجي والقدرة السريعة للاستجابة لحاجات السوق.
هل تفتقر الشركات الامريكية الى المرونة ؟ ام انها تعتبر الانتاج الذي يطلبه الرئيس غير مجدي اقتصاديا ؟ وماذا عن التزامها الاجتماعي ؟ هل تعتقد الشركات ان عليها التزامات اجتماعية في ظل الراسمالية المتوحشة؟
الصين فيها اقتصاد خليط بين القطاع الحكومي والخاص ولكن الدولة لها حضور قوي وحاكم في المشهد الاقتصادي.
هل حققت الصين ماكان يفكر فيه الكثيرون حول نظرية الالتقاء والوصول الى نظام اقتصادي يأخذ مزايا نظام السوق ومزايا النظام المخطط ( نظام السوق-الخطة)؟؟
بعد وفاة ستالين بدأت عملية اصلاح متواضعة في الكتلة السوفيتية للاستفادة من بعض مزايا نظام السوق بعد ازالة التحريم الايديولوجي الذي فرض على استخدام ادوات السوق باعتبارها لاتنسجم مع فلسفة النظام الاشتراكي الذي كان يراد له ان يكون خطوة باتجاه النظام الشيوعي. وفي العام 1975 بدأت عملية اصلاح اوسع كان من ابرز منظريها (الاستاذ ايفساي ليبرمان) الاستاذ في جامعة خاركوف.
كانت الحجة الاساسية لدى هؤلاء ان الفكر الانساني ،بما فيه الفكر الرأسمالي، هو نهر يتدفق ومن حق الجميع ان يأخذ منه مايحتاج اليه.
وهكذا نشأ تيار فكري يتحدث ان التقاء بين النموذج الاشتراكي والراسمالي في نقطة ما بحيث يأخذ كل منهما مزايا الآخر. كان (الاستاذ كالدور) من ابرز المتحدثين عنه .
تيار الالتقاء نشأ متأثرا بالنظرية الكينزية التي دعت الى تدخل الدولة وكسر التقاليد الاقتصادية الكلاسيكية من جانب وتيار الاصلاح الجديد في المعسكر الاشتراكي ،من جانب آخر.
نجاح الصين الواضح في توفير احتياجاتها واحتياجات الآخرين من المستلزمات ،بل وحتى في ادارة الازمة، وفشل الدول الراسمالية الواضح في التنبؤ بالازمة او التصرف السريع بطريقة استباقية والتخبط في السياسات والمعالجات ، كل ذلك لايمكن ان يمر دون تاثير في طريقة تفكير الجمهور والنخب السياسية التي عليها ان تكيف خطابها وتعيد تقييم مواقفها الايديولوجية تجاه مفردات مثل القطاع العام والخصخصة ودور الدولة في ادارة النشاطات ذات العلاقة بحياة الناس المباشرة.
كيف سينعكس ذلك على مكانة اليمين في المشهد السياسي ؟ تقليديا يساند اليمين الاعتماد على القطاع الخاص والمبادرة الفردية وتقليص برامج الضمان الاجتماعي ، هل سوف يستمر اليمين في ذلك المنهج الايديولوجي؟
التجارب السابقة ترجح حصول هذا التوجه :
توني بلير طرح افكاره حول ما اسماه (الطريق الثالث) والتي استعار فيها الكثير من توجهات حزب المحافظين لان استغراق حزب العمال في افكاره التي كانت تعتبر يسارية والتي تساند القطاع العام وبرامج الضمان الاجتماعي ، لم تنسجم مع مزاج المجتمع الذي كان يميل الى قبول سياسات حزب المحافظين اليمينية.
غوردن براون رئيس الوزراء البريطاني خلال الازمة المالية العالمية عام 2009 ( وهو من حزب العمال) ، اصدر كتابا بعنوان (مابعد الانهيار) يتحدث فيه عن اسباب الازمة وظروفها ومادار من مناقشات حولها بين قادة الدول الرأسمالية الكبرى.
يقول براون في كتابه :
انا مقتنع بالحقيقة القائلة ان الاسواق تحتاج الى شيء لاتستطيع هي بمفردها ان تخلقه ، انها تحتاج الى أخلاق حميدة. الاخلاق لايمكن ان تصنعها الاسواق. انها تصنع في العوائل والمدارس والمجتمعات . انها تؤسس من قبل العادات والتقاليد والمعايير الاخلاقية. انها تروج من قبل القادة الدينيين وقواعد السلوك الموضوعة ومن قبل الآباء. انها ترتكز على وجود حس اخلاقي يتوسع باستمرار.
ويقول ايضا: نحن نتفق دائما مع من يقول ان الاسواق تعمل للمصلحة العامة ، لكننا نقول انها لاتنسجم دائما وبشكل تلقائي مع مقتضيات المصلحة العامة.
ان الخلل والخطأ ليس في السوق بل في العقيدة التي تؤمن بأن الاسواق لوحدها هي كل مانريد. الاسواق يجب ان تكون حرة ولكنها يجب ان لاتكون متحررة من القيم.
ختاما نقول :
سوف تتم مراجعة القضايا التالية بشكل مؤكد :
دور الدولة
دور القطاع العام
ثقافة الخصخصة
نمط العلاقات الدولية
سوف يتغير المشهد السياسي وتوزيع النفوذ السياسي بين قوى اليمين واليسار ضمن الدولة الواحدة.
سوف تراجع الاحزاب سياساتها وعقائدها الاقتصادية والاجتماعية.