18 ديسمبر، 2024 8:11 م

بعد قرن من الوجود -الدولة العراقية مهددة بالفناء

بعد قرن من الوجود -الدولة العراقية مهددة بالفناء

الجزء الثالث
تناولنا في الجزئين الاوليين من هذا المقال كيف أن الدولة العراقية تواجه منذ ولادتها في 1921مشاكل مع جيرانها لاتتعلق بالحدود فقط وانما بكامل وجودها فالعراق يقع بين دولتين كبيرتين – تركيا وايران – وهما وريثتان لامبراطوريتين تناوبتا احتلال أرضه خلال الفترة المظلمة من تاريخه وشهدت أرض العراق صراعا بين الدولتين للاستحواذ عليه وقد أستعرضنا في الجزء الاول جذور التهديد التركي الذي انتهى في حينه باعلان تركيا اعترافها الرسمي بالدولة العراقية في 15 آذار 1927 وتوقفنا في الجزء الثاني على الوضع في العراق بعد قيام الثورة الاسلامية في ايران و تحول الصراع بين العراق وايران الى نمط أخر أوصلت الامور الى حرب ضروس كان ضحيتها ما لايقل عن مليون انسان من الطرفين وضياع مئات المليارات من الدولارات وادخال المنطقة والعالم أجواءا لم تزل مستعرة وألقت وسوف تلقي بظلالها على التاريخ والجغرافية وقواعد الجوار.
لقد استغرقت كثيرا في تدوين ناريخ الوقائع من مصادر معتمدة من أجل وضع الاسس التي استند عليها في احتمالية ان الدولة العراقية –ولا أقصد العراق التاريخ والحضارة – يمكن أن لاتستمر نتيجة جملة من العوامل والاسباب الداخلية التي سوف نبينها في هذا الجزء ونتيجة التهديد الخارجي المتصاعد الذي تطرقنا الى بعض من أهم حيثياته في الجزئين السابقين.
ليس غريبا أن تسقط أو تختفي دول أو امارات في العالم فقد اختفت من الوجود امارة عربستان واختفى الاتحاد السوفيتي و يوغسلافيا وتشكوسلوفاكيا وتقسمت شعوبها واراضيها تحت ضغط الحرب الباردة وبسبب التداعيات الداخلية.
ما سوف يرد في هذا الجزء هو شهادة واستنتاجات استخلصتها من مطالعاتي واهتماماتي ومعايشتي للاحداث التي بدأت أعيها منذ عقد السبعينيات وهو العقد المهم في تاريخ العراق وايران والمنطقة برمتها حيث شهد صعود صدام وحرب اكتوبر وصعود اسعار النفط والحرب في لبنان وقيام نظام الجمهورية الاسلامية ومتغبرات مفصلية مهمة أخرى.
ان أهم العوامل الداخلية التي أراها تسببت في تهديد وجود الدولة العراقية هي:
اولا: أن الدولة العراقية لم تستطع على مدى وجودها من تحقيق أهم أهدافها التي رسمها جلالة الملك الراحل فيصل الاول والتي حددها بقوله ( إن البلاد العراقية هي من جملة البلدان التي ينقصها أهم عنصر من عناصر الحياة الاجتماعية ذلك هو الوحدة الفكرية والملية (الوطنية ) والدينية فهي والحالة هذه مبعثرة القوى مُنقسمة على بعضها يحتاج ساستها الى ان يكونوا حُكماء مدبرين وفي عين الوقت أقوياء مادة ومعنى غير مجلوبين لحسابات أو اغراض شخصية أو طائفية متطرفة يداومون على سياسة العدل والموازنة والقوة معا وعلى جانب كبير من الاحترام لتقاليد الاهالي لاينقادون الى تأثيرات رجعية أو الى أفكار متطرفة تستوجب رد الفعل) لذلك لم تنجح الدولة في التأسيس المادي للهوية الوطنية العراقية وتأسيس مجتمع المواطنة العراقي بدلا مجتمع المحميات العشائرية أو الدينية أو المذهبية أو القومية أوالإثنية.
ثانيا: رغم أن قانون تأسيس الاحزاب السياسية في العراق قد صدر عام 1922 لكن العراق لم يشهد وجود واستمرار حزب قوي على أسس وطنية عراقية يمتلك قاعدة فكرية وجماهيرية وتاريخ يمتد مع عمر هذه الدولة ورغم نشوء مئات الاحزاب في العراق ومعظمها كانت للعوائل او النخب وانتهت في مرحلتها فأن الاحزاب التي هيمنت على المشهد السياسي واستمرت الى اليوم هي الحزب الشيوعي ذو الامتدادات الاممية وحزب البعث العربي القومي والاحزاب الاسلامية السنية التي جذورها خارج العراق (الاخوان المسلمين أو مايسمى الان الحزب الاسلامي) أو الاحزاب الاسلامية الشيعية المؤمنة والمرتبطة بشكل أو بأخر بنظام ولاية الفقيه.
ثالثا: ابتدأ الملك المؤسس فيصل ببناء الجيش بمساعدة عدد من الضباط الذين كانوا يخدمون في الجيش العثماني وفي الجيش العربي الهاشمي وأهتم بذلك اهتماما كبيرا لحفظ البلد من العدوان الخارجي واستخدمه ايضا لقمع حركات التمرد والانتفاضات التي شهدها العراق ورغم نبوغ الملك في الجوانب المهمة الاخرى واهتمامه بالقطاعات والفعاليات الاقتصادية والتربوية والصحية والاجتماعية التي كان يؤازره فيها الانكليز الا أن اهتمامه بالجيش الذي تولد من خلفية الملك العسكرية قد تسبب في نشوء مؤسسة عسكرية أصبح لها اليد الطولى في الحياة السياسية للبلد وزعزعت النظام الملكي في انقلابين قبل أن تنقض عليه في 14 تموز 1958 وتنهي الحياة الدستورية -على علاتها – التي كان ينعم العراق بها وتدخل البلاد في نفق مظلم انتهى بالنظام الدكتاتوري الذي وضع البلد على حافة الهاوية وسلمه للاحتلال الامريكي عام 2003.
لست هنا في محل التقليل من عظمة الجيش العراقي البطل الذي خاض أشرف المعارك لحماية العراق والذي بقي محافظا على شرف البطولة والجندية وبقي المؤسسة الوحيدة التي جمعت العراقيين بكامل أطيافهم ولكن كان من الضروري أن تكون تلك المؤسسة بعيدة عن الخوض في أمور الحكم و السياسة .
رابعا: ان الحكومات التي جاءت بعد 14 تموز1958 لم تقدم لهذه الدولة عناصر المنعة والقوة بسبب الصراع على السلطة وان صعود صدام الى واجهة الحكم في العراق عام 1979والذي جاء على دماء رفاقه الذين احتلوا القصر الجمهوري في 17 تموز 1968 قد وضع العراق في أخطر مرحلة من تاريخه فصدام لم يكن مؤهلا أصلا لمثل هذه المسؤولية الكبيرة ورغم المنهج الاستفزازي التي اتبعه نظام الجمهورية الاسلامية في ايران فقد كان يمكن تجنب الحرب معها بالوسائل الديبلوماسية والسلمية وان تكرار العدوان على دولة الكويت في اب 1990 لآسباب واهية وما تبعه من تدمير لامكانيات العراق في حروب مدمرة وحصار دولي تسبب في هدم كثير من قيم البنية المجتمعية ينم عن عدوانيته المتأصلة وهوسه بالاعلام والنجومية التي كان يريدها أن تعوضه عن حياته البائسة والمهمشة.
لقد جاء الاحتلال الامريكي في نيسان 2003 ليدمر بنية الدولة العراقية بالتعاون مع الدول المعادية أوالمتضررة من نظام صدام بشكل مباشر وهي ايران والكويت وتحقيقا لارادة اسرائيل في اخراج العراق من معادلة الصراع العربي الاسرائيلي.
خامسا: تعد قضية الكرد في العراق واحدة من أهم الاسباب التي أضعفت ولازالت تضعف الدولة العراقية عبر تاريخها الحديث وقد لخص الملك المؤسس ذلك بالقول (ان العراق مملكة تحكمها حكومة عربية سنية مؤسسة على أنقاض الحكم العثماني .وهذه الحكومة تحكم قسما كرديا أكثريته جاهلة، بينه اشخاص ذوو مطامع شخصية يسوقونه للتخلص منها بدعوى انها ليست من عنصرهم) وقد أثبتت السنوات اللاحقة والى يومنا هذا صحة ما أدركه الملك فيصل ولقد تمكن ذوو المطامع الشخصية من بتاء مجدهم وسلطانهم وثرواتهم على حساب هذه الدولة.
سادسأ : ان العملية السياسية التي جرت في العراق بعد الاحتلال الامريكي وقامت على اسس طائفية وعرقية قد تناغمت تماما مع ارادة القوى والدول التي تريد اضعاف الدولة وان الاحزاب المهيمنة على المشهد السياسي ليس في برامجها ما يدعم بقاء هذه الدولة بعد أن تكالبت على نهب ثرواتها وتسببت في النزاعات الطائفية ومهدت لقيام حرب أهلية وأضعفت المؤسسة العسكرية ولعل الفترة الثانية من حكم المالكي (2010 -2014 ) -وهذا الرجل لم يكن يمتلك أية مقدرة تصب في مصلحة الدولة ووجودها بقدر اهتمامه بحياكة المؤامرات وضرب قواعد اللعبة الديمقراطية والاحتفاظ بكرسي السلطة للابد – قد مثلت أسوأ مامر على الدولة العراقية في تاريخها من وهن وفساد الى الحد الذي اختفت مليارات الدولارات دون حساب وانهارت القوات العراقية وتركت مواضعها امام حفنة من المجرمين وشذاذ الافاق والذين تلقوا دعما من تركيا واسرائيل وغيرهما ووصل التهديد الى بغداد لولا صدور فتوى الجهاد الكفائي المباركة التي عبأت العراقيين للوقوف بوجه داعش ودحرها بعد قتال مرير.
سابعا: أفرزت مرحلة ما بعد القضاء على داعش هيمنة قوى دينية وسياسية تعمل بشكل واضح وعلني لها ارتباطات عقائدية أو مصلحية مع دول الجوار وتتحكم بمقدرات الدولة وقراراتها ولها أذرع مسلحة ونشاطات اقتصادية واجتماعية وهي لا تجد حرجا في تبني منهج الولاء هذا وقبول التدخلات االخارجية في القرار العراقي بل أنها أصبحت جزءا من قوات تلك الدول وتخضع لاوامرها كما تسبب ظهور داعش تواجد لقوات تركية مسلحة نظامية تقيم في معسكرات داخل الاراضي العراقية.
ان ما يحمي وجود الدولة العراقية الان -وبعدما تم تهميش دور أبناءها الحريصين على وجودها-هو الميثاق الدولي وسلطة مجلس الامن والنظام العالمي الحالي الذي يوجب احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها وأن أية هزة تزعزع أو تطيح بهذا النظام – ولعل وباء كورونا سيكون واحدا منها – سوف توفر فرصة ذهبية للقوى الاقليمية المتربصة بالعراق لافتراسه وتقاسمه تحت حجة حماية المكونات التابعة لها بعدما أوجدت هذه الدول قواعد وقوى وتنظيمات عسكرية ومريدين لها في العراق وصرحت بعضها بشكل واضح جلي عن اهدافها أو لمحت الاخرى عن ذلك ومنها من تتربص بالخفاء.
واذا كان ابراهيم عليه السلام قد قال (ان للبيت رب يحميه) فاننا نقول ان هذا البلد هو أرض الانبياء وأهل بيت الرحمة وفيه شعب عظيم لن يتوانى بالتضحية في سبيل دولته ونظامه الوطني الحر المستقل وسوف ينصره الله ويحفظه من كل سوء مادام أبناؤه يحملون الوعي لادراك التحديات والقوة لمواجهة االمتربصين.