23 ديسمبر، 2024 12:55 م

بطل ملحمة بلاد الرافدين ومحاربها العنيد: جِلجِمَش ام جِحش الجِحمَش؟

بطل ملحمة بلاد الرافدين ومحاربها العنيد: جِلجِمَش ام جِحش الجِحمَش؟

رغم ان ملحمة جلجمش كانت قد نقلت على الاغلب من قصص سومرية سبقت عام 2100 قبل الميلاد، الا اننا لم نكتشف حتى الان هذه الملحمة بلغة سومرية. فجميع النسخ المكتشفة حديثا، وهي تعود لما بين 50 الى 2100 قبل الميلاد، كانت بلغة الاكديين. ولفهم لغة الاكديين في النقوش لابد ان يكون القارئ على اطلاع وافي بالعربية الفصحى، وان يكون ذو المام مناسب باللهجة العراقية. فبناء لغة متكَهّنة ومعتمدة كليا على النقوش، مثله مثل تشيد قصر من الرمال. ويمكننا الاشارة هنا الى ان البروفسور علي الجبوري، رئيس قسم الاثار في جامعة الموصل واحد الخبراء المعاصرين المعروفين في دراسات اللغة الاكدية والدراسات السومرية، قام مؤخرا باصدار اشمل قاموس عربي للاكدية، اعتمد فيه كليا على مفردات قاموس شيكاغو الاشوري (قاموس اللغة الاكدية – العربية. هيئة ابوظبي للثقافة والتراث. 2009). وفي مقدمة هذا القاموس وضح الجبوري صائبا الى ان الاكدية هي اقرب اللغات القديمة للعربية. ثم وضع علامة على كل كلمة اكدية لا زالت مستخدمة بنفس المعنى في العربية المعاصرة، وكان مجموع هذه الكلمات حوالي 1700 كلمة! وهذا العدد الكبير من الكلمات اكبر بكثير من عدد الكلمات السريانية (حوالي 300 كلمة) والتي تم استخلاصها من السريانية الحديثة من قبل بعض علماء اللغة السريانية، لاثبات ان لغة الاكديين كانت اللغة السريانية القديمة. وما لم يشير له الجبوري في قاموسه (ربما لعدم معرفته)، ان معظم بقية الكلمات في هذا قاموسه المعتمد على قاموس شيكاغو الاشوري هي كلمات عربية ايضا انقرض استخدامها منذ حقب زمنية طويلة الا انها سجلت لحسن الحظ في المراجع اللغوية العربية التأريخية المتوفرة لدينا اليوم والعائدة الى مابين عامي 800 و 1300 الميلاديين، والتي احتوت على معان واشتقاقات غير مدرجة في القواميس العربية الحديثة. ومن ضمن هذه المراجع التأريخية:
لسان العرب لابن منظور
مقاييس اللغة للقزويني
الصحاح في اللغة للجوهري
القاموس المحيط للفيروزآبادي
العباب الزاخر للصغاني

وبخصوص اللغة السومرية، فهي لا زالت وحتى يومنا هذا رهن التكهنات الانثروبولوجية، وستبقي كذلك لفترة طويلة قادمة، في رأي الشخصي. اما تسمية المختصين لها “اللغة المعزولة” او “اللغة المجهولة المنشئ” واشارتهم الى عدم معرفة مصدرها فهذا موضوع قابل للجدال. وحتى لو كانت اللغة السومرية منفصلة كليا عن العربية، فان الحقيقة التي يتوجب علينا معرفتها ان هذه اللغة لم يتم استنباطها وتركيب مفرداتها حديثا الا من خلال دراسة مفردات واصوات حروف لغة الاكديين العربية. بكلمة اخرى، فان اللغة السومرية هذه هي “نتاج” مباشر لدراسات اللغة الاكدية. لذا فان فصل اللغتين او البحث في اللغة السومرية كمصدر اساسي لاشتقاق الكلمات الاكدية عمل غير مجدي علميا.
في كتابي عن الدلائل النقشية للعربية الفصحى قبل الاسلام، وقبل قراءتي وترجمتي لنص عمود واحد من اكثر من 70 عمودا في “ملحمة جلجمش” قمت بالتحقيق في معنى اسم “جلجمش”، وهذا موضوع جاءت فيه جدالات عديدة. وحسب هذه الملحمة كان بطلها، جلجمش،  رجلا ضخما وقويا. بل وحتى ان البعض يعتقد ان نصفه كان إلها. اما صاحبه إنكيدو فقد كان شبيها له بالشكل الا انه كان اصغر حجما منه حسب هذه الملحمة. وبناءا على ذلك لوحده فاني اعتقد ان اي متمعن بشؤون العراق وشعبه ولهجاته المتميزة باستخداماتها الصوتية الخشنة، لا يمكن ان يتصور ولو للحظة ان اسم هذا البطل كان اسما رقيقا كالاسم “كلكامش”. فهذا الاسم اقرب لاسم فرنسي اوربي منه لاسم عراقي عربي! والاهم من كل ذلك فان هذا الاسم لا يتطابق مع اوصاف بطل الملحمة.
وقبل البدأ بتحليل معنى “جلجمش” اود ان اشير هنا، وبناءا على ملاحظات البروفسور الجبوري وخبرتي الشخصية في قراءة النقوش الاكدية، ان الاكديين قامو بالتعويض كتابيا عن جميع اصوات الحروف العربية التي لم تتضمنها رموز المسمارية السومرية، وهي الحروف: أ ع غ ح هـ ض ظ ث ذ، عبر استخدام رموز حروف العلة في المسمارية، والتي نقلت  لنا حسب استنساخ المستشرقين بصيغة الحروف اللاتينية ā â ē ī ū وخاصة ē، او عبر استخدام اصوات حرفية مقاربة غير معتلة  للتعويض عنها.
وحسب الحقائق التأريخية فان اسم جلجمش في اللوائح البابلية القديمة (حوالي 2100 قبل الميلاد)  كان Giš ، بينما اصبح هذا الاسم لاحقا في اللوائح الاشورية (حوالي 1000 قبل الميلاد) Giš-gím-maš. وهذا يعني ان اسمه الفعلي كان Giš بينما كان المقطع الثاني gím-maš كنية او صفة له. وبعد الرجوع الى المئات من امثلة الكلمات الاكدية التي تم فيها استخدام  رمزالحرف “í” للتعويض عن حرف الحاء حسب ملاحظات الجبوري وخبرتي الشخصية، فان كلمة المقطع الاول من الاسم هي بوضوح “جِحْشْ” من الجذر العربي “جحش” وذلك بمعنى “المدافع” او “المحارب” او “القوي”، وهذا الاسم كان اسما عربيا شائعا قبل الاسلام. وقد ادرجت مصادر العربية القديمة امثلة عديدة على استخدامه. بل وحتى يومنا هذا يصف العراقيون الرجل القوي بكلمة “جِحش”:

جحش (لسان العرب)
الجَحْشُ: ولدُ الحمار الوحشيّ
وجَحَشَ عن القوم: تَنَحّى،
وجاحَشَ عن نفسه وغيرها جِحاشاً: دَافَعَ.
كُنْتُ أُجاحِشُ أَي أُحامِي وأُدافعُ.
والجِحاش أَيضاً: القتال. ابن الأَعرابي: الجَحْشُ الجهاد، قال: وتُحَوّلُ الشينُ سِيناً: وأَنشد: يَوْماً تَرانا في عِرَاكِ الجَحْشِ، نَنْبُو بأَجْلال الأُمُورِ الرُّبْشِ أَي الدَّواهِي العِظام.
وقد سمَّوا جَحْشاً ومُجاحِشاً وجُحَيشاً.
وبنو جِحاش: بطنٌ، منهم الشمّاخ بن ضِرار. الجوهري: جِحاشٌ أَبو حَيٍّ من غَطَفان، وهو جحاش بن ثَعْلَبة بن ذُبْيان بن بَغِيض بن رَيْث بن غَطَفان. قال: وهُم قوم الشماخ بن ضِرار؛ قال الشاعر: وجاءت جِحاشٌ قَضُّها بقَضِيضِها، وجَمعُ عُوالٍ، ما أَدَقَّ وأَلأَما
جحش (الصّحّاح في اللغة)
وجاحَشَهُ: أي دافعه.
والجَحيشُ: المتنحِّي عن القوم.
جحش (مقاييس اللغة)
وكلمةٌ أخرى: جاحَشْتُ عنه إذا دافَعْتَ عنه.
قال الأعشَى:وأمّا الجَحْوَشُ، وهو الصبيُّ قبل أن يشتدّ، فهذا من باب الجَحْش، وإنّما زيد في بنائه لئلا يسمَّى بالجَحْش،
الجَحْشُ (القاموس المحيط)
وهو جُحَيْشُ وحْدِه، كزُبيرٍ: مُسْتَبِدٌّ بِرَأْيِهِ، لا يُشاوِرُ الناسَ، ولا يُخالِطُهُمْ.
وجَاحَشَهُ: دافَعَهُ.
وزينبُ أُمُّ المؤمنينَ وأخَواها عبدُ اللهِ وعبدٌ بنو جَحْشِ بنِ رِئِابٍ،
جحمش (لسان العرب)
الجَحْمَش: الصُّلب الشديد.

اما كلمة المقطع الثاني gím-maš التي اضيفت لاحقا في اللوائح الاشورية، فقد كانت حتما صفة او كنية. اذ ان الاسترسال والتكرار كانا من سمات الكتابة الادبية في ملحمة جلجمش في العصور الاكدية المتأخرة. و هذه الكلمة في اعتقادي هي من كلمة “جحمش” او “جمش” او “جمس”، وجميعها تحمل نفس المعنى حسب المراجع العربية التأريخية الا وهو “العنيد”، او “الصلب”. علما ان استخدام عرب شمال الجزيرة لرمز حرف الشين  بدلا من حرف السين كانت ظاهرة سائدة ليس فقط عند الاقوام الاكدية وانما جميع الاقوام النبطية الاخرى. لاحظ ان الحرف الثاني المستخدم في هذه الكلمة  كان “í” وليس “i”. اذاستبدل الاكدييون حرف الحاء باحد الاصوات المقابلة ī ē í ولدينا العديد من الامثلة على ذلك.

جحمش (لسان العرب)
الجَحْمَش: الصُّلب الشديد.
وامرأَة جَحْمَش وجُحْموش: عَجُوز كبيرة.
جمش (لسان العرب)
الجَمْش: الصَّوتُ.
يقال لِلَّذي لا يَقْبَل نُصْحاً ولا رُشْداً،
جمس (لسان العرب)
وجَمَس وجَمَدَ بمعنى واحد.
ودَمٌ جَمِيسٌ: يابس.
وصخرة جامسة: يابسة لازمة لمكانها مقشعرّة.
والجُمْسَةُ القطعة اليابسة من التمر.
والجُمْسَةُ الرُّطَبَة التي رَطُبَتْ كلها وفيها يُبْسٌ. الأَصمعي: يقال للرُّطَبة والبُسْرَة إِذا دخلها كلها الإِرْطابُ وهي صُلْبَة لم تنهضم بَعْدُ فهي جُمْسَة، وجمعها جُمْسٌ.
وفي حديث ابن عمير: لَفُطْسٌ خُنْسٌ بزُبْدٍ جُمْسٍ؛ إِن جعلتَ الجُمْسَ من نعت الفُطْسِ وتريد بها التمر كان معناه الصُّلْبَ العَلِكَ، وإِن جعلته من نعت الزُّبْد كان معناه الجامد؛ قال ابن الأَثير: قاله الخطابي، قال: وقال الزمخشري الجَمْسُ، بالفتح، الجامد، وبالضم: جمع جُمْسَة، وهي البُسْرَة التي أَرْطَبت كلُّها وهي صُلْبَةٌ لم تنهضم بَعْدُ.
والجامُوسُ: نوع من البَقر، دَخيلٌ، وجمعه جَوامِيسُ، فارسي معرّب، وهو بالعجمية كَوامِيشُ.

بالرغم من ان الكلمة gím-maš قريبة صوتيا من كلمة “جاموس” بمعنى “ثور”، وهي كلمة فارسية الاصل من “كَوامِيشُ”، الا ان قربها هذا قربا مخادعا. ربما صور الاكديين لاحقا جلجمش بثور ذو رأس بشري، الا ان ملحمة جلجمش كانت قد اشارت بوضوح  في العديد من احداثها الى ان جلجمش كان انسانا. اما تشبيه قوته وعناده بقوة وعناد الثور في بعض مقاطع الملحمة فذلك تشبيه ادبي لا غير. 

اعتمادا على تحليلي اعلاه، فانني اعتقد ان الاسم جلجمش كان اسما مركبا بمعنى “المقاتل العنيد” او “المقاتل الصلب” او “المقاتل العظيم”، وقد نُطق في البداية “جِحْشِجِّحْمَش” بما يوازي في العربية الحديثة “جِحْشْ الجِحْمَش”. اذ وبرغم استخدام العرب لال التعريف منذ القدم، الا انهم لم يكتبوها الا عند نطقها كاملتا، كما هو واضح في نقوش النبطية والمسند. وعموما وضعت الهمزة او اللام لوحدهما حسب نطق هذه الكلمات ضمن الجملة. وكل ذلك ليس بغريب لان نظام الكتابة العربية لم ينضج كليا ولم يمثل اللغة العربية بدقة حتى اضافة الحركات ابان العصر الاسلامي. ادناه اشتقاقي التفصيلي لاسم جلجمش: 

Giš: جحشْ
gím-maš: او جِحْمَش جِمَش
Giš-gímmaš: جِحْشِجِّحْمَش جِحْشِجِّمَش او
جِشِّجِّحْمَش       او جِشِّجِّمَش

واعتمادا على ملاحظة اخرى للبروفسور الجبوري، يبين فيها ان الاكديين قامو بادغام حرف الشين الساكن في العديد من الكلمات عند نطقها مع حروف معينة، الى حرف اللام، وذلك في اللغة البابلية المتأخرة (اي في الفترة الاشورية):

شين ساكنة + حرف سني  >  تقلب النون الى لام + الحرف السني

ištakana > iššakana > iltakana
išdu > ildu
išṭur > ilṭur
išši > ilši

وحسب لسان العرب فان “الجيم والشين والضاد ثلاثة في حيز واحد، وهي من الحروف الشجرية، والشجر مفرج الفم”. وشجرة الفم هي مقدمة الفم (حروف سنية) وبذلك يمكننا تطبيق الملاحظة اعلاه مع هذه الحروف.
وبعد تطبيق الملاحظة اعلاه واستخدام المراجع العربية التأريخية لفهم معاني الكلمات، نستطيع بسهولة تفسير كيفية تحول  اسم “جِحْشِجِّحْمَش” الى “جلّجِحْمَش”، او كيفية تحول الاسم “جِحْشِجِّمَش” الى “جلّجِمَش”. اذ انني اعتقد ان هذا الاسم المركب تغير ابان الفترة البابلية المتأخرة في طريقين، اعتمادا على طبيعة الكلمة الثانية: جِحْمَش او جِمَش. ومن المهم الاشارة هنا الى ان الاشتقاقين ادناه يعتمدان حقائق اللغة الاكدية والمصادر العربية التأريخية، فهما ليسا تكهنات لغوية شخصية:
Jiḥshi-jimash > Jishshi-jimash > Jilli-jimash > Jil-jimash
Jiḥshi-jiḥmash > Jishshi-jiḥmash > Jilli-jiḥmash > Jil-jiḥmash

جحشِ جِّمَش > جِشِّ جِمَش > جِشِّجِمَش > جِلّجِمَش > جِلجِمَش
جحشِ جِّحْمَش > جِشِّ جِحْمَش > جِشِّجِحْمَش > جِلّجِحْمَش > جِلجِحْمَش
 
وكخلاصة لما ذكر اعلاه فان اسم بطل الملحمة كان تأريخيا، وحسب اللوائح البابلية الاولى، الاسم “جِحش” لوحده بمعنى المحارب. ثم اصبح لاحقا في العهد البابلي الاشوري “جِحش الجِحمَش” او “جِحش الجِمَش” او “جِحش الجِمَس” وجميعها بمعنى “المحارب العنيد” في اللغة العربية القديمة. وقد كتب الاسم في اللوائح الاشورية وبعد ترجمتها بالحروف اللاتينية “جِشجِمَش”. وفي مرحلة متأخرة قلبت الشين لاما واصبح الاسم “جِلجِمَش”.

ولدعم صواب اشتقاقي و قراءتي اعلاه، اود الاشارة هنا الى حقيقتين هامتين. حسب العالم العراقي طه باقر، احد ابرز المختصين بالسومرية والاكدية، فان بعض النصوص الأكدية ذكرت ان معنى الاسم جلجمش هو “المحارب الذي في المقدمة” اي “محارب الصف الاول” (ملحمة جلجمش: اوديسة العراق الخالدة. ص 19).  في اعتقادي ان المصادر الاكدية التي اقتبس منها باقر كانت صحيحة لان لسان العرب ذكر ان احد معاني كلمة “جحش” كان “المدافع” اي بكلمات اخرى، “المقاتل” او “المحارب”.

اما الحقيقية الثانية التي تدعم تفسيري ايضا فهي ان بعض اللوائح البابلية كانت قد استخدمت الاسم dGish-bil-ga-mesh  او الاسم  dGish-bíl-gi-mesh كاسماء بديلة، عند اشارتها لجلجمش. وبذا يمكننا نسخ الاسمين حرفيا وبسهولة الى الاسم العربي “جحشِبالجِّحْمَش”، اي بالعربية الحديثة “جحش ابي الجِّحْمَش”. وهذا الاستخدام، اعني اضافة “ابو” لاشتقاق الالقاب، هو استخدام عربي شائع، يبالغ بممارسته العراقيون حتى اليوم. وهو يؤكد ما ذهبت اليه اعلاه من ان المقطع الثاني من الاسم كان كنية او صفة لا غير.

مرة اخرى، اثبتت الدلائل المادية قبل كل شيء ان لغة الاكديين كانت لغة عربية بوضوح. فمراجع العربية الفصحى هي المراجع الاساسية لفهمها وتحليلها. اذ ان اهمال استخدام هذه المراجع سيؤدي بالضرورة الى ضياع الفرص البحثية العلمية الحقيقة لدراسة هذه اللغة، والى نتائج خاطئة. فالمراجع العربية الاشتقاقية التأريخية هي افضل المراجع اللغوية لتفسير واشتقاق الكلمات الاكدية لانها احتوت على كم هائل من المعلومات القيمة التي حفظت الخبرة اللغوية في الجزيرة العربية، بما فيها الهلال الخصيب، لالاف من السنين.