23 ديسمبر، 2024 7:03 ص

بصريو البصرة أم بصريو العراق

بصريو البصرة أم بصريو العراق

من أجل تبديد أي التباس قد ينشأ في ذهن القارئ بعد مطالعته العنوان أعلاه، أرى من الضروري التنويه على أن صاحب المقال ليس بصدد التعريض بوطنية أحد، بل هو لا يجد لنفسه ولا لغيره، كائنا من كان، الحق في ذلك.
قبل أيام طالعت مقالا لناصر الحجاج تحت عنوان (بصريو البصرة هذه المرة)، ثم تلاه مقال آخر لطالب عبد العزيز كتبه في نفس المحور أسماه (بصريو البصرة: إلى ناصر الحجاج). المقالان يتناولان الأوضاع المجتمعية الحاضرة للبصرة، وما تشهده المدينة ـ بحسب ما يذهبان إليه ـ من “مخلَّفات” موجة نزوح المحافظات المجاورة (وهما لا يسميان هؤلاء النازحين) إليها؛ من منافسة “النازحين” لهم في فرص العمل، وتشويههم لتقاليد المدينة وقيمها الحضارية.
كتب ناصر الحجاج: البصريون “مهددون” بالانقراض، الوافدون يشكلون “خطرا حقيقيا” على هوية المحافظة اجتماعيا واقتصاديا وعمرانيا. ثم ينهي مقاله (مستندا كما يقول إلى علم الاجتماع) بالإشارة إلى محاباة الموظف الحكومي “الوافد” لأبناء جلدته [وهو يقصد هنا طبعا: الوافدين الآخرين] كنوع من التعويض النفسي لما يعانيه من “شعور بالنقص” أمام صاحب الأرض [وهم بكل تأكيد: بصريو البصرة]. مطلقا نداء استغاثة: (فلنبدأ بحل هذه المشكلة دستوريا قبل استفحالها).
أما طالب عبد العزيز، فهو يرى أن ما يجري اليوم في البصرة من استخدام للسلاح في فض الخصومات، وما يعانيه أهلها من أزمات اجتماعية تخلو منها حتى أمسها القريب (يطرح تساؤلات حول طيبة المدينة وروحها المسالمة التي عرفت بها). إننا ومنذ عام 2003 أمام (بصرة مختلفة). بصرة تفتقر ـ إذا ما عكسنا مآثر البصرة كما يسردها طالب ـ للتركيبة السكانية المنضبطة، والتركيبة الطائفية المتوازنة، والنظافة واللطافة والجمال .. و(المجتمع المخملي) كما يصطلِح. ينقل طالب عبد العزيز في مقاله بعض أقوال صديقٍ “خصيبي” له يصفه بـ “المتسامح جدا” أنه (أي الخصيبي) يجد أن (الحروب والحصار والأزمات انعكست سلباً على طبيعة السكان)، وأنه (لا يسمّي أحداً من الذين غيروا طبيعة الحياة في المدينة)، في حين نصادف أن هذا الخصيبي نفسه يقترح في نهاية المقال حلا للأزمة يتمثل بـ”قوانين للهجرة” (تحدد طبيعة الإقامة والسفر والسكنى الدائمة بما فيها التمليك والحصول على البطاقة الشخصية وغيرها)! والسؤال هنا: من هو هذا الخصيبي الخفي؟ هل هو المتسامح جدا الذي يلقي باللائمة على ظروف الحروب والحصار والأزمات؟ أم أنه الخصيبي الملاحق بأسئلة طالب نفسه حين يستجوبه عن مُحدِثي السلب والنهب والتخريب في يوم التاسع من نيسان عام 2003؟ هؤلاء اللذين يقول عنهم طالب إن: (الله ورسوله والحكومة والعشائر و”الناس جميعاً” أعلم بهم، ومن هم ومن أين جاءوا؟). وأيَّاً كان صاحب الأقوال الحقيقي فإن طالب عبد العزيز لا يخفي قبوله للحل المقترح من قبل هذا الخصيبي، واصفا إياه بالحل “المنطقي والحكيم”، الذي (لا يقصد منه التضييق على أحد، ولا النيل من شخصيته، بل من أجل “حماية” سكان المدينة الأصليين، و”الحفاظ” على هوية المدينة).
لقد حرصت على تلخيص أفكار المقالين (أنبِّه: كل التنصيصات السالفة وضعتها أنا ولم ترد في متن المقالين)، مع علمي أن بوسع القرَّاء العودة لهما بسهولة، لكي أوضح النقاط المشتركة بينهما في تصور المشكلة وحلها، ولكي أحدد ـ ثانيا ـ صلب ما أختلف فيه معهما، وأعدّه أمرا خطيرا يجب التبيه عليه. كان من الممكن أن أكتفي بالتعليق الذي وضعته (باسم مستعار) أسفل مقال طالب عبد العزيز في موقع صحيفة المدى فيما لو نشر؛ إذ ليس غرضي أكثر من بيان وجهة نظر مغايرة لتلك الأفكار، والإشارة إلى خطورة الاتجاه الذي تسلكه في فهم المشكلات التي نعاني منها وسبل الخلاص منها، ولكن حيث إن “المعنيين” آثروا ـ لسبب من الأسباب ـ عدم فعل ذلك، فإنني أجد نفسي مرغما على إعادة نشره، مستقلا هذه المرة وباسمي الحقيقي. لا سيَّما بعد إصرار صديق عزيز عليَّ (وهو ليس من البصرة ولا بصرييها) على ذلك؛ لاعتقاده أنه يشكل رأيا مختلفا يصدر عن شخص من صميم من يسمون بـ”بصريي البصرة”.
والآن! أين أختلف تحديدا مع ناصر وطالب؟ ما الخطورة في حديث المرء عن مدينته وحبه لأن تكون أفضل مما هي عليه؟ أليس العالم يعج بنقد التحديث العمراني الذي يهدد المعالم الأثرية للمدن؟ ألسنا نسمع كل يوم شكاوى الناس وهم يتذمرون بحرقة من الأقليات الوافدة التي تنذر أعدادها المتزايدة بزوال التقاليد المتوارثة لدى السكان الأصليين؟ هل يخفى علينا نقد الفرنسيين للعرب المغاربة، والبريطانيين للجاليات المسلمة، والأمريكان للآسيويين والأفارقة؟ وماذا عن قوانين الهجرة الصارمة وقرارت اليونسكو بحفظ التراث؟ أليس كل ذلك يدعم هذا التوجه ويزيده تماسكا ومشروعية؟! والبصرة! هل يشك أحد بأنها تغيرت كثيرا عما كانت عليه؟ حتى الذين رأوها في أحلك أزمانها ظلاما، زمن الحرب مع إيران، وبعد غزو الكويت والانتفاضة وأيام القحط الكبير في التسعينات، يتفاجؤون حين يرونها اليوم!! قد يكون الوجع غلب البصريين فلم يعودوا يشعرون بهول ما حل بهم، ولكن ماذا نفعل بشهادة الأصدقاء الذين تُجمع كلمتهم على أن الخراب يلم بالبصرة من جميع الجهات وأن الكثير من تقاليدها الراقية تكاد تؤول للزوال؟ أليس من حق من عاين “قبل خراب البصرة” أن يقول كلمته للأجيال اللاحقة عن خرابها، أن يحذر وينبِّه ويوقظ، وهو الذي لا يشك أحد في حبه حد الجنون لكل شيء بصري حتى الظلام؟
لا أنكر أنه في كل مرة يتم الحديث فيها عن البصرة أخال وكأنَّ المتحدثين يصفون وجه “أمي”!! لا يسعني أن أسمع عبارة فيها ذكر للبصرة دون أن يستيقظ المارد في مخيلتي، يقذفني وسط السدر والبمبر والتكِّي والخِرِّيط، في أنهار شط العرب “الصغير” حيث كنا نتسلق النخيل ثم نطوِّح بسعفاته أنفسنا في وسطه، حين نفر هاربين بعد سرقة العنب من أقرب بستان نصادفه ونحن عائدون لبيوتنا .. عائدون وشتائم صاحب البستان “جارنا الأبدي” تلاحقنا دون أن يسيئنا ذلك!! فالشتيمة، حتى الشتيمة، لا تعرف البغضاء في البصرة. يالله والبصرة!! كم هي عذبة ورقيقة وخلاقة هذه المدينة!!
كل ذلك مما لا أختلف مع بصريي البصرة بشأنه، ولكني أتساءل منهجيا:
– هل الظواهر الاجتماعية تجد تفسيرها في الأسس المادية (من اقتصاد وسياسة وما يتفرع عنها من مناهج في التعليم وسن القوانين) أم في الأفكار والقيم والآداب الوافدة؟ وحتى من يجد في التأكيد على القوى المنتجة والصراع الطبقي حديثا مبتذلا، أو فارغا في ظل مجتمعات تخلو من شرارة “فاضل القيمة” الذي يشعل فتيل الصراع والتغيير، فإن عليه أن يختار: هل أن وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم الاجتماعي أو أن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم؟ حينها إما أن يصطف مع المثالية وإما ينقاد مع الواقعية.
وبعبارة أوضح: هل الأصح في الحديث عن أزمة البصرة هو الحديث عن حروبها وفقر بنيتها التحتية وانعدام فرص العمل وتخلف مناهجها التعليمية أو إلقاء اللوم على الوافدين إليها وسلوكهم غير الحضاري؟ وبالعودة إلى علم الاجتماع الذي استند إليه ناصر في تفسير ظاهرتي التعصب والمحاباة لدى “الوافدين” أليس الأصح في هذا الشأن الإشارة إلى أزمة الاندماج التي تحدث عنها دروكايم؟ ألم يعلّق الآن تورين وصف المجتمع بـ “المدني” على مدى قدرته على استيعاب أشد العناصر غربة عنه وصهرها في بوتقته، ألا يعني أن غياب “المجتمع المدني”، أي افتقادنا للشروط المادية التي تخلقه، يقود إلى التسبب بديمومة هذه الظواهر؟
إن شعور البصريين (كغيرهم من العراقيين) بالعار من أعمال النهب والتخريب التي طالت مدينتهم في ساعة الصفر من نيسان عام 2003 يدفعهم لتعليقها على الآخرين “أولئك الوافدين الطارئين”، وهو سلوك نفسي تنصلي دفاعي لا شك فيه! حين يقال عن هؤلاء المخرِّبين المتخيَّلين: (والناس جميعاً أعلم بهم) تُحسم المشكلة حتى قبل النظر فيها ويتحول جواب ذلك الخصيبي الطيب نافلا. إنه جواب تغذيه العقد المناطقية، وليس حلا منطقيا ولا حكيما. إنه حل مأزوم ضغائني يتغافل مكتسبات العقلانية في تشخيص المشكلة الاجتماعية المتمثل بإرجاعها إلى قواعدها المادية. حلٌ يتناقض مع الروح البصرية (قيميا وأدبيا وسلوكيا)، ويمزِّق وحدة الهوية الوطنية ويزيدها تفتتا. وهو في النهاية حل يفرط في سطحيته المنهجية. إلى أين يفضي بنا مثل هذا المنطق؟ ما هي النتائج التي سنحصل عليها لو عممنا هذا الحل “الحكيم”؟ سيقول أبناء شط العرب (إن مصدر الخراب في قضائنا هو أبناء الأقضية الأخرى!! والحل أن لا يسكن أو يتملك في قضائنا من لم يولد من أبوين منا)!! ومثله سيقول أبناء أبي الخصيب والفاو والزبير وغيرهم. هذه هي إفرازات “المناطقية” .. المزيد من التشرذم والتفكك والكراهية.
لا أنكر أن البصرة استقبلت من النازحين، الباحثين عن لقمة العيش والحالمين بحياة أفضل، ما يفوق طاقتها الاستيعابية. وأن كثيرا منهم لم يستطع التخلص من سلوكه العشائري الفض، أو تقاليده وعاداته (في المأكل والملبس وطريقة الحديث وفك النزاعات … ) التي قد لا تروق للبصريين. ولكن من الخطأ تحميلهم مسؤولية الخراب والدمار في المدينة، إنها ليست جريرتهم ولا هم من أوجدها، ومن التبسيط تصور أن البصرة كانت ستكون “جنة” من دونهم. ليس البصريون ملائكة ولا من عداهم أبالسة.
المسألة هي في انحطاط المدينة بأكملها، بل العراق كله. الأزمة (عند الطرفين معا: الوافد وصاحب الأرض) في الفقر والعوز ونقص الخدمات وتراجع التعليم وهشاشة التثقيف وانعدام البنية التحتية. وهي عند البصري خاصة، في عجزه عن دمج العناصر الوافدة، لا بسبب تخليه عن روحه الاعتزالية القرمطية وقيمها الإنسية السامية، بل لعدم امتلاكه لآليات ذلك الدمج والصهر. قديما كان يمكنه فعل ذلك بالاعتماد على قدراته الريفية، فالريف نفسه كان كفيلا بإحداث التغيير، ولكنه اليوم فقد حتى ريفه الجميل!! فقد بساتينه وغاباته ونخيله وأنهاره وحيواناته الأليفة الوديعة، هو نفسه يعاني الملوحة والتصحر والجهل والبطالة والهجرة لجدران الإسمنت المسمَّاة تفاهة بـ (المدينة)!! إنه اليوم يواجه نزوحا أوسع مع إمكانات أقل. وبدل أن يُلتفت للظروف المادية التي تسهل هذا الاندماج نجد أن البعض يسارع بإلقاء اللائمة على الوافدين، مما يسهم ـ شئنا أم أبينا ـ في تنمية مشاعر الكراهية بين الطرفين ويزيد التوتر بينهما. لستُ أتحدث عن الاجداب الروحي في التعاطف مع الآخرين، بل في الخلل – في التفكير – في تشخيص الأزمات وكيفية مواجهتها واجتراح حلول لها. … تلك هي نتائج المنطق التقليدي المحلي في دراسة المشكلات! وهي لا شك انتكاسة مؤلمة حين يقع فيها المثقف …
إنني على ثقة تامة بأن البصري حين يتفوَّه بمثل هذه الآراء (وهي آراء أسمعها كل يوم في بيتي) لا (يريد سلخ بصريي البصرة عن عراقيتهم)، أصدِّقه حين يقول: (أريد أن أؤسس لبصريته، وأكرّس عراقيةً من نوع خاص، متعالقة من غير تقاطع مع الآخر)، أتفهم لغته الطافحة بالوجع والشكوى والأنين، الحافلة بالأسى والحنق والمرارة، وهو يكتب بابي (السفر والخصيبي). ولكني أتريث كثيرا في طريقته “التأسيسية” تلك. لا أراها تمر عبر “قوانين الهجرة”، فلا وجود لمثل هذه القوانين في البلد الواحد. أرفضها حتى لو شرَّعها “مجلس” لا يتجاوز عمره أربعة أعوام، حتى لو تبنتها مدن أخرى. لقد تبنت، في يوم من الأيامِ ليس ببعيد، بعض تلك المدن، شعارا إقصائيا مذلا لي أنا البصري حين قالت: (ألف مصري ولا … ). هاأنا أغفر وأسامح وأتجاوز، وأيضا، أتعلم الدرس: لستم مثالا يحتذى.
بدلا من ذلك، أجد في السوسيولوجيا الأمريكية، خصوصا أعمال فلوريان تزانييكي والرواد من مدرسة شيكاغو، ما أستفيد منه. أجده وهو يتحدث عن الفلاح البولوني، عن الجاليات الجديدة المهاجرة إلى شيكاغو، من يهود ويونانيين وأفارقة، يلامس جزءا كبيرا من مشكلتي البصرية الحاضرة، لا سيّما في خلاصته الرائعة حين كتب: (في هذا التفاعل المتواصل بين الفرد ومحيطه، لا يمكننا القول إن الفرد نتاج بيئته، ولا أنه يقوم بإنتاج بيئته، يمكن بالأحرى أن نقول: الأمرين معا).
ولماذا نذهب بعيدا عبر الأطلسي! في تاريخ البصرة ذاتها ما يؤسس لمقترح آخر أليق بالمدينة. جميعنا يعلم أن المدن الساحلية تأسس هويتها على الوافدين. لا مكان فيها للتنابز بالأصالة. وهكذا كانت البصرة في جميع أزمانها، شأنها شأن جميع المدن الكبرى الخلاقة. لم تزدهر إلا وهي تحتض الغرباء من يونان وفرس وروم وهنود وزنج وغيرهم. أنجبت (الفراهيدي وابن دريد)، و (سيبويه)، و (الحسن البصري)، و (ابن سيرين)، و (الجُبَّائيين؛ أبا علي وأبا هاشم)، و (أبا طاهر القرشي وأبا العباس المُطَّوِّعي وأبا عبيد الله ابن عبدة)، و (نعمة الله الجزائري)، وهم ينحدرون (على التوالي) من أزد عُمان وفارس وميسان وعين التمر وجُبَّى وعبادان والجزائر (الجبايش وما حولها). وغيرهم المئات من المتصوفة والمتكلمين واللغويين والأدباء الذين حملوا لقب “البصري” وولدوا خارج البصرة بحدودها الإدارية التي نعرفها اليوم. وحين أُغلق ميناؤها وأنشب الظلام أنيابه فيها سارع إليها الانحطاط وداهمتها مشاعر النبذ. ميزة البصرة العظيمة هي قدرتها اللامحدودة على الاستيعاب والدمج. كل من دخلها وجد فيها الألفة والمحبة والتمر، أَسَرَته طيبة أهليها وعنايتهم به كأنه واحد منهم؛ فتراه يختارهم دون بلده وأهله وذويه. تغمره عدالة خوارجها ومشاعية قرامطتها ورحمة متصوفيها ولباقة أدبائها وعمق معتزليها. ذلك هو إرثها الذي لا ينبغي لها أن تفرط به بحال من الأحوال.
الخلاصة التي أنتهي لها من ذلك كله، كالتالي: التنوع البصري حقيقة قائمة لا مجال للريب فيها. وفي ظل تدهور البنية التحتية وتفشي البطالة والأمية وصعوبة تدبير الناس لأمور معيشتهم، في البصرة والمحافظات الأصلية للوافدين، فإن الأزمة مرشّحة للازدياد. وإذا ما أردنا التفكير بنحو جدي في الحد منها فإنه لا سبيل أمامنا إلا بالعمل على محورين معا: زيادة قدرة المحافظة على الدمج من خلال المطالبة بتخصيصات مالية تتناسب مع الضغوط الهائلة التي يمثلها الوافدون في فرص العمل والسكن والتعليم والصحة وغيرها، وهذا لا يتم إلا بعد تكوين قاعدة بيانات دقيقة ومفصلة من قبل الحكومة المحلية عن هؤلاء الوافدين وأعدادهم ومحل سكنهم وأعمالهم التي يشغلونها والمشاكل التي يعانون منها أو التي يتسببون بها. كل ذلك مصحوبا بهمة عالية وإرادة مخلصة في تنفيذ مشاريع الإعمار والتنمية والبناء داخل المحافظة. فإن من شأن جميع ما تقدم رفع مستويات “التبرجز” داخل المجتمع البصري وبالتالي تسهيل عملية الاستيعاب دون التفريط بالقيم الأصيلة والخالدة للمحافظة أو المس بكرامة أحد. والأمر ذاته (فيما يتعلق بالمحور الثاني) يجب أن تقوم به الحكومات المحلية للمحافظات التي ينحدر منها الوافدون، وهي هنا بنحو خاص محافظتي ميسان وذي قار. وإني أرى أن المطالبة بإقامة مؤتمر بهذا الخصوص ترعاه الحكومة المركزية ويحضره المعنيون من جميع الأطراف، تقدم فيه أوراق بحثية علمية إحصائية (وليس مجرد جلسات للتحذلق والبهرجة وتناول الطعام) ويخرج بمجموعة من الخطط الذكية (وليس مجرد توصيات تافهة ومبتذلة وهلامية) … أقول: أرى أن من شأن المطالبة بمثل هذا المؤتمر أو الندوات أن يسهم في تفكيك المشكلة، والتقدم بخطوة أولى باتجاه الحل الصحيح لها.
وهكذا نجد أنها خلاصة على مستوى عال من التجريد!! والسبب هو أننا أمام مشكلة في منتهى التعقيد والتعميم. فهل يلومني أحد حين أصف الحلول القاطعة بالتبسيط؟! وكيف لنا أن نتجنب التجريد ونحن وسط بلد يدار بمؤسسات حكومية بدائية تفتقر للكفاءات والاحصاء والتخطيط … ناهيك عن غول الفساد الذي ينخر كل شيء.
ختاما أود أن أقدم توضيحا للجزء الثاني من عنوان هذا المقال، أعني: (بصريو العراق). لقد قرأت قبل مدة مقالا ممتعا لحيدر سعيد عن الشاعر بدر شاكر السياب (عنوانه: عراق السياب)، تناول فيه كتاب الباحث الأميركي تيري دي يونغ (موضعة الشاعر: بدر شاكر السيّاب والعراق ما بعد الكولونيالي)، مشيرا إلى إسهام السياب شعريا في مشروع تكوين مفهوم الأمة والدولة العراقيتين. وكيف أن البصرة، التي عملت فيها الكثير من النخب السياسية قبل الاستعمار وبعده على تشكيلها كدولة مستقلة (هنا يتم التذكير بكتاب النرويجي رايدر فسر: البصرة .. الدولة الخليجية الفاشلة) أعادت هي ذاتها، من خلال شاعرها السياب، إنتاج وبناء “الوطنية العراقية”. إن أكثر ما أخشاه أن يفسر البعض كتابات أمثال طالب عبد العزيز وناصر الحجاج على أنها اتجاه مقابل لما وصفه سعيد وهو يتحدث عن السياب في مقاله المذكور. وهذا تحديدا ما كنت أعنيه بـ “الخطر” الذي يمكن أن تتركه هكذا مقالات. ومع أن هذه السطور مكرَّسة لبيان اختلافي مع فهمهما للمشكلة والأسلوب الأمثل في معالجتها، إلا أنني أحسب أن القول بصحة نسبة هذا التفسير لهما ما هو إلا إفراط في البلادة.