17 نوفمبر، 2024 1:27 م
Search
Close this search box.

بشارة الله تعالى لنبي الله زكريا في المحراب وتجليات اسم الله السميع

بشارة الله تعالى لنبي الله زكريا في المحراب وتجليات اسم الله السميع

بشر الله تعالى نبيه زكريا عليه السلام باستجابة دعوته، قال تعالى: ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ۝ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ [آل عمران: 39-40].
لقد استجيبت الدعوة المنطلقة من القلب الطاهر، الذي علق رجاءه بمن يسمع الدعاء، ويملك الإجابة حين يشاء، وبشرت الملائكة زكريا بمولود ذكر اسمه معروف قبل مولده (يحيى)، وصفته معروفة كذلك: سيداً كريماً، وحصوراً يحصر نفسه عن الشهوات، ويملك زمام نزعاته عن الانفلات، ومؤمناً مصدقاً بكلمة تأتيه من الله، ونبياً صالحاً في موكب الصالحين.
لقد استجيبت الدعوة، ولم يحل دونها مألوف البشر الذي يحسبونه قانوناً، ثم يحسبون أن مشيئة الله سبحانه مقيدة بهذا القانون، وكل ما يراه الإنسان ويحسبه قانوناً لا يخرج عن أن يكون أمراً نسبياً ـ لا مطلقاً ولا نهائياً ـ فما يملك الإنسان وهو محدود العمر والمعرفة، وما يملك العقل وهو محكوم بطبيعة الإنسان هذه، أن يصل إلى قانون نهائي ولا أن يدرك حقيقة مطلقة.
فما أجدر الإنسان أن يتأدب في جناب الله، وما أجدره أن يلتزم حدود طبيعته وحدود مجاله، فلا يخبط في التيه بلا دليل، وهو يتحدث عن الممكن والمستحيل، وهو يضع لمشيئة الله المطلقة إطاراً من تجاربه هو ومن مقرراته هو ومن عمله القليل.
ولقد كانت الاستجابة مفاجئة لزكريا نفسه ـ وهل زكريا إلا إنسان على كل حال ـ واشتاق أن يعرف من ربه كيف تقع هذه الخارقة بالقياس إلى مألوف البشر؟ ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ [آل عمران: 40]
كذلك فالأمر مألوف مكرر معاد حين يرد إلى مشيئة الله وفعله الذي يتم دائماً على هذا النحو، ولكن الناس لا يتفكرون في الطريقة، ولا يتدبرون في الصنعة، ولا يستحضرون الحقيقة.
كذلك بهذا اليسر وبهذه الطلاقة يفعل الله ما يشاء، فماذا في أن يهب لزكريا غلاماً وقد بلغه الكبر وامرأته عاقر؟
إنما هذه مألوفات البشر التي يقررون قواعدهم عليها، ويتخذون منها قانوناً، فأما بالقياس إلى الله، فلا مألوف ولا غريب، كل شيء مرده إلى توجيه المشيئة، والمشيئة مطلقة من كل القيود.
زكريا عليه السلام يطلب آية من الله عزَّ وجل:
إن شدة لهفة زكريا عليه السلام على تحقيق البشرى، ولدهشته المفاجئة على نفسه، إن ايته أن يحتبس لسانه ثلاثة أيام إذا هو اتجه إلى الناس، وأن ينطلق إذا توجه إلى ربه وحده بذكره وتسبيحه، قال تعالى: ﴿قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾ [آل عمران: 41].
ويسكت السياق هنا وتعرف أن هذا قد كان فعلاً، فإذا زكريا يجد في ذات نفسه غير المألوف في حياته وحياة غيره، لسانه هذا هو لسانه، ولكنه يحتبس عن كلام الناس وينطلق لمناجاة ربه، أي قانون يحكم هذه الظاهرة؟ إنه قانون الطلاقة الكاملة للمشيئة العلوية، فبدونه لا يمكن تفسير هذه الغريبة كذلك رزقه بيحيى وقد بلغه الكبر وامرأته عاقر.
كانت الآية العجيبة والمعجزة الباهرة في لسان زكريا عليه السلام، إن قومه يعرفون أنه متكلم بفصاحة وطلاقة ويعلمون أنه لا عيب في لسانه، ولكن بعد ما بشِّر بالولد فوجئوا به لا يكلمهم إلا بالرمز والإيحاء والإشارة، واستمر الأمر على هذا ثلاثة أيام بلياليها.
كان زكريا عليه السلام في هذه الأيام الثلاثة على حالتين:
الحالة الأولى: عندما يخلو بنفسه ويكون وحيداً ليس معه أحد ولا يسمعه أحد، عند ذلك ينطلق لسانه بذكر الله وتسبيحه ويسمع نفسه وهو يسبح الله ويذكره.
الحالة الثانية: عندما يخرج على قومه، ويريد أن يكلمهم ويخاطبهم فإنه يعجز عن ذلك حيث يحبس لسانه عن الكلام بطريقة لا إرادية، عند ذلك يخاطبهم عن طريقة الرمز والإيحاء والإشارة.
وعندما يرى قومه ذلك كانوا يتعجَّبون، فما الذي حبس لسان زكريا عليه السلام عن الكلام؟ وما الذي جرى له؟ ولم يكن إمساك لسانه عن الكلام عندما يواجه الناس بسبب مرض أو خرس وإنما بمعجزة من الله، فهو سويٌّ صحيحٌ فصيحٌ متكلم، ولكن الله كان يمسك لسانه عن الكلام بطريقة لا إرادية، لا دخل لزكريا في ذلك.
لم يستطع أن يكلم الناس ثلاث ليالٍ سويّاً، أي: اعتقل لسانه من غير مرض ولا خرس، وهو صحيح وهو في ذلك يسبح ويقرأ التوراة، فإذا أراد كلام الناس لم يستطع أن يكلمهم إلا عن طريق الإيماء والإشارة، وهذا يدل على أنه الرمز والإيماء بالعين أو اليد صور من صور الكلام، ونوع من أنواع التعبير، فالذي لا ينطلق لسانه وإنما يستخدم حركات رأسه أو عينه أو شفتيه أو يده، فإنه يعبّر بهذه الحركات الرمزية عما في نفسه، ويفهم السامع منه كما يفهم منه إذا نطق بلسانه.
وقد جمعت آية آل عمران بين حالتي زكريا عليه السلام وهو يعيش المعجزة الربانية خلال الأيام الثلاثة صمته عند مواجهة الناس، ونطقه عندما يخلو إلى نفسه: ﴿أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾ [آل عمران: 41].
وأمره الله بالإكثار من ذكره في هذه الأيام الثلاثة، وأخبره أنه لا يحبس لسانه عن تسبيح الله ولا يُمنع من ذكره، وذكرت الآية طرفي النهار، فإذا سبّح الله في طرفي النهار بالعشي والإبكار، فقد ذكره وسبّحه طيلة النهار.
والعشي: من وقت زوال الشمس بعد الظهر إلى أن تغيب، والإبكار: من وقت طلوع الفجر إلى وقت الضحى، وزكريا عليه السلام رغم منعه من الكلام إلا أنه يواصل ذكر الله عز وجل ويأمر الناس به حيث يشير إليهم بما يفهم منه دوام الذكر، وزكريا عليه السلام أنعم الله عليه بالصمت، وفي الصمت فكرة وعبرة، كما أنعم الله عليه بتوفيقه إلى الذكر، فاجتمع له الذكر مع الفكر، وذكر الله عز وجل من أسنى المقامات وأجل القربات ومن أفضل الأعمال ومن أسمى الأحوال، والذكر مطلوب في كل حال حتى يصير المؤمن على صلة بالله، وزكريا يواصل ذكر الله حتى وهو ممنوع عن الكلام، فالذكر من أيسر العبادات ومن أعظمها أجراً، وفي الحديث الشريف «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم».
ويواصل زكريا عليه السلام دعوة قومه إلى ذكر الله تعالى، وحين يمتنع عن الكلام فإن الإشارة توصل إلى المطلوب ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ [مريم: 11]، أي: أشار إليهم أن يداوموا على التسبيح في جميع الأوقات.

المصادر والمراجع:
سيد قطب، في ظلال القرآن، القاهرة: دار الشروق، ط 38، 1430هـ، 2009م، 1/395.
د. صلاح الدين الخالدي، الخالدي، القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، دمشق: دار القلم، بيروت: الدار الشامية، ط1، 1419هـ، 1998م.
علي محمد الصلابي، المسيح عيسى ابن مريم عليه السّلام، دار ابن كثير، ط1، ص 82-86.

أحدث المقالات