23 ديسمبر، 2024 7:01 ص

بسبب التخبط وقلة الخبرة والولاء لغير العراق باتت التدخلات السافرة لامريكا وايران مبررة !

بسبب التخبط وقلة الخبرة والولاء لغير العراق باتت التدخلات السافرة لامريكا وايران مبررة !

الجميع في العراق، مسؤولين ومختلف فئات الشعب العراقي، ينتظرون بوجل وخوف ما ستؤول إليه الحرب النفسية الدائرة رحاها في المنطقة بين واشنطن وطهران هذه الأيام. فالولايات المتحدة تردد وتكرر التهديبدات والتحذيرات تجاه إيران ومن يساندها من دول وأحزاب سياسية وتشكيلات مسلحة موالية لها، وطهران بدورها تكرر استفزازاتها تجاه أمريكا وحلفائها في المنطقة، والمقصود بهم دول الخليج وعلى رأس القائمة إسرائيل ، ولكن بحدود الكلام في الوقت الحاضر. رصدت إسرائيل والولايات المتحدة استعدادات عسكرية إيرانية تتمثل في نصب بطايريات صواريخ بالستية بعيدة ومتوسطة المدى موجهة نحو قواعد أمريكية ودول حليفة لواشنطن لا سيما في البصرة كما تدعي الإدارة الأمريكية والحكومة الإسرائيلية. واشنطن طلب من رعاياها والعاملين في السفارة الأمريكية اتخاذ الحيطة والحذر وطلبت من بعضهم مغادرة الأراضي العراقية تحسباً لأية ردة فعل تجاههم من جانب الميليشيات المسلحة المدعومة إيرانياً وسط تصريحات متبادلة تتفاقم يوماً بعد يوم بين الدولتين والعراق بينهما عاجز لا حول و لا قوة له للنأي بنفسه من هذا الزلزال القادم . وزير خارجية أمريكا بومبيو زار العراق مرتين في غضون اسبوع ليستطلع موقف العراق الحقيقي حيال أية مواجهة محتملة بين واشنطن وطهران أو تل أبيب وطهران في حال بادرت القوات الجوية الإسرائيلية بتوجيه ضربات جوية لتدمير البنى التحتية العسكرية والاقتصادية الإيرانية كتمهيد ربما لاجتياح عسكري إقليمي ضد طهران تشارك فيه العربية السعودية وبعض دول الخليج. سبق لترامب أن لوح لحكام العراق قائلاً :” لن أعترف في أية حكومة عراقية تدعي السيادة على الأرض العراقية ويكون ولائها لإيران، وذات منحى طائفي وعنصري مبنية على الفساد، وتحكمها أحزاب إسلامية ومجاميع إرهابية مسلحة وعصابات وميليشيات مسلحة ” ويقصد بها قوات الحشد الشعبي التي يناصر جزء كبير منها إيران ويهدد بشن هجمات انتقامية ضد المصالح الأمريكية في حال هاجمت أمريكا أو إسرائي،ل إيران أو أي من حلفائها في المنطقة لاسيما حزب الله اللبناني والحشد الشعبي. وبالمقابل دخلت مياه الخليج أحد اضخم حاملة طائرات نووية وعلى متنها 1300 طيار مع كامل معداتهم وطائراتهم المستعدة للإقلاع في أية لحظة عند تلقي الأوامر مع تواجد 25 ألف جندي أمريكي موزعين على 9 قواعد عسكرية أمريكية في المنطقة من بينهم 9 آلاف مقاتل في العراق وكذلك فرقة الموت المتمركزة في الكيارة والتي التحق بها خمسة آلاف من جنود المارينز المنسحبين من سوريا مؤخراً ويتواجدون في منطقة عسكرية أمريكية قرب الحدود العراقية السورية.

أعطيت أوامر مشددة لبعض تشكيلات الحشد الشعبي في العراق باستهداف الأمريكيين دون العودة للحكومة المركزية الاتحادية التي من المفترض أنهم يتبعون أوامرها وتوجيهاتها العسكرية ما ينذر بكارثة وشيكة تدور رحاها على الأراضي العراقية. خصصت إسرائيل قمرين صناعيين إلى جانب قمرين أمريكيين لمراقبة التحركات الإيرانية على مدار الساعة وبدقة شديدة . كما بادرت أمريكا بتسليح بعض العشائر السنية العراقية في المنطقة الغربية بحجة مواجهة الإرهاب ولقيام حالة من التوازن العسكري مع قوات الحشد الشعبي المتواجدة في المنطقة . هذا هو السيناريو الكارثي المتداول بين العراقيين وخشيتهم من تداعياته العسكرية والاقتصادية عليهم.

يمكننا القول أن هناك خلل في المعادلة الاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط بدأت منذ الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينات القرن الماضي وتداعيات الربيع العربي الذي أطاح بأنظمة راسخة ومستقرة موالية للغرب ، وكان من نتائج ذلك إخراج العراق وسوريا ومصر وليبيا من معادلة الشرق الأوسط التي كانت مطبقة منذ خمسينات القرن الماضي ولغاية العام 2003، وهو عام سقوط النظام البعثي الحاكم في العراق، وإثر نشوب الحرب الأهلية في سوريا عام 2011 وتدمير ليبيا وتفكيكها وتسليمها للميليشيات المسلحة بجميع أنواعها ومسمياتها. بعد قرار ترامب الخروج من الاتفاقية النووية الغربية ــ الإيرانية، بدأت المؤشرات الأولى للتصعيد متمثلة بفرض العقوبات والحصار الاقتصادي على إيران وزعزعة اقتصادها وتهديد كل من يقدم لها يد المساعدة أو لم يمتثل للأوامر الأمريكية بتطبيق الحظر على إيران والامتناع عن المتاجرة معها وشراء بضائعها النفطية وغير النفطية. وفي مقابل ذلك هددت طهران بتحللها من شروط تلك الاتفاقية النووية واستئنافها مساعيها البحثية لتبرر امتلاكها مفاعلات نووية سلمية قابلة لأن تتحول إلى استخدامات عسكرية وانتاج القنبلة النووية، اسوة بالهند وباكستان وكوريا الشمالية، من باب الردع وحماية مكتسبات الثورة الإسلامية على حد تعبير طهران. كما تهدف إلى ردع إسرائيل عن توجيه ضربات استباقية، ما جعل إسرائيل في حالة استنفار دائم. أملت واشنطت شروط مجحفة وبعضها تعجيزي على إيران لإجراء مفاوضات جديدة معها تمهيداً لرفع العقوبات الاقتصادية عنها. ومن بين تلك الشروط أن توقف إيران برنامجها الصاروخي البالستي المهدد لإسرائيل ، والتوقف عن دعم وتمويل وتسليح حزب الله اللبناني العدو اللدود لإسرائيل، و الكف عن التدخل في الشؤون الداخلية العراقية والامتناع عن دعم وتسليح العناصر المسلحة والميليشيات الموالية لها دون قيد أو شرط ، التوقف عن دعم الإرهاب وتهديد دول الخليج المجاورة لها. ولتحقيق ذلك بادرت واشنطن لتاسيس ناتو عربي ـ إسلامي، وبناء تحالف متعدد الأطراف يحد من الأطماع الإيرانية وتوسع النفوذ الإيراني في المنطقة . كما تقوم واشنطن بتحريك المعارضة الإيرانية في الداخل والخارج وحث الشعب الإيراني على الثورة والتمرد على النظام الإسلامي المتسبب بتردي الأوضاع الاقتصادية وتبذير ثروات إيران، وتنظيم حملات إعلامية دولية لتسقيط النظام الإيراني وتشويه سمعته، وتصنيف الحرس الثوري كمنظمة إرهابية وداعمة للإرهاب ، بعد أن فشلت في سياسة الاحتواء والتفاوض الناعم مع طهران، في حين تعتقد واشنطن أنها نجحت في هذا الأسلوب مع كوريا الشمالية بتشجيع من الصين وروسيا. لذلك سوف تعمل على إقناع بكين موسكو بصواب سياستها تجاه طهران وضرورة الحد من التعاون بينهم وبين طهران في مجال الطاقة وغيرها من المجالات الحيوية ، وبخلاف ذلك ستلجأ واشنطن وتل أبيب إلى الضربات العسكرية الاستباقية باعتبارها الوسيلة الوحيدة المتبقية لديهما لمنع إيران من امتلاك القنبلة النووية والصواريخ الاستراتيجية.

الولايات المتحدة الأمريكية ذات النفوذ الواسع والكبير في العراق ، تعرض هذا البلد للإحراج ، خاصة في حالة مهاجمة الفصائل المسلحة العراقية الموالية لإيران واستهداف الحرس الثوري الإيراني عسكرياً مما سيؤثر على التنسيق الأمني والعسكري القائم بين إيران وحلفاؤها الإقليميين ، العراق وسوريا وحزب الله اللبناني، مما سيدفع إيران لتهديد المصالح الغربية ، وسيتعرض العراق إلى تهديدات مباشرة وميدانية إلى جانب التداعيات الاقتصادية الكارثية لاعتماد اقتصاده على إيران بالدرجة الأولى وكذلك تركيا . فمن المتوقع، ميدانياً، أن تتحرك بعض التشكيلات المسلحة لنصرة إيران والقيام بعمليات عسكرية وقصف للمنشآت والقواعد الأمريكية في العراق، إلى جانب عمليات خطف واغتيال على غرار ما نفذته مجاميع القاعدة ضد القوات الأمريكية إبان فترة الاحتلال الأمريكي، وتنظيم عمليات تفجير ومهاجمة السفارات والقنصليات الأمريكية في المنطقة وترهيب وقتل الرعايا الأمريكيين ، عسكريين ومدنيين، ما يجعل العراق ساحة للمواجهة العسكرية وجزء من حالة الصراع والتوتر القائمة حالياً بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران. يصعب على الحكومة العراقية الشرعية أن تضبط تصرفات الفصائل العراقية المسلحة المؤيدة للوجود الإيراني في العراق وضبط ردود أفعال الجهات المؤيدة للوجود الأمريكي في العراق مما يخلق بيئة ملائمة لاشتعال المواجهات الداخلية العراقية ـ العراقية وتحولها من الترقب البارد إلى التصادم الساخن ميدانياً. يمكن لإيران أن تؤثر على حركة التجارة والاقتصاد الدوليين وذلك من خلال التحكم بمضيق هرمز وتعريض الناقلات للتهديد إلى جانب التهديد بضرب الدول المتحالفة مع واشنطن في المنطقة كدول الخليج. أمريكا ترى في إيران خطر كامن ودولة ذات مسلك ينافي قواعد النظام الدولي ويتعارض مع منظومة القوانين الدولية التي فرضتها القوة المنتصرة في الحرب الباردة التي فتت الاتحاد السوفياتي وهيمنت على مقدرات العالم ، اي مجموعة حلف شمال الأطلسي الناتو. بل وسمحت لنفسها بالتدخل في الشؤون الداخلية للدول بذريعة ضمان احترام حقوق الإنسان وحقوق الأقليات والتدخل لأسباب إنسانية ، ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل، وهي ذات التهم الموجهة لإيران وذات الذرائع التي تتمترس خلفها الولايات المتحدة امريكية لتبرير تصرفاتها العدوانية، متهمة إيران بعسكرة المجتمع وتغول الحرس الثوري الإيراني وهيمنته على العملية السياسية وعلى المنظومة الاقتصادية للبلاد ، لذلك فإيران بنظر واشنطن مصدر تهديد كامن لأمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط برمتها وللعالم كله، في آن واحد.

فالعراق يعتمد ، بنسبة 90 بالمائة في اقتصاده على مايستورده من إيران. وفي نفس الوقت يقف العراق على راس قائمة الدول التي تتلقى معونات أمريكية فقد حصل على 5.28 مليار، 89 في المئة منها للمجال العسكري. وفي التفاصيل، فقد تلقى العراق 4.8 مليار في الدعم الأمني والعسكري، و369 مليوناً للمساعدات الإنسانية الإغاثية منها 86 مليوناً للمساعدات الغذائية العاجلة، بينما حصلت النفقات الإدارية على دعم 10 ملايين دولارفقط. ففي عالم 2006 حصل العراق على 9.7 مليار دولار مليار، وهي أعلى نسبة على الإطلاق بين كل الدول العربية خلال السنوات الماضية. كما أن الولايات المتحدة هي المصدر الأساسي لتسليح الجيش العراقي وجهاز مكافحة الإرهاب وقوات الشرطة الاتحادية وتقنيات المراقبة والتجسس لدوائر المخابرات والاستخبارات والأمن الوطني، وتم تدريب 54 لواء من القوات المسلحة العراقية النظامية إلى جانب العديد من اسراب سلاح الجو والطيران العسكري وتجهيز العمليات المشتركة لمحاربة تنظيم داعش الإرهابي. تلوح واشنطن للعراق بإمكانية حث الشركات العالمية الكبرى للاستثمار في العراق في حال عدم وقوفه رسمياً إلى جانب إيران في حربها النفسية، وربما الميدانية لاحقاً، مع الولايات المتحدة الأمريكية لأن هذه الأخيرة ألغت استثناء العراق من أحكام العقوبات المفروضة على إيران. فشلت المجموعة التي تمثل الإدارة الأمريكية في العراق في التحكم بلعبة توزيع المناصب الرئاسية الثلاث وانتصار إيران وحلفائها في انتخابات 2018 . هذا الواقع سيفرض على رئيس مجلس الوزراء العراقي الحالي السيد عادل عبد المهدي اعتماد سياسة ترضي الولايات المتحدة الأمريكية و لا تثير حفيظة إيران وأذرعها السياسية والمسلحة داخل العملية السياسية في العراق ، فهذه الأخيرة تتمثل في أحزاب سياسية قوية وميليشيات مسلحة مسيطرة في البرلمان وفي الشارع العراقي على السواء سيما بين الأوساط الشعبية والدينية ، ومع ذلك يتعين على رئيس الوزراء أن يجد السياسة المناسبة لإرضاء الولايات المتحدة الأمريكية وعدم خسارة الدعم الأمريكي الدولي للعراق خاصة وإن أمريكيا هي المتحكمة بسيرور أسعار النفط عالمياً. وهذا يعني تعثر البرنامج الحكومي مع معارضة قوية وشرسة قد تطيح بحكومة عادل عبد المهدي، وربما تعلن جماعات مسلحة تمردها على الحكومة وتمارس عمليات عسكرية محدودة ونوعية ضد المصالح الأميركية والبريطانية في العراق، وتنامي الأزمات الاقتصادية وحاجة العراق إلى تصدير نفطه إلى السوق الأميركية للتغلب على تلك الأزمات. إذا فشل رئيس الوزراء العراقي السيد عادل عبد المهدي في إيجاد المعادلة الصحيحة لإخراج العراق من مطرقة واشنطن وسندان طهران، فسوف يواجه تدهوراً في العلاقات العراقية – الأميركية رسمته طهران مسبقاً وستقوم بتفنيذه القوى المواليه لها داخل العراق، ووفقاً لهذا السيناريو، فالأحزاب السياسية الشيعية المسيطرة على الحكم والتشريعات، قد تعيق مسيرة السياسة الخارجية العراقية وتجبر الحكومة العراقية علىء تبني مواقف رافضة للنفوذ الأميركي داخل العراق والمطالبة بإخراج القوات الأمريكية والأجنبية من العراق وهو الأمر الذي يحظى بشبه إجماع بين قوى وأحزاب الإسلام السياسي ، التي تطالب بعدم الانصياع للشروط والإملاءات الأميركية ولا الاستجابة لمغرياتها ولا الخوف من تهديداتها، االأمر سيؤثر سلباً على العلاقات العراقية – الأميركية، وبالتالي على العلاقات العراقية – الأوروبية.

وفي سياق المناورات في الحرب النفسية الدائرة بين طهران و واشنطن، هدد الحرس الثوري بضرب القواعد الأمريكية المتواجدة في نطاق ألف كيلومتر حول إيران ، بينما أعلنت الرئاسة الإيرانية ــ المعتدلة ــ على لسان الرئيس حسن روحاني عزم إيران تشريع قانون جديد يتيح إمكانية زيادة تمويل برنامج الصواريخ البالستية . العلاقات بين دول الخليج وإيران ما تزال متوترة قد تتحول إلى مواجهات حامية بين الجانبين ويشاع أن المملكة العربية السعودية وضعت قواتها العسكرية على أهبة الاستعداد تحسباً لية تطورات ميدانية قد تنشأ جراء ردود الفعل الإيرانية حيال العقوبات الأمريكية القاسية المفروضة على طهران. لا يبدو أن إيران مستعدة في الوقت الحاضر للتنازل عن طموحاتها الإقليمية كلاعب اساسي في المنطقة حيث تطمح لممارسة دور إقليمي فاعل ومؤثر باعتبارها دول إقليمية كبرى تستعيد من خلاله أمجاد الإمبراطورية الفارسية إذ أن العزلة والانطواء على الذات يعرض إيران للخطر ويضعف موقفها إزاء الضغوط الممارسة ضدها إقليمياً ودولياً وهي لا تريد أن تخسر دورها في التأثير في أمن الخليج واستقراره وتطالب بإشراكها في اية ترتيبات أمنية إقليمية ولديها نفوذ لدى المكون الكوردي والمكون الشيعي في العراق مما سيجعل العراق أول المصابين بشرارة التصادم العسكري المرتقب ، فهل تعي القيادة العراقية الحالية مدى المخاطر المحيطة بالعراق جراء هذا الوضع المتفجر ، وهل اتخذت الاحتياطات اللازمة لتأمين سيرورة الحياة والدورة الاقتصادية السليمة وعدم تعريض المواطنين للحاجة والمجاعة وافتقاد الأمن واحتمال تخريب البنى التحتية للبلاد؟

كثير من المتابعين للشأن العراقي يعتقدون أن العراق وقع يوم 9 إبريل 2003 تحت الاحتلال الأمريكي فقط، حيث شاهدوا جندي اليانكي يتسلق تمثال صدام حسين الكبير في ساحة الفردوس، ويغطي وجهه بالعلم الأمريكي. ومع رمزية هذه الحادثة، إلا أن العراق كان يتعرض لاحتلال بغيض آخر، وربما أكثر خطورة، لكنه تم بصمت وبدون رفع الأعلام أو إسقاطها. لقد تدفق مئات الألوف من الإيرانيين من الحدود المفتوحة التي تزيد عن 1400 كلم، خاصة من الجنوب قرب البصرة وشط العرب، حيث تقترب الضفتان كثيرا شكلا ومضمونا.
على الضفة العراقية كانت تماثيل الضباط العراقيين، الذين ضحوا بأرواحهم في حرب الثماني سنوات، يشيرون بأصابعهم إلى الضفة الأخرى يتقدمهم تمثال أكبر حجما للقائد العسكري الفذ عدنان خير الله، الذي حرر شبه جزيرة الفاو من الإيرانيين وأجبرهم على قبول وقف إطلاق النار، والذي وصفه الخميني بأنه «أقرب إلى تجرع السم»، لكن شعبية خير الله قربت أجله، حيث قتل بطريقة مشبوهة، مما لا يتسع المجال هنا لتلك التفاصيل التي يعرفها كثير من العراقيين جيدا.

هرع الإيرانيون من الضفة الأخرى والتقوا بجماعاتهم من العراقيين، وقادوا حملة كبرى لإسقاط التماثيل وآلاف الصور، التي كان قد نشرها صدام ومريدوه في كل أنحاء العراق، وغيروا الأسماء والمعسكرات، وكل المعالم التي تشير إلى صدام. تدفق آلاف الإيرانيين إلى العتبات المقدسة، فما بقي بيت أو فندق أو زاوية أو تكية إلا وامتلأ بالإيرانيين، وبالتأكيد دخلت الأجهزة الأمنية الإيرانية ذات الأجندات المرسومة. كما عادت القيادات الفارة منذ سنين، بدون إذن من أحد فتواصلوا مع الأمريكيين، وتشكل على الفور نوعان من القيادة: قسم آتٍ على ظهر الدبابة الأمريكية، والقسم الآخر عائد عبر الحدود من إيران. فالتقى الطرفان تحت مظلة الحاكم الأمريكي بول بريمر، الذي كان يعرف ما يريد. كان بريمر يصدر الفرمانات على طريقة الملوك، ولم تكن قراراته الخطيرة صدفة، خاصة قراره الأول اجتثاث البعث، وقراره الثاني بحل الجيش العراقي في 23 مايو، ثم قراره الخطير بإنشاء مجلس الحكم العراقي، القائم على المحاصصة الطائفية والمكون من 25 شخصا، 13 شيعيا وخمسة أكراد وخمسة من العرب السنة وواحد مسيحي وواحد تركماني. الأمريكيون كانوا معنيين بتفتيت الدولة العراقية وضرب مكوناتها الإثنية والدينية بعضهم ببعض، خدمة للمخططات الصهيونية. أما إيران فكانت معنية بالاستيلاء على القيادة أولا ونشر أزلامها وميليشياتها ورجالاتها ومخابراتها في البلاد كافة، خاصة الجنوب، لقد تحولت مدن الحلة وكربلاء والنجف والناصرية، وإلى حد ما البصرة إلى مدن تخضع للسيطرة الإيرانية وأعوانها وممثليها ورجالاتها من العراقيين. أما القيادات العراقية الجديدة فغلب عليها طابع الفساد وتشاغلوا بالنهب وتحويل الفلوس إلى الخارج.
في لقاء مع وفد من الأمم المتحدة مع أحد رجال الدين الشيعة، الذي يحمل رتبة «آية الله» شكى طويلا لرئيس البعثة المرحوم سيرجيو فييرا دي ميلوا، الذي قتل في العراق، حول تدفق الإيرانيين إلى بلاده بدون رادع. «لماذا لا تحاول الأمم المتحدة حماية حدود العراق من إيران؟ كيف تتركون حدود العراق مفتوحة يتسرب منها المجرم وتاجر المخدرات، وأجهزة المخابرات والعصابات والجماعات التي تحاول أن تؤذي العراق؟». قلنا له إن حدودا تزيد عن 1400 كلم تحتاج إلى آلاف الجنود المدججين، فكيف لبعثة لا تزيد عن السبعين شخصا أن تقوم بهذه المهمة.. القادة العراقيون الوطنيون كانوا يشكون مرّ الشكوى من الأوضاع الجديدة. بعضهم قال لنا كنا تحت ديكتاتورية رهيبة، استبدلت باحتلالين أمريكي وإيراني. قال أحدهم لقد حاولنا إسقاط الديكتاتورية بالاغتيال وفشلنا، ثم حاولنا بالانقلاب وفشلنا، ثم حاولنا بالانتفاضة الشعبية وفشلنا، ولذلك أيدنا التدخل الخارجي، ولكن ليس على أساس أن يتم تسليم العراق بخيراته وموارده لإيران.
بدأ الإيرانيون ضمن مخطط مدروس ومعد له جيدا باغتيال كافة ضباط الجيش العراقي السابقين، وكافة الطيارين الذين شاركوا في حرب السنوات الثماني، فقد ذكرت وثيقة مسربة من وثائق ويكيليكس تحمل تاريخ 14 ديسمبر 2009 أن إيران شنت حملة منظمة لاغتيال الطيارين العراقيين، الذين شاركوا في قصف أهداف إيرانية خلال الحرب بين البلدين، وتمكنت من قتل 182 طيارا، وفرّ من البلاد نحو 800 آخرين. وفي الوقت نفسه نشط عملاء الموساد بمساعدة من وكالة الاستخبارات الأمريكية (سي أي أيه) في استهداف العلماء العراقيين الذين ساهموا في صناعة التسليح العسكرية وإنتاج الأسلحة الكيميائية. وكشف تقرير صدر عن مركز المعلومات الأمريكي (2005) أن الموساد قام باغتيال 530 عالما عراقيا وأكثر من 200 أستاذ جامعي وشخصيات أكاديمية ما بين 2003 و2006، ويشير التقرير إلى أن جهاز «الموساد» جند 2400 عنصر محلي ودولي، إضافة إلى وحدة نخبة سرية تتضمن أكثر من 200 عنصر مؤهل من قوات البيشمركة، من أجل الإجهاز على العلماء وتصفيتهم. وقد نشر إسماعيل جليلي دراسة قيمة تحت عنوان «محنة الأكاديميين العراقيين» في موقع «شبكة البصرة» بتاريخ 14 ديسمبر 2007 جاء فيها أن «الموساد» الإسرائيلي شنّ 307 اعتداءات على الأكاديميين والأطباء، وتمكن من اغتيال 74% منهم.

لقد تواءمت المصالح الأمريكية والإيرانية تماما في تلك الفترة، بينما كان القوميون والبعثيون والإسلاميون الوطنيون، يطلقون أعظم حركة مقاومة ضد المحتلين، ولم يوجهوا بنادقهم يوما إلا إلى الجنود الأمريكيين. وعندما توصل الأمريكيون إلى قناعة راسخة بأنهم لا شك مهزومون، وأن فيتنام جديدة تكتب صفحاتها في بغداد وأخواتها، أعادوا حساباتهم وعملوا على ضرب السنة بالشيعة في العراق. فقاموا بتأديب مقتدى الصدر أولا، لأنه تضامن مع مقاومي الفلوجة أثناء حصارها في نوفمبر 2004، ردا على وصول متطوعين من المقاومة لنصرة مدينة النجف والحلة أثناء الهجوم عليها من إبريل إلى أغسطس 2004. عقد بعدها الجنرال براميتس صفقة مع العشائر تحت ما سمي بالصحوات، للابتعاد عن صنيعتهم «أبو مصعب الزرقاوي» ثم جاءت حادثة تدمير المقامين المقدسين للإمامين علي الهادي والحسن العسكري في سامراء في فبراير 2006، لتتحول بعدها المواجهات الدامية بين السنة والشيعة. في تلك الفترة بنيت الميليشيات الشيعية، والتي كانت تهدف أصلا لا مقاومة الأمريكيين بل للانتقام من السنة، تحت حجة مقاومة الإرهابيين من أنصار القاعدة. تلك كانت فترة شهر العسل بين أمريكا وإيران، لدرجة أن أول من زار بغداد وهي تحت الاحتلال الأمريكي كان محمود أحمدي نجاد، يوم 2 مارس 2008.

إن الذي غير معادلة التعايش بين الولايات المتحدة وإيران هو الحراك الشعبي في العراق وإيران، حيث واجه النظامان تحديا حقيقيا. ففي العراق انفجرت الجماهير ضد الطغمة الفاسدة وحماتها من الإيرانيين، الذين استفادوا من منظومة الفساد، خاصة في قطاعي البترول والكهرباء. فقد طالبت الجماهير بـ»دولة حرة حرة وإيران تطلع برّة». فانبرت لها الميليشيات بالنار تجندل المئات، أما الحراك في إيران فيطالب بحقوقه الأساسية بعيش كريم، بعد أن شهدت البلاد ما هو أقرب للانهيار الاقتصادي بسبب الحصار. فما كان أمام الميليشيات الإيرانية، حزب الله العراقي والحشد أساسا، وبأوامر من إيران، إلا التصعيد المنضبط مع الولايات المتحدة، ابتداء من 15 أكتوبر 2019. هذا التصعيد وصل حد المواجهة المباشرة بعد مقتل أمريكي (من أصل إيراني) والرد بقصف عدد من المعسكرات يوم 29 نوفمبر، أدت إلى مقتل أكثر من 30 عنصرا من الحزب غرب العراق، أعقبت ذلك مسيرات حاشدة ضد السفارة الأمريكية، وانتهى الأمر بمقتل قاسم سليماني، وإطلاق زخات من الصواريخ الإيرانية على قاعدتين أمريكيتين لم يقتل فيهما أحد. إيران حاولت استثمار مقتل سليماني بتوحيد الأمة خلفها، وحكومة العراق حاولت أن تستثمر الحادثة بمحاولة الظهور وكأنها دولة مستقلة، فطالب البرلمان الحكومة بالعمل على إنهاء الوجود الأجنبي في البلاد. كلا البلدين فشلا في أهدافهما فقد عاد الحراك إلى شوارع طهران، خاصة بعد حادثة الطائرة الأوكرانية، كما عاد إلى بغداد وبقوة دفع أكبر.
ما كشفته الأحداث الأخيرة هو رفع الغطاء عن ترابط الاحتلالين، وأن امتصاص النقمة ضد حكومة فاسدة في بغداد وحكومة مستبدة في طهران قد فشل، وأن الحراك الشعبي في البلدين، رغم المخاوف التي يتعرض لها المشاركون، مستمر حتى إشعار آخر. وإلى أن ينتصر الحراك في العراق ستظل البلاد تحت الاحتلالين. فمتى يفيق الشعب العراقي من أقصى البلاد إلى أدناها وينفض عنه غبار «الانصياع والتبعية» ويعود العراق وليس فيه جوع، كما حلم شاعره العظيم بدر شاكر السياب قبل أكثر من ستين عاما.