18 ديسمبر، 2024 7:41 م

برميل نفط مقابل برميل ماء

برميل نفط مقابل برميل ماء

قرأت قبل أكثر من عقدين من السنين بحثًا أكاديميًّا عن الأمن المائي في العالم العربي، واحتمالات نشوب “حروب المياه”، أو “حروب الأنهار”، إلا أني قد استبعدت هذا النوع من “التأملات الفضائية” أو “النبوءات السوداوية”، مع أني أعرف جيدًا أن الماء أصل الحياة: فبدونه لا حياة على أية بقعة من الأرض. ولكن ما هي إلا بضعة عقود، مرَّت بسرعة خاطفة، حتى قرأنا أنباءً عن تهديدات بعض الدول غير العربية المتشاطئة على نهر واحد بهدف احتكار مياه الأنهار لصالحها فقط، دون أي اعتبار لمصالح دول مرور ودول ومصبَّات هذه الأنهار، ومنها العراق والسودان ومصر.

والحق، فإن العالم العربي يتمتع بثلاثة من أعظم الأنهار في العالم، وهي النيل (السودان ومصر) والفرات (سوريا والعراق) ودجلة، أي الأنهار التي وهبت الحياة لأشقائنا المصريين والسودانيين، فجعلت منهم بناة أعظم حضارات التاريخ القديم، بالضبط كما فعلت مياه دجلة والفرات لسكان بلاد الرافدين.

حينذاك، لم يخطر ببال أي مواطن مصري أو سوداني أو عراقي بأنه يمكن أن يتهدد بمياهه الجارية منذ الأزل حتى اليوم. بَيْدَ أن التقدم العلمي، مع استشراء التنافس والأنانية قد أخذت مدياتها في لجم حقوق الإنسانية الأساس المعروفة: فراحت دول منابع الأنهار تستثمر احتكارها لهذه المنابع للأنهار العظمى الثلاثة أعلاه على سبيل الضغط على الدول التي تشاركها نِعم وبركات الأنهار التي حباها الله للشعوب المتشاطئة دون حكرها لشعب واحد. وهذا بالضبط ما حذر منه خبراء من الراسخين بالعلم كانوا قد تنبأوا بإمكانية توظيف مياه الأنهار أسلحةً في النزاعات الحدودية والخصومات الدولية. وإذا كانت حكومات الشقيقة تركيا المتتالية قد دشَّنت “التخويف” بتهديد “الأمن المائي” للعراق وسوريا، عندما خططت وباشرت بإنشاء سدود عملاقة عديدة على نهري دجلة والفرات، فإن إثيوبيا قد اتبعت خطواتها بعد بضع سنوات، مهدِّدة حياة الكتل السكانية المهولة المعتمدة على النيلين الأبيض والأزرق عبر السودان، وعلى نهر النيل المشكل منهما عبر وادي النيل العظيم بمصر.

إن ما يقلق المراقب (العربي، خصوصًا) إنما يتمثل في الشكوك القوية في قيام الأسرة الدولية بما هو ضروري من تطبيق القوانين والاتفاقات الدولية لتنظيم حصص المياه العادلة للدول المتشاطئة، وبالشكل الذي يمنع دول المنابع من توظيف مياه الأنهار أسلحة لاستغلال وتهديد دول المرور والمصبات. هذا، بدقَّة متناهية، هو ما حدث عبر “الخلافات” العراقية ـ التركية حول تحصيص مياه دجلة، والتركية ـ السورية ـ العراقية حول تحصيص مياه الفرات، وذلك بعد أن أعلنت تركيا أن لها الحق بأن تأخذ كل ما تريد من مياه النهرين العظيمين (دجلة والفرات)، لتترك الفائض منهما يجري إلى سوريا والعراق (الفرات) أو إلى العراق (في حالة نهر دجلة).

زد على ما تقدم من التعقيدات مشكلة الروافد التي ترفد نهر دجلة الرئيس بعد دخوله الأراضي العراقية، خصوصًا بعد أن لوَّحت إيران الآن بقطع واحد أو أكثر من هذه الروافد النابعة من أراضيها.

لذا، يكون العراق، كما هي الحال مع السودان ومصر، على المحك. وللمرء ترجيح سبل العقل والحوار والمسؤولية المشتركة على حساب التلويح بالعصا الغليظة كما تفعل بعض دول المنابع والممر على سبيل ابتزاز دول المصب والممر من خلال حجب المياه وإسالتها حسب الأهواء الأنانية، كما دار الحديث قبل سنوات عن مخاطر اليوم الذي يكون فيه: برميل ماء مقابل برميل نفط!