من الأمور المضحكة جدا ما حصل أخيرا باعتبار شهادة البكالوريوس الحدّ الأدنى لمن يتقدمُ للترشيح للانتخابات القادمة ، وكأنهم وضعوا أصابعهم على مكان الجرح وعرفوا سرّ فشل البرلمان في الدورات السابقة ، والطامة الكبرى أنهم يدركون جيدا أن الفشلَ المستمرَ المتواصل لا علاقة له بالشهادات ولا بالمستوى العلمي والثقافي للنائب لأسباب كثيرة ، هم يعرفونها قبلَ غيرهم . وحتى لو جعلوا شهادة الدكتوراه حداّ أدنى للمرشح فلن يتغيّرَ شيء على الاطلاق . فهذا البرلمان المسكين الذي وُلدَ بعملية قيصرية ماكرة ، ووُضعَ على مهد المحاصصة الطائفية والعرقية ، وتغذى بحليب الشياطين ، وتعرّض لأبشع عمليات الاغتصاب من قبل القوى المستحوذة على مفاتيح العملية السياسية ، لا يمكن أن يكون برلمانا كسائر البرلمانات المحترمة . ولا يحتاجُ النائبُ في مثل هذا البرلمان الى مستوى علمي وثقافي راقٍ يؤهلهُ للابداع وللابتكار ولايجاد الحلول طالما أنه مجرّدُ بيدقٍ تحركهُ القوى المتنافسة كما تتحرك البيادق على رقعة الشطرنج . بل كلّ المطلوب منهُ أن يفهمَ دوره وأن يجيد هذا الدور المرسوم لهُ من قبل سلاطين الكتل المتحكمة بمجريات الأحداث . عليه أن يعرف كيف يكملُ النصاب أو يكسرهُ بالجلوس في ( كافتريا البرلمان ) ، وعليه أن يجيد المشاكسات وفتل العضلات ، والصراخ والزعيق والتصفيق والنعيق ، والتطبيل والتهويل ، والموافقة أو الاعتراض دون أن يفهمَ لماذا وافق ولماذا اعترض . وان لم يستطع أن يلعبَ هذا الدور ، فعليه أن يبقى متفرجاً أو نائما بغفوةٍ عميقة ٍ ترحمهُ من آلام الصداع . وقد أثبتت الدورات البرلمانية السابقة هذا المفهوم بشكل واضح لا يقبل التشكيك أو التأويل . والذي تحدثتُ عنه ليس من باب الخيال المحض أو من باب السخرية المقصودة ، بل انه تجسيد حقيقي للواقع الذي هيمنَ على الدورات الثلاث من الألف الى الياء . وثمة أسئلة منطقية تعززُ ذلك المفهوم وتدحضُ أيّ اعتراض على ما تقدمتُ به . فماذا قدمّ أصحابُ الشهادات العليا تحت قبة البرلمان خلال دوراته الثلاث للشعب العراقي من انجازات ملموسة أوْ على أقل تقدير من اقتراحات ترتقي الى مستوى علمهم وثقافتهم ؟ وهل كان لهم الصوت المسموع الفعال لتغيير الواقع المؤلم الى واقعَ آخر مفعم بالآمال المنشودة ؟ وهل احترموا شهاداتهم العلمية ليقولوا لأولئك الفاشلين كفى ضحكاً على الذقون ؟ وهل خلعوا ثياب المحاصصة البغيضة وارتدوا بدلا عنها ثيابا حضارية تتناسبُ مع حجم شهاداتهم ؟ وهل واجهوا المعضلات والمشاكل الخلافية بشجاعة فائقة وبمنطق العلم – الذي هُم أهل لهُ – بدلاً من الصمت الذليل أو الجلوس في كافتيريا البرلمان تهرباً من المواجهة ؟ وهل فكرّوا – ولوْ لمرةٍ واحدة – أن يواجهوا الجهلَ والتشرذم وعمليات الكرّ والفرّ بأساليب علمية مقنعة تقودُ سفينة البرلمان الى برّ الأمان ؟ وهناك أكثر من علامة استفهام – لا مجال لذكرها هنا – تجعلني أقول وبمنتهى الثقة أن برلمان التفاهات لا يحتاجُ الى الشهادات .