البرانويا هي الشك الشديد , وهي حالة مرضية تعصف بالعقول والنفوس وتدمر الذات والموضوع , ويكون البشر مؤهلا للإصابة بها عندما يتمكن من الجلوس على كرسي الحكم والتسلط على الآخرين من حوله , خصوصا في المجتمعات التي تدين بالولاءات الفردية , والتي تمكن الأفراد منها للتحكم بزمام أمور البلاد والعباد , من غير رادع أو رقيب أو مساءلة قانونية ودستورية.
والواقع الأليم الذي ترزخ تحته العديد من المجتمعات تنبثق تداعياته من سطوة البرانويا على وعي الشخص الذي في الحكم , إذ يتملكه الشك بأقرب الناس إليه , ويدفعه لقتل الآخر والفتك به مهما كانت درجة قرابته أو علاقته به , وقد قرأنا عن قتل ذوي الكراسي إخوانهم وأبنائهم لأنهم تحسسوا فيهم نوايا السطوة على الكرسي وإزاحتهم منه.
وهذه مشكلة سلوكية بشرية معروفة على مر العصور والأزمان , ولها تداعياتها وتفاعلاتها المريرة القاسية التي ألقمت الشعوب الويلات تلو الويلات.
وفي العديد من الدول العربية تلعب آفة البرانويا الكرسوية دورها المروع في التفاعل ما بين السلطة والمواطنين , فتذيقهم الأمرّين وتساهم في العزلة ما بينهما والإبتعاد عن بعضهما , حتى تتحقق الكارثة وتسفك الدماء ويأتي مَن يؤدي ذات الدور , ويجلس على كراسي التسلط على الشعب , ويمضي مأخوذا بالبرانويا الموجعة التي تفقده النوم وتجعله متحفزا للإستجابات الإنعكاسية القاسية جدا.
وهذه العلة قد وعتها المجتمعات التي تمكنت من بناء أنظمة حكم متوازنة , تعلمت فيها أن توزع مراكز القوة وتمنع جماح التفاعلات البارانوية , وتضبط السلوك بقوانين ودستور يحافظ على التواصل الإنسيابي ما بين مراكز القوى الفاعلة في البلاد.
وبهذه الوسيلة إستطاعت أن تلغي الشكوك أو تصعفها وتقلل من دورها وأهميتها في صناعة القرار , فتمكنت من بناء بلدانها وتداول السلطات بإنسيابية وسلمية وقدرة على العطاء والتقدم وتوجيه الطاقات نحو القوة والنماء الإقتصادي والمعرفي والتكنولوجي , فسادت وتمكنت من بسط نفوذها على الحياة المعاصرة.
وبقيت المجتمعات المتأخرة في دوامة السلطات المزروعة بالشك والخالية من الطمأنينة والأمان , والتي يشيع فيها الفساد والإفساد والعمل بموجب آليات إستحواذية إبتزازية وقهرية تسلب المواطن حقه وتصادر حقوقه وتخرب دياره , وهو الذي لا يستطيع أن يقول شيئا ويكون مرهونا بقيد الحرمان من الحاجات.
ولكي تتقدم تلك المجتمعات عليها أن تحرر الكراسي من عاهة البرانويا , وتشافيها من السلوكيات الناجمة عنها , والتي تحطم وجودها الذاتي والموضوعي , وتدفع إلى الخسران العمل بالتضليل والبهتان.
فهل من كرسي جدير , ودستور أمير قدير؟!!