23 ديسمبر، 2024 12:19 ص

بدون مؤاخذة-زمن العطعطة الأمريكية

بدون مؤاخذة-زمن العطعطة الأمريكية

العَطْعَطَةُ لغة كما جاءت في لسان العرب: “تَتابُع الأَصوات واختلافُها فِي الْحَرْبِ”، والعطعطة ليست حكرا على أمّة أو دولة بعينها، بغضّ النّظر عن قوّة الدّول وحضارة شعوبها، فالولايات المتّحدة الأمريكيّة كونها الدّولة الأقوى عسكريّا واقتصاديّا في العالم، والتّي فرضت نفسها كشرطيّ يكتم أنفاس العالم، خصوصا بعد انهيار الاتّحاد السوفييتي ومجموعة الدّول الإشتراكية في بداية تسعينات القرن الفارط، تعيش حالة “عطعطة” غير مسبوقة، ومن أسباب ذلك أنّها لم تتعلّم من أخطائها السّابقة، وبلغت “العطعطة الأمريكيّة” ذروتها في عهد رئيسها السّابق الأرعن دونالد ترامب، الذي استطاع برعونته شقّ صفوف شعبه، وتأزيم علاقة بلاده مع الدّول الأخرى، بما فيها دول عظمى كروسيا والصّين، وفرضه الحصار الجائر على دول مثل إيران، سوريا فنزويلا وغيرها، حتّى باتت سياساته الحمقاء تهديدا للسّلم العالميّ، لكنّ طغيانه كان واضحا على الأمّة العربيّة ورضوخ حكّامها الذين ارتضوا التّبعيّة لأمريكا وحليفتها اسرائيل في محاولاتهم البائسة للحفاظ على عروشهم التي ينخرها سوس الفساد.

وفي محاولة من أمريكا للحفاظ على هيبتها بعد أن برزت قوى اقتصاديّة عملاقة جديدة مثل الهند والصّين وغيرها، وتهدّد مكانة أمريكا وسطوتها، فقد لجأت إلى محاولات بائسة لترميم ما يمكن ترميمه، بتقليص نفقاتها الخارجيّة ووجودها العسكريّ الخارجيّ، خصوصا في الشّرق الأوسط؛ لتترك مهمّة الحفاظ على مصالحها لوكلائها من الأنظمة بقيادة اسرائيل قاعدتها العسكريّة المتقدّمة في المنطقة. وها هي تجرّ أذيال الهزيمة في أفغانستان، فتلجأ بالقوّة العسكريّة إلى حماية موظّفيها ودبلوماسييها هي وحلفاؤها في مطار كابول، لترحيلهم بالسّرعة الممكنة بعد أن اجتاحت حركة طالبان معظم الأراضي الأفغانيّة بما فيها العاصمة كابول بسرعة فائقة أذهلت حتّى أمريكا نفسها. وأمريكا وحلفاؤها في حلف النّاتو اجتاحوا الأراضي الأفغانيّة بداية العام 2002 بعد أحداث 11 سبتمبر التي استهدفت فيها منظمة القاعدة برجي التّجارة العالمية في نيويورك ومبنى وزارة الدّفاع الأمريكية “البنتاجون” في واشنطن، ومع أنّهم دمرّوا أفغانستان وقتلوا وشرّدوا الملايين من شعبها، إلا أنّهم الآن يخرجون منها مهزومين، ويجري ترحيل سفراء أمريكا وبريطانيا وألمانيا، وغيرهم من حلف النّاتو تحت حماية عسكريّة مشدّدة من مطار كابول، تماما مثلما رحلّوا عام 1976سفيرهم في سايغون عاصمة فيتنام الجنوبيّة بطائرة هليوكبتر حطّت على سطح السّفارة بعد تحرير فيتنام الجنوبيّة، لتتوحّد فيتنام، وليتحوّل اسم “سايغون” إلى “هوتشي منه” الزّعيم الفيتنامي الذي قاد بلاده للنصر في حربها ضد الاحتلال الأمريكي.

وإذا كان كبار وكلاء أمريكا في أفغانستان مثل رئيس البلاد وكبار القادة العسكريين قد فرّوا لاجئين إلى الدّول المجاورة، فإنّ أعوانهم في مختلف المجالات لم يتمكنّوا من الهرب؛ ليبقوا رهائن تحت رحمة حركة طالبان التي حسمت الأمور لصالحها.

وبغضّ النّظر عن اختلافنا مع حركة طالبان وأيدولوجيّاتها وطروحاتها السّياسيّة إلا أنّ أحدا لا يستطيع أن ينكر إصرارها على الكفاح -رغم خسائرها الفادحة -لتحرير بلادها من الاحتلال الأجنبيّ، وها هي أمريكا تترك أفغانستان مهزومة تماما مثل هُزم الاتّحاد السوفييتي وأجبر على الانسحاب من أفغانستان عام 1989 بعد أن تكبّد هو الآخر خسائر فادحة.

ومن المضحك هو محاولة السلطان التركي أردوغان أن يبقي قواته في أفغانستان؛ تحت ذريعة تشغيل مطار كابول في محاولة منه كممثل لحلف النّاتو، ظنّا منه ومنهم أنّ الشعب الأفغاني سيقبل بهم لأنّهم مسلمون!

الهزيمة لوكلاء أمريكا

ولنستذكر هنا وكلاء أمريكا الذين حاربوا إلى جانبها ضد شعبهم ووطنهم، كيف تركت أمريكا غالبيتّهم خلفها بعد هزيمتها في فيتنام، وكمبوديا وغيرها في جنوب شرق آسيا، وكيف استبدلت أمريكا بعض وكلائها الذين استنفذت مهمّاتهم دون حروب مثل نظام حسني مبارك في مصر. ولنستذكر كيف تخلّت فرنسا عن وكلائها في الجزائر عندما انسحبت عام 1962 مهزومة أمام ضربات جبهة التّحرير الجزائريّة، في حين لا يزال من هربوا إلى فرنسا يشكلّون حتّى يومنا هذا عبئا على فرنسا ذاتها. وهكذا هي دول العالم جميعها تلقي بعملائها وجواسيسها إلى مزابل التّاريخ عندما يستنفذون مهمّاتهم. فهل يتّعظ كنوز أمريكا الإستراتيجيّة في المنظقة العربيّة ممّا جرى ويجري لأقرانهم من وكلاء دول العالم الثّالث الذين استنفذوا مهمّاتهم؟

وأمريكا التي أنهك اقتصادها حروبها الخارجيّة وأنفقت فيها عشرات تريليونات الدّولارات ستنزاح مرغمة عن قمّة الاقتصاد العالميّ، وعند انتهاء فيروس كورونا ستتربّع الصّين على هرم الاقتصاد العالميّ، وتتابع بناء قوّتها العسكريّة لتسود العالم، وأوّل الخاسرين من انحسار النّفوذ الأمريكي هو ربيبتها المدلّلة اسرائيل، وأنظمة التّبعية العرب، فإرادة الشّعوب لا تقهر.