18 ديسمبر، 2024 9:00 م

بدون مؤاخذة-تطبيق صفقة القرن عربيا

بدون مؤاخذة-تطبيق صفقة القرن عربيا

لا مبالغة في التّحليل إذا قلنا بأنّ الحركة الصهيونيّة ومنذ بداياتها وحتّى قبل إقامة دولة اسرائيل في 15 مايو 1948، وضعت نصب عينيها أنّ الصراع على فلسطين صراع وجود لا صراع حدود، وبالتّالي فقد أدارت الصّراع بناء على هذا الفهم الذي هو عقيدة صهيونيّة، وقد استغلّت ضياع الأمّة العربيّة كحكومات وكشعوب، فكانت تقبل ومن باب إدارة الصّراع بما يرفضه العرب الذين مثّلت حكوماتهم “أسوأ محامي لأعدل قضيّة”، ومن هذا المنطلق قبل قادة الحركة الصهيونيّة بقرار -181- المعروف بقرار التقسيم الصادر عن الجمعية العموميّة للأمم المتّحدة في 29 نوفمبر 1947، أي قبل قيام دولة اسرائيل بحوالي ستّة أشهر؛ لأنّ العرب رفضوه. وواصلت اسرائيل بطاحونة إعلام هائلة الدّعوة للسّلام! لكسب الرّأي العام العالميّ، في وقت كان فيه الإعلام العربي “يدعو إلى القضاء على اسرائيل ورمي اليهود في البحر”، ولا يغيّب هذا عن البال أنّ الطّروحات “العربيّة” الرسميّة كانت تصبّ في خدمة الحركة الصّهيونيّة واسرائيل، وقد يكون ذلك مقصودا من حكومات وقيادات عربيّة ساهمت بشكل وآخر بقيام اسرائيل، التي ظهرت “كمحبّة للسّلام”! وقامت باعتداءات وحروب على دول الجوار مثل مشاركتها في العدوان على مصر في اكتوبر 1956. وما تلاها في حرب عام 1967 وما تمخّضت عنه من احتلال ما تبقى من فلسطين ومرتفعات الجولان السوريّة وصحراء سيناء المصريّة. ثمّ جاءت حرب اكتوبر 1973 كتحريك للصّراع تمهيدا للحلول التي ارتضاها الرّئيس المصري أنور السّادات، وبعدها وفي صيف العام 1982 جاء الغزو الإسرائيلي للبنان للقضاء على المقاومة الفلسطينيّة، وجرى احتلال العاصمة اللبنانيّة بيروت، كما تمّ إخراج الفصائل الفلسطينية من لبنان، ودون الخوض في تفاصيل كثيرة وعندما قبل العرب ومن ضمنهم قيادة منظّمة التّحرير الفلسطينيّة بقرارات الشّرعيّة الدّوليّة، ظهر الوجه الحقيقي لإسرائيل، فصارت ومن ورائها أمريكا تروّج لاتّفاقات ثنائيّة دون ذكر قرارات الشّرعيّة الدّوليّة، وتجلى ذلك فيما قاله اسحاق شامير رئيس وزراء اسرائيل عام 1991، عندما أرغمه الرّئيس الأمريكي جورج بوش الأب على المشاركة في مؤتمر مدريد في اكتوبر 1991 “كمكافأة” لبعض القادة العرب لمشاركتهم في حرب الخليج الأولى، التي أخرجت الجيش العراقي من الكويت. حيث قال شامير”سأفاوض العرب عشر سنوات ولن أتنازل لهم عن شيء”، وقد نجحت أمريكا واسرائيل في تفتيت الموقف العربيّ عندما تخلّى العرب عن وفد عربيّ واحد وقبلوا بوفود منفردة، وأشركوا منظمة التحرير ضمن الوفد الأردنيّ. وقد صدق شامير فيما قاله، فلم تتنازل اسرائيل عن شيء للعرب. وكانت الخطيئة الفلسطينيّة في اتّفاقات أوسلو التي جرى توقيعها في سبتمبر 1993، والتي حصل الفلسطينيون فيها على إدارة مدنيّة على أقلّ من 40% من مساحة الأراضي المحتلّة عام 1967.

ومع كلّ الخلل الذي صاحب اتّفاقات أوسلو إلا أنّ اسرائيل لم تنفّذ هذه الاتّفاقات، وفاوضت منظّمة التّحرير التي اعترفت بإسرائيل كدولة، في حين اعترفت اسرائيل بمنظّمة التّحرير، وفي الوقت الذي كانت اسرائيل تخدع الرّأي العام العالميّ بتصريحات قادتها وموافقتهم على حلّ الدّولتين، إلا أنّها كانت تفرض حقائق استيطانيّة على الأرض تمنع إقامة الدّولة الفلسطينيّة.

مبادرة السّلام العربيّة وصفقة القرن

عندما طرح عام 2002 وليّ العهد السّعودي في حينه الأمير عبدالله بن عبد العزيز “مبادرة السّلام العربيّة”، صرّح عدد من قادة اسرائيل ومن ضمنهم بنيامين نتنياهو “أنّ في المبادرة العربيّة جوانب إيجابيّة”! وكانوا يقصدون البند الخاص باعتراف الدّول العربيّة والإسلاميّة بإسرائيل! دون تطبيق البنود الأخرى التي تنص على الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي المحتلة، وإقامة دولة فلسطين بعاصمتها القدس. وفي الوقت الذي واصلت اسرائيل مفاوضاتها العبثية مع السلطة الفلسطينيّة، وتواصل في الوقت نفسه سباقها الجنوني في الاستيطان وتهويد القدس بشكل خاص، والضّفة الغربيّة بشكل عام، كانت تواصل مفاوضاتها السّرّيّة مع الدّول العربيّة، التي رضخت لإسرائيل بضغوطات أمريكيّة، حتّى أنّ نتنياهو صرّح أكثر من مرّة” لقد مللنا الاتّفاقات السّرّيّة مع الدّول العربيّة، ويجب أن تخرج إلى العلن.

التّمهيد لصفقة القرن

لم تتوقّف يوما واحدا المخطّطات الأمريكيّة الإسرائيليّة لتصفية القضية الفلسطينيّة لصالح المشروع الصّهيوني التّوسّعيّ، وقد اتّخذت هذه المخطّطات مناحي كثيرة، منها احتلال العراق وهدم دولته وقتل وتشريد شعبه في العام 2003، وما سبق ذلك من إثارة حروب داخليةّ مثل العشريّة السوّداء في الجزائر بين 1992-2002، وتقسيم السودان عام 2006، وتدمير الاقتصاد المصري في عهد حسني مبارك، وتبع ذلك ما سمّي بالرّبيع العربيّ، وتغذية الحروب الدّاخلية من خلال تجنيد قوى الإرهاب التي تستّرت بالدّين، مثلما جرى في سوريا والعراق، وإسقاط نظام القذافي في ليبيا، ثم الحرب على اليمن في العام 2015، وحصار لبنان لتدمير اقتصاده في محاولة لتصفية حزب الله اللبناني. والحروب على قطاع غزة في 2008 و2014 و2021 لتصفية المقاومة.

تغيير الأولويّات

جرى التّركيز على تغذية الطّائفيّة الدّينيّة بين السّنّة والشّيعة، بعد أن فشلت الطّائفيّة بين المسلمين والمسيحيين والتي أشعلت حربا أهليّة عام 1974 في لبنان واستمرّت لسنوات، وكل ذلك في محاولة لتطبيق المشروع الأمريكيّ “الشّرق الأوسط الجديد” لإعادة تقسيم الشّرق الأوسط لدويلات طائفيّة متناحرة، لتدمير وتفتيت المنطقة؛ لتكون السّيادة المطلقة فيها لإسرائيل بعد تصفية القضيّة الفلسطينيّة. ولهذا لجأت أمريكا ومن ورائها اسرائيل لشيطنة إيران وإظهارها بمظهر العدوّ الأوّل للعرب وللإسلام السّنّيّ. وجرى تجييش وسائل الإعلام لهذا الغرض، كما جرى تجنيد رجال دين ومثقفين للقيام بهذه المهمّة، التي صاحبها مفاوضات سرّيّة بين دول عربيّة واسرائيل تمخّضت عن تنسيقات وتعاون أمني وعسكري بين دول عربيّة وإسرائيل.

صفقة القرن

بعد أن ضمنت أمريكا وحليفتها اسرائيل رضوخ أنظمة عربيّة لها كشفت عن أنيابها مرّة واحدة، فاعترفت إدارة الرّئيس الأمريكي السابق ترامب في 6 ديسمبر بالقدس عاصمة لإسرائيل، واتّخذ قرارات معادية للحقوق الفلسطينيّة مثل اغلاق مكتب منظمة التّحرير في واشنطن، وقطع المساعدات عن السلطة الفلسطينيّة، وعن وكالة غوث اللاجئين لتصفية قضيّة اللاجئين، وانسحب من منظّمة حقوق الإنسان ومن عدة منظّمات دولية؛ لأنّها أدانت تصرّفات اسرئيل في الأراضي الفلسطينيّة. كما اعترف بالجولان السّوريّة المحتلة كجزء من اسرائيل.

وفي يناير 2020 أعلن عمّا سمّاه صفقة القرن التي أملاها عليه نتنياهو، كدعم من ترامب لنتنياهو في الانتخابات التشريعيّة الإسرائيّليّة وكتصفية نهائية للقضية الفلسطينيّة، ولم يعارضه بشكل واضح سوى قيادة السّلطة الفلسطينيّة والقيادة الأردنيّة والجزائر وسوريا ولبنان رغم انشغالهما بأوضاعهما الدّاخليّة.

دور الأنظمة العربية

قبل أن يخسر ترامب انتخابات الرّئاسة الأمريكيّة التي جرت في نوفمبر الماضي بثلاثة أشهر، وفي محاولة منه لكسب أصوات اللوبي اليهودي، أعلن عن تطبيع العلاقات بين الإمارات العربيّة والبحرين من جهة، وبين اسرائيل، وتبعتها المغرب والسّودان، ولو لم يخسر ترامب الانتخابات لظهرت أنظمة أخرى تطبّع علاقاتها مع اسرائيل، ورغم أن بايدن الرّئيس الأمريكي الحالي، أعلن عن قبوله بحلّ الدّولتين، وأنّه ينوي إعادة فتح القنصليّة الأمريكيّة في القدس العربيّة المحتلة، إلا أنّه لم يعلن عن إلغاء صفقة القرن، ولم ينفّذ نقل القنصليّة إلى القدس، ولم يعمل شيئا ذا قيمة لإنهاء الصّراع.

وممّا أعلن في وسائل الإعلام أنّ علاقات بعض الأنطمة العربيّة مع اسرائيل ليست جديدة، فمثلا الإمارات العربيّة والبحرين علاقاتهما مع اسرائيل منذ عام 1996. وقطر تقيم علاقات مع اسرائيل منذ أكثر من ثلاثة عقود، والمغرب من خمسينات القرن العشرين عندما سهّل الملك الحسن الثاني هجرة اليهود المغاربة إلى فلسطين، والسعوديّة تنسّق مع اسرائيل أمنيّا منذ سنوات لمواجهة ما يسمّى الخطر الإيراني! وقد تصل الأمور إلى تحالفات عسكريّة لمهاجمة ايران عسكريا، بحجة خطرها النّووي، والغريب أنّ السلاح النّووي الإسرائيلي غير وارد في حسابات بعض القادة العرب، تماما مثلما هو خطر الاحتلال الإسرائيلي لم يعد يشكل خطرا على أنظمة تعادي شعوبها وتحتمي بقاهريهم.

ورغم أنّ صفقة القرن “النتنياهو ترامبية” قد سقطت علنا، إلا أنّه يجري تطبيقها على واقع الأرض، فالإستيطان مستمر بشكل جنونيّ، وبعض الدّول العربيّة كالإمارات تستورد منتجات المستوطنات، وتجري صفقات مالية ضخمة فالإمارات تموّل تهويد القدس من خلال وادي “السليكون” الذي سيبنى على الأراضي الفلسطينية في القدس، ويمتد من الشيخ جراح شمالا إلى حيّ البستان في سلوان جنوبا مرورا بواد الجوز. كما هناك استثمارات متبادلة ستساعد في ترسيخ الاحتلال، والذي لم يعد غريبا أنّ أنظمة عربيّة اعتبرت تطبيع كنوز أمريكا الاستراتيجية في المنطقة العربية مع اسرائيل قرارا سياديّا! فعن أي سيادة يتكلمون؟

لذا فلا غرابة من تصريحات بانيت رئيس الحكومة الإسرائيليّة بأن لا حلول للصراع، ويؤكد أنّه وحكومته ضد قيام دولة فلسطينية، ويواصل الاستيطان في الضّفة الغربيذة وجوهرتها القدس، وهو مطمئن لتحالفاته مع أنظمة عربيّة، وبدعم صديقته الكبرى أمريكا.