18 ديسمبر، 2024 7:50 م

بدون ذكر “أسماء”

بدون ذكر “أسماء”

بات من النادر في العقد الأخير وجود أعمالٍ فنية ذات قيمة على امتداد الدول العربية بكل تجرد، وبرغم مرور قرابة ١١ عاماً على صدور هذا الفيلم قررت تناوله على غير العادة كون قصته مستمرة بشخصياته، بفلسفته، بأفكاره وتشعباته منعكسةً على الكثير من جوانب الحياة التي قد تبدو للوهلة الأولى بعيدةً عن أحداثه لكن ظلاله تصل إلى مختلف الفئات، فهو مستوحىً من أحداث ٍ حقيقية وصودف أنني التقيت بأكثر من نموذج على أرض الواقع يعيشون حالةً (تقترب) من حالة السيدة التي حمل الفيلم إسمها وجسد حكايتها.. حكاية (أسماء)..

بلا شك تمكنت الممثلة التونسية هند صبري من تقديم أداءٍ خاص جداً في هذا العمل عبر الإمساك بتفاصيل الشخصية واعطائها حقها بتقديمها كما يجب بأبعادها وأوجاعها إلى جانب إتقان اللهجة الريفية بعيداً عن التصنع أو المبالغة وبصدقٍ واضح عكس محبتها للدور الذي جسدته.. فمن يلمح (أسماء) تلك الفتاة المنطلقة المحبة للحياة والمختلفة عن بقية فتيات الريف لن يتوقع أن تعيش العديد من التحولات بعد زواجها في مجتمعٍ محافظ تصر فيه على العمل، وهو ما يتسبب لها في بعض المشاكل التي تؤدي إلى دخول زوجها إلى السجن بعد قتله بطريق الخطأ لرجلٍ ضربها أمام أهل القرية مما جعله يثأر لكرامتها، وهو الحدث الذي سيغير حياته وحياتها إلى الأبد ..

وبعد دخول زوجها إلى السجن يتضح أنه قد تمت إصابته بڤيروس نقص المناعة المكتسبة (الإيدز) وهو ما تعمد صناع الفيلم تركه مبهماً للمشاهد لبناء وعي بما ستعانيه (أسماء) لاحقاً بعيداً عن النظرة السطحية والأحكام المسبقة التي تطال هذه الفئة من المرضى، فيرفض زوجها بعد خروجه من السجن الحياة معها بشكلٍ طبيعي كأي زوجين خوفاً من انتقال المرض إليها وهو ما يزيد من شعوره بالعزلة والكآبة وتبدد حلمه في الإنجاب، لكنها تكذب عليه وتخبره بحملها لنفس المرض الذي تجهل تفاصيله وأبعاده في محاولةٍ منها لرفع معنوياته وكسر وحدته خاصةً بعد شعورها بالمسؤولية عن دخوله إلى السجن وهو ما يؤدي إلى حملها وانتقال المرض إليها، ثم تتسارع الأحداث بعد وفاة زوجها فتنجب طفلةً سليمة لا تحمل المرض لكنها تضطر إلى الرحيل معها إلى العاصمة بعيداً عن عائلة زوجها وضغوط أهل القرية لتبدأ رحلة ً طويلة من التعايش الكابوسي مع مرض (الإيدز) الذي تسعى جاهدةً إلى إخفائه عن الجميع بما فيهم ابنتها، حتى اقالتها من عملها بعد اضطرارها لتقديم بعض الأوراق الطبية المطلوبة ورفض زملائها لوجودها بينهم خوفاً من شبح المرض..

إلى هنا تبدو الأحداث مألوفة ولكن ما يغير مجراها هو إصابتها بإلتهابٍ شديد في المرارة يتطلب تدخلاً جراحياً لإستئصالها، لكنها تفاجأ برفض المستشفيات لإستقبالها بسبب المرض الذي تحمله من جهة، وبسبب رفضها أي سؤالٍ يوجه إليها عن الطريقة التي انتقل بها المرض إليها من جهة أخرى، معتبرةً مجرد السؤال نوعاً من التشكيك في شرفها وأخلاقها وهو ما لا تقبله بحقها أو حق زوجها الراحل، مما يجعلها تعيش تحت وطأة الوجع والنوبات المتكررة التي تلجأ فيها إلى المسكنات لتسكين حدتها في انتظار فرصةٍ للعلاج، ولا تجد حلاً سوى بالظهور في أحد البرامج الحوارية المسائية لعرض مشكلتها بعد الكثير من المحاولات والأخذ والرد حول الطريقة التي ستظهر بها خاصةً وأنها منتظمة ضمن إحدى الجمعيات التي تقوم بإحتواء حاملي المرض وتثقيفهم ودعمهم نفسياً..

مما يجعلها في صراعٍ بين آلامها المرتبطة بإلتزامها الصمت وخوفها من نظرة المجتمع لها، وبين البوح علناً في برنامج تلفزيوني مما قد يلفت النظر إلى معاناتها وسط وضعٍ متشابك قد يعطيها فرصةً لإجراء العملية، إلى جانب سعي الإعلام إلى تحقيق سبق من خلال عرض قصتها بملامح واضحة للجمهور يقابله عرض زواج من رجل ميسور ومصاب بالإيدز في نفس الجمعية التي تذهب إليها بإستمرار لكنه يرفض أن تظهر في البرنامج دون تغطية وجهها كي لا تلاحقهما وصمة هذا المرض في حال ارتباطه بها، وبين كل هذه المشاكل تتخذ قرارها بالمواجهة بعد دعم ابنتها لها فتقرر أن تبوح بمرضها، وبالآلام التي تشعر بها وبالتمييز الذي تواجهه من المجتمع لتقول جملتها المعروفة ( أنا لو مت مش هموت من المرض اللي عندي، أنا هموت من المرض اللي عندكم أنتم)..

تحمل الدقائق الأخيرة من الفيلم كميةً من المشاعر المختلطة بين الخوف والألم والترقب والتفاجأ حتى بين الشخصيات الرئيسية التي تدفعها الحالة ككل لإتخاذ قراراتٍ لم تكن في حسبانهم، فقرار البوح الذي اتخذته (أسماء) فاجأ المذيع الذي كانت في ضيافته ليعلن بطريقة غير مباشرة عن تكفله بعلاجها في لحظة تأثر لم يخطط لها، ينتهي البرنامج وتنهض بخطواتٍ متثاقلة أنهكها الألم فتأتي معدة البرنامج لمعانقتها بصدق تستغربه (أسماء) وكأن جزءاً من انسانيتها ومشاعرها مات ولم تعد تصدق معه أن هناك من يود حتى الإقتراب منها أو حتى مصافحتها بسبب مرضها لذلك كانت نظراتها معبرةً جداً لتتحول إلى شعورٍ أعمق في ثوانٍ معدودة عندما سألتها المعدة هل تريدين أن يوصلك أحد إلى المنزل؟ لتلتفت بشكلٍ عفوي تجاه المقعد الذي كان يجلس عليه الرجل الذي كان يرافقها ويرغب في الإرتباط بها وتراه ببساطة خاوياً.. فتهز رأسها بالنفي وفي عينيها دموعٌ حبيسة تتوارى خلف نظرةٍ توقعت تلك الخيبة لكن ليس بتلك الطريقة أو بتلك السرعة.. وتعود أدراجها وحيدة وسط انتظار أهل الحي لها بعد ظهورها على التلفاز.. وهي تتذكر اجابتها عن أحد الأسئلة في الجمعية التي تذهب إليها.. ماذا تتمنين؟
لتكون اجابتها.. الكثير من الأشياء لكني أتمنى أن أكف عن الخوف.. الخوف من نفاذ الدواء.. الخوف من نوبات الألم.. الخوف من كلام الناس.. الخوف على ابنتي.. ربما لو انتهى خوفي.. ربما.. سأشعر أنني على قيد الحياة..

في القصة الواقعية توفيت (أسماء) لعدم قدرتها على إجراء العملية.. ولم تحظى بالمساعدة لأنها رفضت ظهور ملامحها ولم يتعاطف معها الكثيرون، وفي قصتها وفي الكثير من القصص المستوحاة من الحياة اليومية يواجه الناس ظروفاً قاسية بسبب جهل المجتمع ونظرته القاصرة والذي لم يلتفت إلى معاناتهم إلا نادراً، كما يواجهون التخلي عنهم وخذلانهم في وقت شدتهم من أقرب الناس إليهم عدا عن عجزهم عن تحصيل حقوقهم وعدم تواجد نظامٍ أو تأمين يحفظ لهم كرامتهم دون أن يكونوا رهينة لنظرة فئة أياً كانت، لأنهم وحدهم من عانى ويلات المرض وتداعياته الإجتماعية والنفسية عليهم ووحدهم من عايش الموت مراراً دون أن يموت، وعند وفاتهم يتم تحاشي ذكرهم.. ربما كي لا يذكر الناس أنهم كانوا سبباً في تعذيب روحٍ عاشت شبه حياة ورحلت في صمتٍ شديد دون تفاصيل وبدون ذكر (أسماء)..