23 ديسمبر، 2024 2:48 ص

بدر شاكر السيَّاب.. شاعر صوتهُ من الماء

بدر شاكر السيَّاب.. شاعر صوتهُ من الماء

قبل أكثر من نصف قرنٍ وبالتحديد في الرابعِ والعشرين من ديسمبر عام 1964 مات الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السيَّاب في المشفى الأميري في الكويت وشُيِّع في يومٍ ماطرٍ ليوارى الثرى في مقبرة الحسن البصري في مدينة الزبير بجنوب العراق في جنازةٍ كادتْ أن تخلو من المشيِّعين.. مات فقيراً معدماً إلا من جذوةِ الشعرِ الذهبية ونارهِ المقدَّسة الخالدة.
ما الذي سيبقى من شاعر المطر بعد كلِّ المياه التي جرت تحت جسر الشعر العربي والانقلابات الشعرية والتطورات الدرامية التي حصلت بعده على مستوى القصيدة العربية؟ مجازياً يبقى كل شيء.. رائحةُ المطر الخريفي.. عطرُ آب.. اللغة الحالمة الرومانسية.. الألوان الجميلة الخلبيَّة.. برزحُ الأحلام.. لسعةُ الاغتراب الجميلة.. الواقعية الشعرية الجديدة.. كلُّ شيء تقريباً.. ولكن هذا السؤال ربما سيظلُّ مفتوحاً على مصراعيه رغم مئات الدراسات التي حسب ظني لم يحظَ بمثلها أي شاعر سواه والتي كُتبتْ عن تأثير هذا الشاعر المبدع الفذ الذي عرفَ كيفَ يغرسُ وردة القلقِ والجمال في رمادِ قلوبِ حوَّارييه الكثيرين.. في تجارب شعراء الحداثة العرب الذينَ خرجوا من معطفهِ وشكَّل لهم بدر أباً شعرياً استثنائياً.
رحلَ بعدما طوَّف مع جلجامشَ في مغامراتهِ وشبعَ من الحياة بعدما عاشَ طويلاً وصاحبَ عوليسَ في ضياعهِ على حدِّ تعبيره.. ليسألَ في النهايةِ : ألا يكفي هذا؟
السيَّاب بكوكبه الشعريِّ المتوهج لا يزالُ يشعُّ بقوَّة حتى بعدَ نصف قرنٍ من الزمن على رحيلهِ ولا زالت شظاياه تلمعُ في ليلِ الشعرِ العربي وعلى أصابعِ أتباعهِ وستلمعُ إلى الأبد.
أتذكرُّ خريفَ عام 1996 حينَ بدأتُ أتعرَّف على تجربتهِ بعمق كيفَ كانَ يأخذني بحركة سحريَّةٍ ناعمة إلى عوالمهِ الموسومة بالضبابِ الضوئي ولغته الرومانسية الثائرة المليئة بالصور البديعة والملتقطة بحساسية عالية لأوج اللحظة الشعورية.. حينها لم أكن قد تخلَّصتُ بعدُ من تأثير كثيرين على رأسهم أمير الشعراء أحمد شوقي وأرستقراطية صوتهِ الشعري.. في هذه السنة قرأت بدراً أكثر من مرَّة وفرحتُ بمنجزه الشعري المختلف في ديوانهِ الصادر في جزئين عن دار العودة وسرعان ما اكتشفُ أنني أنتمي إلى لغةِ بدرِ الحالمة وقصائده المنفعلة وحميمية الخطاب الشعري الذاتي.. الانفلاتُ السيابي من طوقِ التفعيلة الخليلية كان يعجبني فهو بالنسبة لي شكَّلَ بوابةَ لحديقة الحداثة الشعرية ولاستيعاب شعريَّات عربية لاحقة.
كانَ بدر يكافحُ الموتَ بالقصيدة أو كمن يبعدهُ بها عن جسدهِ النحيلِ ليكتبَ حتى انطفاءِ النفَس.. وأعتقد أن أجمل وصف أسطوري للسيَّاب هو ما قالهُ أنسي الحاج عنهُ بأنه (جاهلي بدوي فولكلوري خرافي انكلوسكسوني على واقعي هجاء ورثّاء مدّاح بكّاء، يسيل به الشعر سيل قريحة فارطة، ويسيل معه الشعر حتى الموت).
يقول يوسف الخال في تقديمه لكتاب عيسى بُلّاطــــــة، بدر شاكر السياب، حياته وشعره:”… السياب، في حياته وموته، مأساة قلما عرفها الشعر في كل تاريخه. وكم كان يذكرني بأيوب..” فيما يقول بدرعن مهمة الشاعر “لو أردتُ أن أتمثّل الشاعر الحديث، لما وجدتُ أقرب الى صورته من الصورة التي انطبعت في ذهني للقديس يوحنا، وقد افترست عينيه رؤياه وهو يبصر الخطايا السبع تطبق على العالم كأنها اخطبوط هائل”.
لا أعرف لماذا ربط بدر في قصيدته الجميلة (ليلى) الحبَّ بالأخوَّة والأمومة غير البيولوجيتين؟ هل لأنه كانَ يبحث عن تلك التي تحبه بعطف الأخت وحنان الأم التي حُرمَ منها صغيراً وهو ابنُ السادسة..؟ كانَ بطبعه الطفولي يحسُّ أن هناك عاطفةً ما تنقصُ قلوب اللواتي تعلَّقَ بهنَّ عبثاً وقد كنَّ كثيرات.. تكشفُ لنا الدراسات الكثيرة والمهمة عن السياب وشِعرهِ كم كان يحترم العلم ويوليهِ أهميَّةً في الكثير من قصائدهِ.. وكانَ يعني جيِّداً ما يقولُ.. وقد لمستُ ذلكَ في الكثير من أشعارهِ وأخصُّ أنشودة المطر والمومس العمياء.. تماماً كما يعني أي شاعر مغاير.. استفزازي ما يريد قولهُ حتى ولو لم يفصح..
أستعيرُ عدةَ أبياتٍ من قصيدتهِ التي كتبها قبل نصف قرنٍ والتي أصمتُ أمام روعتها.. واشعرُ كأنَّ حقيقةً علميةً أخرى متواريةٌ فيها..
ليلى هواي الذي راح الزمان به
و كاد يفلت من كفيَّ بالداءِ
حنانها كحنان الأم دثرَّني
فأذهبَ الداء عن قلبي و أعضائي
أختي التي عرضها عرضي و عفَّتها
تاجٌ أتيهُ بهِ بين الأخلاءِ
السيَّاب قالَ كلمتهُ ومضى تاركاً الكثير من عواصف النقدِ خلفهُ ولكنهُ في نظري أحد أهمِّ الشعراء الذينَ صنعوا أسطورتهم الذاتية بكل حذق ومهارة وذكاء فطري.