23 نوفمبر، 2024 12:52 ص
Search
Close this search box.

بدايات ظهور التشيع في كوردستان

بدايات ظهور التشيع في كوردستان

مما لا شك فيه أن أول اتصال جرى بين المسلمين الفاتحين والكورد كان في سنة 16هـ/637م في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وما بعدها، عندما استطاعت الجيوش الإسلامية الانتصار على الجيوش الفارسية الساسانية في معارك القادسية وجلولاء ونهاوند (فتح الفتوح)، حيث كان من نتائجها وصول المسلمين الفاتحين إلى المنطقة الكوردية، وحصل آنذاك أول احتكاك معهم، حيث كانوا يعتنقون آنذاك عدة ديانات ومذاهب: الزرادشتية والميثرائية والوثنية، بالإضافة إلى اليهودية والنصرانية، ومن ذلك الوقت ولعدة سنوات بدأ الكورد يدخلون في دين الإسلام أفواجاً.
وفي غضون عقود قليلة بدأت عملية أسلمة المجتمع الكوردي تمشي على قدم وساق، لملائمة الإسلام فطرة الكورد، ولسهولته وسماحته عكس التعقيدات وصعوبة الطقوس التعبّدية في دياناتهم القديمة التي أثقلت كاهل الكورد، ولم تمضِ سنوات حتى كان غالبية المجتمع الكوردي قد أسلم، وأما الروايات والتقاليد الشفهية التي تؤكد وجود تجمّعات زرادشتية داخل المناطق الكوردية بعد الفتح الإسلامي بعدّة قرون، وتحديداً في منطقة (هاورامان) الواقعة حالياً على الحدود العراقية الإيرانية شرق مدينة السليمانية، فيبدو أن تلك التجمّعات كانت من القلّة بحيث لا تؤثر على مجمل التحولات الدينية والسياسية والاجتماعية التي سادت هذا الجزء القصيّ والوعر من بلاد الكورد.
يبدو أن اعتناق الكورد مذهب التشيّع قد حدث في القرون المتأخرة، حيث إن التشيّع لم يتحول إلى فرقة أو طائفة إلا بعد القرن الثالث الهجري، وأخذ شكله وطبيعته البنيوية الخاصة به في العصر البويهي وما تلاه، حيث كُتبت في هذه الفترة المصنفات الحديثية الأربعة لعلماء التشيّع، فضلاً أنّ الكُليني، صاحب كتاب (الكافي)، رتّب مع آخرين ممن يُدعون (سفراء المهدي المنتظر) كالخلاني وغيره، الغيبَتين الصغرى والكبرى، التي حددت سنة 329هـ بعد وفاة الكليني بسنة واحدة، مما أدّى إلى بروز هذا الجانب الاعتقادي، وأخذت الإضافات تأتي عليه تترى من قِبَل ما يُسمَّون بعلماء القوم إلى أن اكتملت صورته في العصر الصفوي في القرن التاسع الهجري /السادس عشر الميلادي، وظهر إلى الوجود لأول مرة كيان شيعي في ظل دولة تطبِّقه تحت شعار (وكالة الإمام المهدي).

وفُرض اعتناق هذا المذهب على سكان الهضبة الإيرانية بالقوة والقسوة الشديدة باعتراف المؤرخين الإيرانيين، وتمَّ إضافة طقوس عديدة عليه، كالسجود على التربة الحسينية، وتعظيم الشاهات (الملوك الصفويين) بالسجود، فضلاً عن إضافة الشهادة الثالثة (أشهد أن علياً وليّ الله)، إلى أن وصل الأمر وبعد تراكمات وإضافات عديدة أن أصبح ديناً بالمفهوم التقليدي، وعلى خلاف تام في العديد من الاعتقادات والشعائر عن المذهب السّنّي السائد آنذاك في الدولتين العثمانية والدولة المغولية في الجانبين الغربي والشرقي من الهضبة الإيرانية.

أما النشاط الذي بدأه دعاة المذهب الإسماعيلي اعتباراً من سنة 260هـ/873م حسب رواية المسعودي، والجهود الحثيثة التي قام بها أئمة الشيعة الزيدية المعروفين بـ(الدعاة ) لتأسيس كيان سياسي لهم في إقليم طبرستان جنوب بحر قزوين ابتداءً من سنة 250هـ/864م وانتهاءً بسنة 316هـ/928م، كل ما سبق أدّى دون شك إلى حدوث خلل بنيوي في مرتكزات أهل السُّنّة والجماعة تمخّض عن إدخال مناطق عديدة ضمن النطاق الشيعي بعد أن كانت حكراً على المذاهب السنّية، وقد حرص القادة العبيديون (الفاطميون) في مصر على استثمار كل الجهود من أجل نشر أفكارهم عن طريق إرسال الدعاة، فها هو الخليفة المعز (ت: 365هـ/975م) يقول في خطاب له إلى الحسن القرمطي: “ومع هذا فما من جزيرة في الأرض ولا إقليم إلا ولنا فيه حجج ودعاة إلينا يدلّون علينا بتصاريف الألسن، وفي كل جزيرة وإقليم رجالٌ، منهم يفقهون وعنهم يأخذون…”.
وقد أشار الوزير السلجوقي (نظام الملك) إلى نشاط الباطنية وكيفية ظهورهم، بأن عبد الله بن ميمون كان يدعو الناس إلى هذا المذهب في قوهستان العراق (إقليم الجبال- كوردستان ولورستان الحالية)، وأنه استخلف رجلاً يدعى خلفاً ، قال له: “امضِ إلى جانب الري بالقرب من طهران الحالية، وادعُ إلى الشيعة، فالناس في الري وقم وكاشان رافضة كلهم، وسيستجيبون لدعوتك بسرعة، فيعظم أمرك هناك ويعلو شأنك”.

ومن جانب آخر فإن النفوذ العبيدي (الفاطمي) قد زاد في أقاليم الدولة العباسية، نتيجة تشجيع البويهيين المذهب الشيعي الذي يدينون به، وهذا ما سهل إلى حدٍّ كبير مهمة الداعية العبيدي (موسى بن عمران الشيرازي) والد المؤيد الذي كان حُجةَ فارس – سفيرٌ إسماعيليٌ سرّيٌّ – أيام الوزير أبي غالب الواسطي وزير بهاء الدولة وسلطان الدولة، وقد تمتّع هذا الداعية العبيدي بمكانة سامية، حتى إن الوزير (فخر الملك) زاره أكثر من مرة في منزله، وفيما بعد خلفه في منصبه حجة فارس ابنه (هبة الله الشيرازي) الذي اتخذ لقب المؤيد لدين الله.
وكان نشاط الدعاة العبيديين في العراق وفارس جنوب إيران، إلى جانب رسائل (إخوان الصفا) في البصرة، والنشاط الصوفي المكثف الذي امتزج بالفلسفة حتى سمّاهم الغزالي (الصوفية المتفلسفة) وتقاربها مع الشيعة على أساس وجود مبادئ متشابهة، حيث تتقارب شخصية علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – الشيعية والصوفية في موضوع التقديس الغالي للأشخاص، فضلاً عن الأبوة العضوية والروحية للطرفين، كل ذلك قد مهّد الأرضية المناسبة لظهور حركات الغلو الباطنية الممزوجة بالتشيّع والتصوّف الفلسفي تحت مسميات متعددة، كـ: الحروفية والبكتاشية، والمشعشعية، والبابية، ولا سيما أن قضاء المغول على الخلافة العباسية سمح للصوفية بتطوير عقائدهم والسير بها خطوات أخرى، حيث أعرضوا عن الحل الجزئي لتحلّ محلّه فكرة الاتحاد المطلق مع الله جلّ جلاله الذي يُعنى به (وحدة الوجود).
أما الجانب الشيعي فتمَّ الاعتراف بهم كمذهب رسمي للدولة المغولية في عهد سلطانهم (أولجايتو خدابنده) سنة 709هـ/1309م، وهذا ما أدَّى إلى أن تكتسح أفكار هؤلاء مساحات واسعة من أقاليم المشرق الإسلامي، كـ: خوزستان (عربستان)، وفارس، والجبال (كوردستان ولورستان الحالية)، وأذربيجان، وطبرستان.
وهذا ما سهل مهمة الدعوة الصفوية، حيث خلق لها الأرضية المناسبة لانتشار مثل هذه الأفكار والأطروحات الغالية البعيدة عن أسس ومرتكزات الإسلام الصحيح الذي دعا إليها الرسول محمد بن عبد الله – عليه الصلاة والسلام -، والتي قادها الشاه إسماعيل الصفوي (893 – 931هـ/1487 – 1524م) الذي فرض التشيّع بالقوة والقسوة الشديدة، حتى أصبحت غالبية أقاليم إيران شيعية ابتداءً من سنة 908هـ/1502م، وهذا ما انعكس على الأقاليم التي يسكنها الكورد، حيث دخل بعضهم في التشيّع وهم قلّة لا يتجاوزون خُمسَ عدد الكورد في الوقت الحاضر.

ومهما يكن من أمر، فإن هناك عدة دوافع أخرى حَدَتْ ببعض القبائل والتجمعات الكوردية في الجزء الجنوبي الشرقي من كوردستان إلى اعتناق التشيّع وجعله مذهباً لهم، وتوزعهم على عدة فرق تبعاً لانقسام التشيّع إلى مجموعات، كـ: التشيّع الإثني عشري (الجعفري) في كوردستان العراق وإيران، والنصيري (العلوي) في كوردستان تركيا، والعلي إلهية(اليارسان) في كوردستان إيران، وأهل الحق والكاكائية والصارلية في كوردستان العراق، وغيرهم، ومن هذه الدوافع:
1- الحملات العسكرية الغاشمة التي بدأها الشاه إسماعيل الصفوي (1502 – 1524م) عندما جعل نصب عينيه تشيّع سكان الهضبة الإيرانية بالقوة، وكان من نتائجها أن دخلت بعض هذه التجمّعات الكوردية في التشيّع.
2- وجود العديد من المعابد الزرادشتية والمذاهب المجوسية الأخرى في المنطقة وانعكاسها على العادات والتقاليد الكوردية، مما أدَّى إلى ضعف الوازع الإسلامي عند هؤلاء الكورد الساكنين في هذه المناطق، فمجرد وصول فكرةٍ ما، لا سيما إذا كانت مشفوعة بقوة السلاح، فلا غرو أن يعتنق هؤلاء الفكرة الجديدة.
3- وجود تركّز يهودي قديم في هذه المنطقة (محافظتي كرمنشاه وعيلام حالياً) وسط غرب إيران، يرجع إلى أيام السبي البابلي الذي قام به الملك الكلداني (نبوخذ نصّر) سنة 586 ق. م، وانتقال العديد من اليهود إلى هذه المنطقة بقصد التجارة وغيرها من أساليب العيش، مما ترك أثراً واضحاً في البنية الذهنية والاجتماعية لهذه التجمعات الكوردية، حيث أشار إلى ذلك الرحالة المسلم (المقدسي) عندما ذكر وجود عدد كبير من اليهود في إقليم الجبال، وذكره أيضاً الرحالة والضابط البريطاني (راولنسون) في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي عندما تطرق إلى العديد من الأسماء اليهودية لكُورد هذه المنطقة، مثل: داود، سليمان، إسحاق، وبنيامين.
4- وجود الإمارة المشعشعية في منطقة الأهوار (محافظتي العمارة والكوت في العراق حالياً) و(شمال الأهواز في إيران) المحاذية لإقليم لورستان الكوردي، وقيام العديد من الدعاة العرب التابعين لهذه الإمارة بالدعاية للمذهب الشيعي بين أفراد القبائل الكوردية، واستغلال مأساة أهل البيت للدعوة إلى التشيّع، وكيف أن هذه التراجيديا المصطنعة قد أثّرت في وجدان الكوردي الذي عانى الظلم لقرون عديدة، فوجد فيها عزاءً له من الجانب النفسي والديني، لا سيما أن المنطقة الكوردية (لورستان) كانت قريبة من المراقد الشيعية المقدسة، فضلاً عن ذلك أن كتاب (بحار الأنوار) للعالم الشيعي (محمد باقر المجلسي المتوفى سنة1111هـ) كان له تأثير واضح في بناء ذهنية جديدة عند الفرس والكورد والعرب الذين تشيّعوا، حيث يحوي العديد من الأحاديث الموضوعة التي تؤكد أن زيارة قبر الحسين بن علي يعادل سبعين إلى مائة مرة من الحج إلى مكة المكرمة!، فلا عجب أن كان لكل تلك الأمور تأثير كبير في دخول الكورد البسطاء آنذاك في التشيّع، فضلاً عن سماعهم بالجانب البطولي في سيرة أئمة أهل البيت – رضوان الله عليهم – وتحديداً الإمام علي بن أبي طالب وسيفه البتّار (ذو الفقار).
ونستطيع أن نلخِّص الموضوع برمّته في أن دعاة الشيعة كانوا من الذكاء بحيث استطاعوا تحويل مأساة أهل البيت إلى تراجيديا قفزت فوق التاريخ الحقيقي والواقعي إلى ما يسمى بالميثولوجيا ما فوق الطبيعة البشرية التي استنبطوها إلى حدٍّ كبير من مأساة عيسى المسيح – عليه السلام -، على غرار تحويل بولس الرسول، مبتكر فكرة ألوهية المسيح، المسيح التاريخي إلى مسيح أسطوري!.
فكان الأمر بالنسبة لحكماء الشيعة على الشاكلة نفسها، حيث تم تحول الحسين (التاريخي) إلى الحسين (الميثولوجي)! صاحب المعجزات والكرامات الخارقة، والعصمة من الخطأ، بل الخطيئة!، والتي تُعدّ في نظر العديد من الباحثين، ومنهم المستشرق الفرنسي (هنري كوربان المتوفى سنة1978م)، استمراراً للنبوة الروحية، والتي تخالف في الكثير من مضامينها فكرة ختم النبوة والتوحيد الخالص، بالإضافة إلى التقديس غير المعقول للرسل والأنبياء، فضلاً عن شخصية الحسين بن علي – رضي الله عنهما – سيد شباب أهل الجنة.

أحدث المقالات

أحدث المقالات