بادىء ذي بدء نذكر أننا نخالف برنارد لويس الرأي بشأن الملك الثاني المذكور في صلاة الحاخام شمعون بن يوحاي والذي يحمل سمة مسيانية يهودية فعلية، والذي نعتقد أنّه كان الفاروق – عمر بن الخطاب – يشاركنا في هذا الرأي الباحثان مايكل كوك وباتريشيا كونه إضافة إلى الموسوعة اليهودية.
وسنورد أولا النصوص المتعلقة بالمسالة في المصادر الداخلية ثمّ الخارجية، لنناقش أخيرا النصوص بالتفصيل – ونكتفي من المصادر الداخلية بالطبري، في ذكر فتح بيت المقدس يقول الطبري 607:3:
” لمّا دخل عمر الشام تلّقاه رجل من يهود دمشق، فقال السلام عليك يا فاروق! أنت صاحب إيلياء ( ألقدس ) لا والله لا ترجع حتى يفتح ألله إيلياء… وشهد ذلك اليهودي الصلح مع أهل القدس “.
وينسب الطبري إلى كعب الأحبار قوله لعمر:
” إنّ ألله أرسل نبيا إلى القدس يقول لها أبشري أوري شلم! عليك الفاروق ينقيك مما فيك “.
من ناحية أخرى، يقول مرجع يهودي من القرن الحادي عشر، أنّه كان ثمة يهود مع الغزاة الأسماعيليين، وهم الذين أظهروا لهم الحرم وأقاموا معهم بعد ذلك.
ومن المراجع الحديثة، تذكر الموسوعة اليهودية، النسخة الإنكليزية، أنّ كعبا كان أحد أتباع عمر حين دخل الأخير القدس، وبناء على طلبه حدّد له كعب الموضع الذي كان الهيكل مبنيا عليه، وبحسب التقاليد فقد حاول المسيحيون إخفاءه عن الفاتحين… وعندما كشف هذا الموقع، حاول كعب حثّ عمر على بناء المسجد ( مسجد عمر ) شمال الصخرة، بحيث توجَّه القبلة إليها في الصلاة بدل مكّة، لكن عمر رفض هذا الإقتراح، معتبرا أنّه موحى بميول يهودية ، وتضيف ألموسوعة اليهودية في موقع آخر:
” صلّى الخليفة عمر بن الخطاب على جبل الهيكل بعد فتح القدس عام 638 م بصحبة اليهودي اليمني ألمرتد كعب الاحبار “.
وفي موضع ثالث تقول ” يقال إنّ يهوديا أعتنق ألإسلام، هو كعب الأحبار، والذي كان أحد أفراد عمر وقت دخوله القدس، دلّ عمر على مكان الصخرة – ألأفن شتياه – على جبل الهيكل “.
وفي عام 700 م بنى عبدالملك بن مروان المسجد الأقصى في المكان حيث يُفترض أنّ عمر صلّى فيه.
إنّ التقليد اليهودي يعتبر عمر حاكما خيّراً، ( والمدراش نستاروت – أسرار – دراف شمعون بار يوحاي ) يشير إليه بصديق إسرائيل.
إنّ الموسوعة اليهودية تذكر أنّ عمر بن الخطاب أعاد الحضور اليهودي إلى القدس بعد خمسمئة سنة من الطرد.
لقد عرف سكان القدس المسيحيون المكانة المفرطة القداسة للصخرة عند اليهود، فجعلوها مكبّ نفاياتهم ( كناسة )، ولمّا دخل عمر بن الخطاب القدس، جاء إليهم فأبرزوا بعضها وتركوا سائرها، لكن عمر أمر بتنظيف الصخرة وأستخدم المكان كموضع للصلاة، وبما أنّه لا يوجد في القرآن أدنى إشارة إلى ألصخرة أو إلى قداستها، فإعتقادنا أنّ كعب الأحبار- ربّما غيره أيضا – هو الذي أقنع عمر بن الخطاب بذلك وأدّى به إلى تلك التصرفات.
نلاحظ أيضا أنّ سالمون بن يهورام في تفسيره للمزمور 30:10 يقول: ” إنّ عمر بن عبدالعزيز هو الذي أبعد اليهود عن الصلاة في جبل الهيكل ” وهذا يعني إستخدامهم الديني لجبل الهيكل حقبة لا باس بها، وربّما يكون عمر بن الخطاب أوّل من سمح لهم بذلك.
لقد نظرت المصادر اليهودية ألاولى إلى اعمال البناء العربية على جبل الهيكل بإعتبارها ترميما لهيكل سليمان، وألأسرار يُشير، كما رأينا إلى ترميم صدوع إسرائيل وصدوع هيكلها. وهناك نبؤة تنسب إلى شنوتي حول مجيء بني إسرائيل وعيسو الذين ستبني بقية منهم الهيكل في ألقدس.
لكن ما هي حقيقة المسجد الذي بُني عل جبل الهيكل؟ يخبرنا مدراش يهودي أنّ ” معاوية بنى مسجدا خشبيا على جبل الهيكل ” ونجد توثيقا مستقلا لهذا القول في نص مسيحي يُزعم فيه أنّ حاجاً إسمه أركولف رأى في موضع الهيكل عام 670 م مبنىً خشبيا، كذلك فألاسرار يقول أنّ الملك الثاني من اسمعيل ” يبني مسجدا هناك على صخرة الأساس ” مع ملاحظة أنّ هشتوحوايا العبرية تعني حرفيا ” مسجدا ” فكيف يُمكن حلُّ هذا اللغز؟
إنّ إعتقاد برنارد لويس أنّ المقصود بالملك الثاني من إسمعيل الواردة في ( صلاة الحاخام شمعون بن يوحاي ) هو معاوية – أو خلط بين عمر ومعاوية – لا يخلو برأينا من بعض الإلتباس، فمعاوية من ناحية ( وهو بالمناسبة شخصية وصولية لا علاقة لها بالعقائد أو المباديء ) تقرّبَ من المسيحيين في محاولة لدعم حكمه المواجه بتحديات داخلية إسلامية كبيرة، فمن المعروف أنّ معاوية أُعلِن خليفة في القدس عام 660 م قبل مقتل الخليفة الشرعي عليّ بن أبي طالب عام 661 م، والقدس كانت آنذاك إحدى الحواضر المسيحية الهامة.
بل قبل إعلانه خليفة بعام، أي عام 659 م، يخبرنا تاريخ ماروني قديم أنّ معاوية ذهب إلى ألقدس، وبدأ فيها الصلاة في الجلجلة، فالجثمانية، وقبر العذراء وفي ذلك موافقة مسلكية على موت اليسوع الخلاصي.
من ناحية اخرى فالموسوعة اليهودية، كما لاحظنا وأشرنا، تقول دون أدنى تردد، أنّ المقصود بالملك الثاني من إسمعيل حبيب ( أو صديق ) إسرائيل، هو عمر بن الخطاب ، بل إنّ المصادر اليهودية القديمة تجعل عمر بن الخطاب يتزوج هو وأحد كبار رجالات يهود الشتات من أختين فارسيتين من السلالة الملكية، فيقال أنّ عمر بن الخطاب أقر ببستناي بن حنانيا ( 618 – 670 م ) بعد دخول العرب العراق كجالوت لليهود في بابل، وأعطاه أزدونداد إحدى البنات الأسيرات للملك أحشورش الثاني، ملك فارس، في حين تزوج الخليفة ذاته من أختها، وأقر بالتالي واقعيا إعتبار بستناي كأحد خلفاء ملوك فارس.
إذا ففي إعتقادنا أنّ عمر بن الخطاب كان أمل اليهود – ألمسيّا – بالخلاص، وهو ألذي لن ” يجعل إسرائيل بعد الآن بعيدة عن بيت الصلاة ” كما تقول قصيدة في ذلك اليوم في متن ( صلاة الحاخام شمعون بن يوحاي ).
ويبدو أنّ اليهود اعتقدوا أنّ المسلمين سيساعدونهم على إسترداد الهيكل، لكن كما يقول سيبيوس ألأرمني في تاريخه فإنّ هذه الخطة أُحبطت حين بنى العرب عوضا عن ذلك مصلّى خاصا بهم، ويدعم ذلك مصدر داخلي كالطبري حين يُشير إلى الجدل بين عمر وكعب الاحبار حول مسألة القبلة، حيث أراد اليهودي تحويلها ألى الصخرة، في حين أصرّ عمر على القبلة الإسلامية التقليدية، لكن هذا لا يمنع أنّ الخليفة خصص لليهود مكانا ما في مصلاه يؤدون فيه طقوسهم، وربّما يكون عمر بنى مصلّى وجاء بعده معاوية ليقيم مسجدا في الموقع ذاته خاصة وأنّ الإسم التقليدي المتداول حتى الآن للمكان هو ” مسجد عمر “.
أخيرا، فإنّ عمر بن الخطاب الذي رأى فيه اليهود، وهو في طريقه لتخليص القدس من الروم، مسيّا منتظرا، أحبط آمالهم المسيانية بعد ذلك حين رفض إعادة الهيكل إلى وضعه السابق – فهل يُمكن لهذا أن يساعدنا في فهم عملية إغتيال الخليفة، خاصة وإنّ إصبع كعب الأحبار غير محط إلتباس في القضية؟!
ألخاتمة:
أستعرضنا في سلسلة المقالات هذه بدايات ألإسلام وكما وردت في بحوث المستشرقين وفي المصادر ألمختلفة ألغير العربية وألإسلامية، لاحظنا وجود رأيان متعاكسان في ألإتجاه، ألرأي ألأول تبنّاه بعض المستشرقين وخاصة ألألمان منهم يدّعون بأنّ الدين ألإسلامي قد جاء في بداياته كظاهرة هرطقة مسيحية تطورت في صفوف مسيحيين من شرق إيران ينتمون في الأصل إلى مبعدين من بلاد ما بين النهرين (من هاترا على وجه الخصوص).
وربما يكون هؤلاء قد استولوا على الحكم بعد انهيار مملكة الساسانيين في سنة 622 م، وبذلك استطاعوا أن ينقلوا تعاليم مسيحيتهم إلى دمشق والقدس (أورشليم)، حيث تم في أواخر القرن السابع (على عهد حكم عبد الملك) نقل هذه التعاليم المستجلبة من إيران من السريانية إلى خليط لغوي متكون من السريانية والآرامية والعربية.
.
أمّا ألرأي ألثاني فقد ورد في بحث من إعداد ألكاتب نبيل فياض ويُستنتج منه الإتجاه المعاكس للرأي ألأول وهو أنّ ألنبي محمّد شخصية تاريخية وحقيقية وكذلك ألخلفاء ألراشدون، ومن مستندات هذا ألرأي وثيقة تاريخية يهودية تحت عنوان ( صلاة الحاخام شمعون بن يوحاي )، كما أستند ألكاتب نبيل فياض على مصادر أخرى، يهودية ومسيحية ( مارونية وسريانية وأرمنية ) وقارنها بالمصادر العربية ألإسلامية كالطبري.
من دراستي للقرآن واسباب نزول ألآيات ألقرآنية والناسخ والمنسوخ وخاصة ألآيات ألمتعلقة بالحياة ألخاصة للنبي محمّد أميل للرأي ألقائل بتاريخية ألنبي محمّد وكون موطن بداية ألإسلام هو ألجزيرة العربية فألدين ألإسلامي تفوح منه رائحة ألصحراء، وبإعتقادي أن مؤلف ألقرآن هو ألنبي محمّد مع ألعلم بأن كلّ دين يقتبس من ألأديان والمعتقدات ألسابقة ويضيف إليها، كما أنّ ألأديان تتطور بعد وفاة مؤلفها بمساهمات وإضافات ألمعتنقين وخاصة ألحكّام منهم لأسباب سياسية وإجتماعية وأقتصادية، كما أنّ ألقرآن يحتوي على ألعديد من الكلمات ألغير العربية كالسريانية والفارسية والحبشية وهذا دليل على بشريته.
في قاع الظاهرة الدينية، هنالك خبرة فردية يعانيها الانسان في اعماق نفسه وبمعزل عن تجارب الآخرين. فإذا كان لكل بناء سامق اساس يقوم عليه، فإنّ بناء الدين إنّما يقوم على هذا النوع من الخبرة الدينية الفردية، ويدخل الشامانية ضمن هذه المجموعة، وبإعتقادي أنّ صاحب هذه ألخبرة ألفردية في قاع ألدين ألإسلامي هو ألنبي محمّد.
تتخذ الظاهرة الدينية سمتها الجمعية عندما يأخذ الافراد بنقل خبراتهم المنعزلة الى بعضهم بعضا، في محاولة لتحقيق المشاركة والتعبير عن التجارب الخاصة في تجربة عامة، وذلك باستخدام مجازات من واقع اللغة، وخلق رموز تستقطب الانفعالات الدينية المتفرقة في حالة انفعالية مشتركة، وهذا ما يقود الى تكوين المعتقد، وهو حجر الاساس الذي يقوم عليه الدين الجمعي ( اضافة الى الطقس والاسطورة )، فهنا تتعاون عقول الجماعة، بل وعقول اجيال متلاحقة ضمن هذه الجماعة، على وضع صيغة مرشّدة لتجربتها.
إنّ هذه البحوث حول بدايات ألإسلام ذو أهمية قصوى لنزع ألغشاوة ألتي تحيط بهذه البدايات ألمعتمة فالبحوث العلمية هي أولا وأخيرا ألوسيلة ألناجعة لكشف ألسر المقدّس، كما أنّ هدف ألتنوير بإعتقادي هو نزع ألقداسة من جميع ألأديان ألتي هي من أهم أسباب ألنزاعات وألحروب بين ألبشر.
ألمصادر:
– ألإسلام المبكر- دار نشر شيلر- برلين عام 2007 – مقالة بقلم دانيل بيرنشتيل – ترجمة علي مصباح.
– نصان يهوديان حول بدايات ألإسلام – إعداد نبيل فياض.
– رؤيا أبوكاليبتية للتاريخ ألإسلامي – بقلم برنارد لويس.
– دين الانسان – فراس السواح.