18 ديسمبر، 2024 11:04 م

بداياتهم .. د سعدي عبد الكريم

بداياتهم .. د سعدي عبد الكريم

هو مجموعة في واحد لكنه انطلق من خط شروع المسرح وانتشر سينارست وكاتب نصوص وناقدا وشاعرا ورساما تجد عنده الرصانة في النقد والعذوبة في الشعر والدراية والدربة في النصوص والقداسة في المسرح والجمال في الرسم ، ذا خلق رفيع في مخاطباته للآخرين يصنع النكتة من غير افتعال مع عفويته في الطبيعه عيبه انه غير مجامل في إعطاء كل ذي حق حقه في النقد أو في التعامل اليومي مع الاصدقاء له آراء نقدية أصدرها في أكثر من كتاب وله أعمال متعددة في التلفزيون ومجموعات قصصية إضافة إلى لوحات فنية يتهاداها الاصدقاء ..
يقول د سعدي عبد الكريم عن بداياته..
البدايات لم تكُ معبدة بالزهور، ولم تكُ الأماني الكبيرة جاهزة للتحقق بسهولة عبر خلطها مع رحيق الأحلام الوردية المؤجلة، فالحياة كانت صعبة وقاسية، رغم بساطتها، ومن أجل أن ندفع ثمن تحقيق أحلامنا تلك، كان علينا أن ندفع فاتورة أفكارنا التحرّرية التي استلهمناها من إرثنا الفكري والسياسي، ويبقى ذلك الوعي المعرفي الذي اكتسبته شخصياً من خلال المخزون القرائي المتراكم، عبر سنوات طويلة من القراءات المتعدّدة المرجعيات الجمالية والفلسفية والفكرية، وكان لزاما عليَّ ووفق منظومة تحدي الذات والمخاطر، أن لا أتخطى أحلامي واقفز على الواقع وعلى المعطيات الآنية التي أعيش في كنفها والتي نواشجها أحيانا بتذاكر دائم مع مفردات الحياة التي تمنحنا بعض الرفعة، والإحباط معا، ومن الأسباب التي كانت تحيط باندفاعاتنا وتقيّد مسيرتنا، هي تلك التابوهات السياسية المؤدلجة التي كانت تقف حائلا في طريق إكمال مشاريعنا (التدوينية) المبكرة، أو التي تستدعينا لتأجيلها في أحيان كثيرة للتخفي من عيون العسس، وإبعادهم قدر المستطاع عن صوامعنا التي نعيش وسط مخمليتها الحالمة.
لقد كانت ذاكرتي المتوثبة والمتحفزة للكتابة، والتي تتناغم بفعلها الاحتجاجي مع المعيار الثوري الحقيقي الذي يدفعني بجدية لذلك الفعل الإنساني والأدبي النبيل، ولخلق المحاور التجديدية والحداثوية وفق الحيز الأكبر في نظرتي العملية المختبرية والتنظيرية التي كان لها الأثر البالغ في تنشيط حركتي الدءوبة باتجاه كتابة الطروحات التي اتسمت بالكثير من الجرأة، وبتوافر النسق الجمالي، وعبر التأسيسات التأملية الاستشرافية، لتحقيق ما اصبو إليه من عيش حرّ، وكلمة متوهجة بالضوء التنويري وسط إعتام السلطة الذي كان يحيط بنا من جميع الاتجاهات، والزوايا في أزمنة القهر والظلم والحروب والخراب.
منذ بواكير اشتغالي في (فن المسرح) تلك المنطقة المُشعّة بالضّوء ، والتي شغلت الاهتمام الاكبر في مسيرتي الفنية والأدبية من بداية سبعينات القرن المنصرم ، حيث كتبت في عام 1974 نصّ مسرحية (اللافتة) التي كانت المشروع الاستهلالي الذي ولجت من خلاله الى عتبة الكتابة للمسرح ، اخرج العرض في حينها الدكتور ثامر كريم ، وكانت من تمثيل نخبة راقية من القامات المسرحية العراقية من بينهم الدكتور حسين التكمه جي ، وعادل كريم ، وسعدي عبد الكريم ، والدكتور ضياء كريم ، وأياد محمد علي ، وعلاء حسن ، ورحمن السورجي ، وسعاد السامر ، وكفاح عباس ، وغيرهم ، وكان النصّ عبارة عن لافتة احتجاجية كبيرة تطرح تساؤلات كبرى في عالمنا المعاصر عبر لغة شعرية غائرة في استلهام (ملحمة كلكامش) وإخضاعها لملاحق النظرة الفلسفية التي تناقش معادلة (الموت والحياة) والصراع في حدود تلك النظرة الفلسفية للتلاقي والتوأمة بين الإنسان كقيمة مثلى ، وبين النزعات السلطوية ، ورغم ان النصّ كان يناقش المعادلة عبر الفحوى التنظيرية ، لكنه ووفق الاشتغال على الأنساق الحسيّة والفكرية، فقد أخذت بالميل الى منطقة المأساة الانسانية التي تحاكي رموز المآسي الكبرى ، وكان الحسين يلامس شغف هذه الفحوى الفلسفية القصدية ، ليكون نبراسا منيرا ، وأيقونة مضيئة في طريق قولة الحق ، والموت من اجل المبدأ ، وعلُو صوت تلك الـ(لا) التي اطلقها في فضاء الرمضاء حتى أصبحت رمزا عاليا ، ومنبرا رافدا لجميع اللاءات والثورات التي تلتها.
من هذه اللحظة القريبة من الثبات .. بدأت المؤشرات التي يمكن لها ان تحاكي وتجاور جميع النصوص التي كتبتها للمسرح والتي بلغت بحدود الخمسين عملا مسرحيا، وقد اعتبرت عملية اللجوء إلى الرافد الاحتجاجي والاعتراضي والتحريضي هو الثيمة الأساس، والملهم الجمالي والفني في تأثيث فضاء المشهد المسرحي الدافع باتجاه ملهمات التنوير، تلك الملهمات المتجدّدة في داخلي، والتي تتجلى بوضوح في جلّ تدويناتي بداية من المسرح والفن التشكيلي، ومرورا بالنقد وانتهاء بالمشغل الصحفي ، ان تلك الملهمات التنويرية المهمة في معيار نشاطي التدويني الذي يدور بعناية مبالغ فيها داخل مدركي العقلي والحسي، والذي كانت تدور في فلكه المنير جميع الاشتغالات الأدبية والفنية الأخرى.
إن العديد من النصوص المسرحية والتدوينات المجاورة الأخرى كالقصة والشعر والرسم والنقد كانت تدور في فلك تلك الفكرة التنويرية الفاعلة والمتفاعلة مع العقل الجمعي لتنشيط فعالية الوعي الفردي والمجتمعي، إن الأعمال المسرحية بالخصوص التي كتبتها في بواكير حياتي التدوينية كانت تنتمي إلى الفعل الاحتجاجي والاعتراضي عبر موارد مدرسة (برتولد بريخت) عبر نظريته المحرضة (النظرية الملحمية) التي أفرَّدتُ لها فيما بعد فصلاً كاملاً في كتابيّ النقديّ (مساقط الضوء) تلك النظرية التي احتوت على جملة من المتبنيات التحريضية وصولا لفعل التغيير والتي يتفجر في حيزها الثيمي والحبكي الصراعي في جلّ اشتغالاتي الكتابية، وكانت حاضرة في زمن اللحظة التدوينية التي تداعب ملامح قلمي الذي كان يرنو منذ وقت مبكر إلى الأنعتاق من هيمنة الرتابة والجمود ليدور في مخيلة المتحرك الذي يشفع للمشهد التدويني الولوج الى مناطق التأويل بحرية منافعية جمالية وفكرية ، وقد توخيت في مجمل كتاباتي المسرحية والنقدية والشعرية الاعتناء الجاد والفاعل بذلك الفعل الإنساني النبيل ، ربما لأني كنت قرأتُ مبكرا ، واعتبرتُ الكتاب، هو الكائن الحيّ الذي ينتقل مع مواطن الوعي ليخرج بمحصلة تشاركية وتداولية عبر مخاصبه الوعيوية الثرّة لتنشي بواتق التنظير عبر الاشتغال في منطقة التدوين الحداثوي الفاعل والمتفاعل مع جسد التأمل، ومخاطبة العقل الجمعي لتخليصه من محبطات الجمود والركود، والبث في مناحيه دوافع التحريض والانحياز الى الاحتجاج والرفض لكل ما هو ثابت وتقليدي.
ولعلَّ الشافع الاصيل والمهم في تطوير أدواتي الفنية، وملكتي في فن الكتابة، هي القراءة المُبكرة ، التي مدت مجساتي الاستقبالية والنقدية بشوافع الخزين المعرفي المتراكم، أتذكر إلى الآن حينما كنت صغيرا.. وقد جلست في إحدى زوايا بيتنا العتيق في مدينة الحرية بالكاظمية وأنا أطيل النظر إلى المكتبة الكبيرة المشتركة لأبي وأخي الكبير د.ثامر عبد الكريم الذي كان طالبا في حينها بمعهد الفنون الجميلة قسم المسرح، كانت المكتبة جاثمة بهيكلها الهرم في احدي زوايا بيتنا البغدادي القديم، كانت عامرة بالكتب المختلفة المشارب الفكرية، والتاريخية، والفلسفية والمسرحية، وكنت أتسحَّب بعد عودتي من المدرسة الابتدائية وفي مواعيد ادقق فيها كثيرا بعدم وجود عيون تراقبني، ثم اسحب كتاب من غير تعيين وأبدأ بقراءته حتى أغفو، كنت شغوفا بقراءة السلسلة الحمراء والزرقاء التي كانت تصدر من القاهرة وتهتم بنشر كبريات المسرحيات العالمية، وفي إحدى تلك الاختلاسات القرائية المشوبة بالحذر قبض عليَّ أخي الكبير مُتلبِّسا بالجرم المشهود وانا ممسك بمسرحية (هاملت) ومستغرقا بالقراءة حدّ أني أحاول ربط الأحداث والإسراع بالقراءة للانتهاء منها قبل قدوم العيون الراصدة التي كنت أحسّها قريبة مني كأنفاسي، لتوبيخي لأني لم أنهي واجباتي المدرسية ومنشغل بقراءة العملاق شكسبير، حينها لم أشعر إلا وأخي واقف فوق رأسي وأنا اقرأ، وقد ارتسمّت في حينها على محياه ابتسامة إلى الآن أكاد أراها وأتصورها وهي مرسومة في الأفق القريب مني، وشاخصة أمامي وكأنها التميمة التي قذفتني في عوالم ذلك المنحوت السحري (المسرح) جلس أخي بجانبي على الأرض بمحاذاة إحدى أضلاع المكتبة وهو يربت عليَّ، وقال بصوته المسرحي المُحبّب لي:-
-ماذا تقرأ؟
أجبته بشيء من التوجس وبصوت خفيض:-
-هاملت
ضحك بصوت عال ثم أردف.
-شكسبير مرة واحدة وأنت في الصف الرابع ابتدائي.. عموما لا ضير.. اقرأ كل شيء، وأي شيء.. ولكن بعد انجاز فروضك المدرسية مفهوم.
أجبته بتودّد.. وأنا أحاول تقليد صوته المسرحي:-
-حاضر !..
ابتسم لي ابتسامة مشرقة، ثم انتبه إلى وضع الكتاب الذي طويته بيدي، نظر اليَّ نظرة شزر، ثم سحب الكتاب مني، وضربني على يدي، ثم أطلق حكمته الخالدة التي ما زالت تستقر في أعماقي، وترنّ كناقوس في ذاكرتي، والتي علمتني الكثير في حياتي العلمية والعملية فيما بعد.. قال:-
-الكتاب كائن جميل، فهل يمكن لنا أن نطوي جسد الجمال.
ولم اطوي إلى الآن ظهر كتاب البتة. هكذا كانت بدايتي المبكرة مع عوالم الجمال وتلك الأيقونة الثرّة (الكتابة) التي امتدت رحلتي معها منذ نعومة أظافري، إلى حدّ اللحظة وأنا على مشارف العقد السابع من العمر، كتبت خلالها العديد من المسرحيات، والكتب النقدية، والدواوين الشعرية، والمسلسلات التلفزيونية، والأفلام القصيرة، وخوض معترك العمل الصحفي والإعلامي الطويل ، ورسم العديد من اللوحات التشكيلية، والى اللحظة احضر وبكلّ الحبّ لتحقيق مواعيد اللقاء التي يستدعيني إليها الكتاب، للحصول على ثنائية المتعة والمنفعة ، باعتبار القراءة الغذاء الروحي والعقلي، الذي لا ينفذ زاده.