المسافة بين جدار علي بن أبي طالب وجدار “براني” السيستاني عشرات الأمتار لا غير.
عندما نتشرف بحضرة علي أمير المؤمنين ونقف على بابه لشحن انسانيتنا التي تستهلكها آدميتنا التي جبلت على العجلة والأنانية،تستوقفنا ونحن نجتر الزمن مسيرة ذلك العملاق الإنساني صاحب النفس الكبيرة.
إذ كيف لرجل يطعم قاتله!و كيف لأمير يرتدي مدرعة استحيا من راقعها!وكيف لحكيم يزاح عن مقامه لما يزيد عن عقدين ويصمت!وكيف لشجاع كمثل علي لا يرد على هتك حرمة داره والاعتداء على زوجته وإسقاط جنينها!!!. يزداد علواً دون دنو!.
حينها يخسأ النظر فيرتد حسير بلا تفسير ويساورك الشك أن ذلك الشخص ليس واقعياً بل من نسيج الخيال!تستعيذ….وتودعه وداع المضطر،كيف لا وشعوراً يخالجك وأنت بحضرته يمنحك أمانا غريب تفتقده بجميع ما يحيطك.
على بعد عشرات الأمتار عن ذلك الحصن المهيب،”براني” لرجل جاوز عقده الثامن يسكن بيت بسيط تتدلى أسلاك الكهرباء من جدرانه بأحد أزقة النجف القديمة.
تقف في طابور لرجال كبار وشباب أعيان وبسطاء حملة شهادات عليا ودون ذلك.
الجميع يقف بصمت وهدوء،ألا من سؤال لحجاب ذلك الرجل.الذين لا يسمحون للسياسيين فقط بلقائه،بحسب توجيهاته احتجاجاً على فسادهم ولسوء أدارتهم للبلاد وظلم العباد.
بعد لحظات من الإجراءات ،ندخل على شكل مجموعات،ولكثرة الزائرين نتنقل بعدة غرف،كنت أطيل النظر في تلك الجدران القديمة والفرش البسيطة،وسؤال يساور ذهني لماذا لا يسكن “السيستاني” قصراً ويتمتع بوفرة الأموال؟ (وأنا اعرف بحجم المبالغ التي يوزعها مكتبه على المؤسسات الخيرية،وعلى الأيتام شهرياً،سيما وأنني عملت مع مؤسسة “عين” للأيتام عام “2007 ” التي يديرها مكتبه)، ولماذا لا يتلذذ بأشهى المأكولات؟ ويكتفي بلقمات (كعكعتين مع قدح شاي صباحاً وبعض الرز واللبن بالعشاء)!،ولماذا يكتفي بعباءة يرتديها منذ أربعة عقود؟!.
يقطع فكري السارح وتساؤلاته صوت احدهم: “تفضل مولاي ـ تفضلوا اغاتي”.
خطوات ونقف بطابور يسبق لقاءه.
عادة ما يستغرق اللقاء بضع ثواني بقدر التحية لكثرة الزائرين ومراعاة لصحته،لكنني كنت محتاج دعائه،فوقفت قبل تحيته وقلت لحاجبه : قل له أني ممن لبى فتوته وقدم دماً.
تحدث الحاجب لشيخ كبير بجانبه فهمس بأذنه،فوجه نظره لي وبدأ مخاطباً لي بعزيمة وصلابة بصوت اسمع الحاضرين، فأسدل دموعهم وعلا نشيجهم.
أيقنت أن بكاء الحاضرين،لسوء الطالع،وعدم الالتحاق بركب الحسين وصحبه،كما وصف “الآية العظمى” حال الشهداء بحرب “داعش “،ثم استغرق يشرح حجم التهديد والخطر الذي يعقب تمكين داعش في العراق،فخطرهم، كان يستهدف “الشيعة” أينما وجدوا وليس في العراق فحسب.
عندها أدركت أن علياً القديس الزاهد الشجاع الناطق الحكيم ليس وهماً،وهاهو مصداق أمامي أراه واسمعه بشحمه ولحمه.
ودعته مشحوناً بارتفاع مناسيب إنسانيتي،وقوة أيمان بعمل الخير ومحبة الآخر الإنسان بصرف النظر عن عقيدته فجميعنا متجهين إلى الله، موقناً أن المسافة بين قبر علي وبراني علي متلاشية!،فهي “مسافة قيم”،لا تخضع للغة الرقم بل تصفره!