23 ديسمبر، 2024 12:25 ص

بحثًا عن عظام (جلجامش)!

بحثًا عن عظام (جلجامش)!

كلُّ مَن قرأ “ملحمة جلجامش” يعرف النتيجة التي توصّل إليها، (جلجامش)، بطلُ الملحمة بعد فشله بالعثور على عشبة الحياة الأبديّة، وهي أن خلود الإنسان يتحقّق، بعد فناء الجسد، من خلال إعمار الأرض، وترك الأعمال التي تخلّد ذكره، حسب وصيّة(سيدوري)التي قابلها في طريق العودة، وبهذه النتيجة تنتهي الملحمة الأكدية التي تعدّ أقدم الملاحم الأدبية الطويلة الزاخرة بالأحداث، والمواضيع المختلفة التي تتّصل بالحياة، والموت، والطموح والرغبة بالخلود، والصداقة، والوفاء، والتمرّد، انتجتها حضارة وادي الرافدين، قبل ما يقرب من أربعة آلاف عام، ووُجدت مدوّنة باللغة الأكدية، وكانت بداية اكتشافها قبل حولي 140 سنة، على هيئة ألواح مكتوبة بالخط المسماري، ولم نعرف ماذا جرى لـ”جلجامش”بعد فشل رحلته، وعودته لأوروك خائبا، فالملحمة لم تتطرّق لهذا الأمر، لكنّ الدكتور نائل حنون الذي ترجمها عن النصّ المسماريّ مباشرة ألحق ترجمته للملحمة بــ”قصة موت جلجامش” في كتاب صدرت طبعته الأولى ٢٠٠٦ عن دمشق، والثانية عام2016م ببغداد، وفي تقديمه لنص”موت جلجامش” يتحدّث د. نائل الأستاذ المتخصّص بعلم الآثار، واللغات القديمة (السومريّة، والأكديّة) المكلّف بتأسيس متحف جديد بالسلطنة، عن رحلته مع تلك الألواح، فيقول ” أكتشفت ثلاثة ألواح طينية وجدت بحالة سيّئة في موقع مدينة نفر القديمة (موقعها الحالي في الديوانية) وكانت هذه الألواح، التي يعود تاريخها إلى النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد، وقد سبق لصموئيل نوح كريمر أن نشر ترجمة للنص على الرغم من الحالة السيئة التي وجد فيها، وصعوبة فهمه في معظم المواضع، وجرى عرض ملخص باللغة العربية لهذا النص من قبل مؤلف الكتاب قبل أربعين عاما”، ولابدّ من الإشارة إلى أنّ بعثة أثريّة اكتشفت في سنة ١٩٨٠ الألواح الكاملة للنص في منطقة ديالى بموقع( تل حداد، مدينة ميترون القديمة).
ثم يورد النص الذي يصوّر جلجامش، طريح الفراش، وهو يحتضر، قبل نزوله إلى العالم السفلي كبقية البشر، ليواجه المصير المحتوم، فيزوره (إنليل) في الرؤيا، ويخاطبه”يا جلجامش لقد جعلت قدرك قدر الملوكية، ولكنني لم أجعله قدر الحياة الخالدة، وللبشر، أيّ حياة يمكن أن تكون مرغوبة إلا حياة مع مرض في القلب، فلا يمكن أن يكون يأسا، أو فؤادا كسيرا مع الحياة، فهكذا يحلّ هلاك البشر، وها أنا قد أبلغتك”
ويطمئنه أنه سيكون مع صديقه انكيدو الذي سبقه إلى الموت، ومع عائلته، وسيحظى بمكانة مناسبة، وسيكون حاكما، يصدر القرارات:
على الرغم من مكانة أمّه لا نستطيع أن نعامله بعطف
لكن جلجامش، ممثلا بروحه، حين يكون ميتا في العالم السفلي
سيصبح حاكما في العالم السفلي زعيما للأواح، سيصدر الأحكام، ويقرّر القرارات”
ويوصيه بألّا ينزل إلى العالم السفلي بقلب حانق:
“هناك يقطن الحكام والملوك
هناك يقطن قادة الجيوش فرادى
من بيت الأخت ستأتي الأخت إليك
من بيت الأقارب سيأتي الأقارب إليك
معارفك سيأتون إليك
الغالي عليك سيأتي إليك
شيبة مدينتك سيأتون إليك
لا تكن قانطا، لاتكن كسير الفؤاد”
وحين يعلم أنّه سيموت لا محالة، يأمر بتشييد ضريح له لا تنتهك حرمته مستقبلا، وهذا لن يتحقّق له إلّا بتحويل مجرى الفرات، وتشييد الضريح في قاعه، وتدفن معه هداياه، وحاجياته، والقرابين التي سيقدّمها لملكة العالم السفلي، وبعد ذلك يُعاد النهر إلى مجراه، ويخفى موضعه إلى الأبد، ونفّذت وصيّته بالحرف كما أراد، ولكن د. نائل حنون لم يدع (جلجامش) يهنأ في نومته الأبدية، ففي عام 2013 ألقى محاضرة في جامعة المثنى قدّم خلالها مشروعا للتنقيب عن موضع القبر، خاصة أن مجرى نهر الفرات القديم المندرس حاليا واضح، والمسافة محصورة في نصف كيلومتر، إستنادا الى نصّ “موت جلجامش”، واقترح على الجامعة أن تتولّى البحث عن موضع الضريح الذي يمكن ايجاده بسهولة في ضوء المعلومات التي يقدّمها النص القديم، ولم يحدث شيء بعدها، فظلّ المقترح ينتظر التنفيذ، لكنّ بعثة ألمانية أخذت الأمر بجدّيّة بحثا، ودراسة، وتحليلا، واعتبرته اكتشافا لها!
ويبدو أن (جلجامش) الذي انتصر على وحش الغابة”خمبابا” في الملحمة، أصابت حكمته عندما جعل ضريحه في قاع النهر، فحين تدفّقت المياه، أخفت موضع راحته الأبدية!، مع أنّ د.نائل حنون، ما زال يواصل جهوده العلمية بحثا عن عظام (جلجامش)!