22 ديسمبر، 2024 2:29 م

بانوبتيكون المقاربة السوسيولوجية في “صباح ينتظر الفرج”

بانوبتيكون المقاربة السوسيولوجية في “صباح ينتظر الفرج”

برامج التأهيل النفسي والإصلاح السوسيولوجي نواتها المجتمع ومجرياته؛ حيث أن هدفها الرئيسي إصلاح ما يشوب المجتمع من سلبيات تلقي بظلالها على نفوس البشر، وتزجي لظى الضغائن بين أبناء المجتمع الواحد. وينجم عن هذا ليس فقط تفسخ اجتماعي وانحدار أخلاقي يضعف أواصر الروابط الإيجابية بين البشر ويستبدلها بأخرى تُعلي كلمة الذات الأنانية، بل أيضًا تتحول السلبيات بمرور السنين إلى أنموذجًا يحتذي به الآخرين ويزيدونه سوءًا. ولولا الجهود الإصلاحية التي يقودها علماء النفس الاجتماع والفلاسفة، لاستحال العالم إلى غابة ظلامية، ولفنت البشرية منذ قرون طويلة ماضية. وفي غمار هذا، لا يجب إغفال الجهود الصادقة للأدب والأدباء؛ فالأعمال الإبداعية بمثابة لبنات صلبة في بنيان الإصلاح المنبثق من جهود المفكِّرين والعلماء. ومن ثم، تكمل الأعمال الأدبية الجادة تلك الجهود؛ بتقديم ألوان أدبية يستعبها أو يستسيغها المتلقِّي؛ لأسلوبها الشيق، ولأنها أيضًا تبرز ببيان سلس سلبيات المجتمع دون زيف، عند عرض نماذج لأشخاص لا يختلفون كثيرًا عن سائر المجتمع، ومشكلاتهم صدى لأوجاع تنهش في الهيكل الاجتماعي.
وتعد رواية “صباح ينتظر الفرج” للكاتب “أحمد رزق” إحدى المحاولات الجادة لتقديم مقاربة سوسيولوجية في إطار عمل فنِّي جاذب تعج حواشيه بهموم الإنسان المعاصر. والكاتب “أحمد رزق” يكتب من واقع حياته التي كرَّسها للعمل الميداني والخدمة الاحتماعية، من خلال الاشتراك الدؤوب بالجمعيات الثقافية والندوات الأدبية، وإنشاء مجموعات توعوية. وتنوعت أعماله بين الرواية والقصة القصيرة والنقد الأدبي والمقال السياسي، وذلك بجانب عمله في مجال الصحافة والإعلام، مما جعله ينظر بعين الناقد الخبير للسلبيات التى تشوب المجتمع، ومكّنته خلفيته العملية والاجتماعية والإبداعية من وضع يده على المشكلات الاجتماعية التي من شأنها تأجيج بؤر الصراع والمنازعات شخصية على الصعيد الاجتماعي، مما يقوِّض جهود الإصلاح.
وبأسلوب علمي صيغ في إطار إبداعي، ظهرت رواية”صباح ينتظر الفرج” للكاتب “أحمد رزق” والتي يدقّ فيها ناقوس حتمية الالتزام بالإصلاح الجاد. وكانت أداته الفاعلة هي استخدام السرد التحليلي بوصفه مقترح تفسيري يرمي إلى إيجاد حل مقبول لظواهر ومشكلات اجتماعية متسارعة الوتيرة. وعلى هذا، تسعى الرواية لجمع شتات وإعادة تنظيم عالم عمَّته الفوضى من خلال دعوة المتلقي للاسهام في البحث عن قوانين مقبولة تنظم تلك الظواهر وتقضي على آثارها المناوئة، وفي نفس الوقت، تعمل على تحفيز المتلقِّي عينه لاكتشاف مواطن العطب في نهجه الاجتماعي والسلوكي؛ من أجل تقويمه.
وكأي مقاربة سوسيولوجية رصينة ترمي إلى التغيير الاجتماعي ، عمِد الكاتب لتأصيل الظواهر السلبية ووضع منهاج الإصلاح من خلال دمج أسس المقاربة مع التأصيل للظواهر التي تنخر سلبياتها في جدار المجتمع. ولقد تمكّن من إنجاز مهمته من خلال استخدام تكنيك “القصة الإطارية” Frame Narrative والتي فيها يقوم الكاتب بصياغة قصة بداخلها قصة أخرى أو مجموعة من القصص. لكن فيما يبدو أن الكاتب لم يقنع بذلك التكنيك فقط، لكنه أيضًا دمج أسلوب القصة الإطارية بأسلوب الرواية البنائية/التشكيلية Bildungsroman والتي فيها يرصد العمل الأدبي التطوُّر الذي يطرأ على بطل الرواية أخلاقيًا و نفسيًا مما يؤثر على بناء شخصيته وتطوُّرها في داخل نسيج البناء الدرامي. وبعد هذا التأصيل الفني، انتهج الكاتب أسلوب فلسفي يشابه هذا الذي يشدد علية الفيلسوف الأمريكي البرجماتي “جون ديوي” John Dewey (1859-1952)، والذي كان لمنهاجه الإصلاحي والتربوي عظيم الأثر في المجتمع الأمريكي وأي من المجتمعات والمؤسسات التي طبَّقت مبادئه.
دفع “جون ديوي” قاطرة التقدم في المجتمع الأمريكي بوضع أسس تربوية وأخلاقية يسهل تنفيذها على أرض الواقع. فلقد أنجز رسالته الاجتماعية والأخلاقية من خلال المطالبة بنزول الفلسفة من برجها العاجي؛ لتعالج مشكلات المجتمع. وذاك الإصرار دفع فلسفته في إطار براجماتي. وكما هو متعارف عليه، الفيلسوف هو ابن مجتمعه، وقد يختار التعبير عن مصالح طبقة أو شريحة اجتماعية، أو يسعى إلى الاهتمام بمصالح البشرية بأكملها. وذاك الاختيار الأخير قد اعتمده “جون ديوي” في فلسفته. ومن ثم، حقق شهرة واسعة في عصره، وامتدت شهرته للعصر الحديث ولسوف يستمرتأثرها على الأجيال القادمة؛ بسبب فلسفته الواقعية القابلة للتطبيق، والتي تحظى بشعبية واسعة واحترام شديد.
وعلى نفس الغرار، كانت رواية “صباح ينتظر الفرج”، التي تبلورت في شكل “بانوبتيكون” Panopticon شديد الإحكام، على غرار نموذج الفيلسوف والمصلح الاجتماعي “جيريمي بِنثام” Jeremy Bentham. والبانوبتيكون هو عبارة عن سجن دائري البناء يقف حارسه في المنتصف في بناء دائري الشكل يتيح له فرصة كشف جميع النزلاء من جميع الجهات. وفي هذا النموذج الاستعاري تقف بطلة الرواية “سماح” كحارس لهذا البناء المجتمعي البانوبتيكوني الشكل لكونها حلقة الوصل الذي يربط القصص التي يتألف منها العمل؛ فهي العنصر الرئيسي في القصة الإطارية Frame Narrative. وبما أن جميع النزلاء يمكنهم رؤية الحارس، تمامًا مثل جميع القصص التي لم تكن أبدًا لتتجسد في بناء العمل الدرامي، لولا احتكاكها ب “سماح”، كان من المناسب استخدام تكنيك الرواية البنائية/التشكيلية Bildungsroman والتي يصبح فيها تطوُّر الشخصية أسلوب يعكس هيبة الحارس التي تزداد يومًا تلو الآخر. ولقد اكتمل البناء الاستعاري للرواية بنعت البطلة باسم “سماح”، والذي ينم هنا ليس فقط على السماحة والتسامح، بل على القدرة على السماح للشيء أو منعه؛ مما يؤكد على فكرة أن شخصية بطلة الرواية صارت بمثابة حارس أمين على سجن المجتمع المتشابك الأجزاء؛ تتعلَّم منه وتعلِّم نزلاءه الجلد وتجاوز الأزمات.
وتدور أحداث الرواية حول فتاة صغيرة تتوقف رحلتها الدراسية قبل أن تصل للتعليم العالي؛ بسبب أن أسرتها حبَّذت تزويجها من خاطب مناسب يوفِّر لها حياة كريمة تصونها من التعرُّض لمصاعب الحياة، وتعفَّها عن صعوبات النزول لسوق العمل. وكالعادة، لا تأتي الرياح بما تشتهي السُّفن، ويتحوَّل الزوج من رمز للأمان إلى أداة لتحطيم آمالها في الحياة، بل ويصبح الجلَّاد الذي يزج بها في آتون جميع المشكلات التي تفتك بالأنثى العربية، سواء بعد الزواج أو بعد الطلاق. وبالرغم من إطار الحبكة التقليدي للرواية، إلا أن التجديد انبلج في صياغة حبكة تقليدية كإطار لحكايات أخرى تتشابك وتتوازى خلال رحلتها لتحقيق الذات، وفي بعض الأحيان قد يكون التأثير بينهم متبادل، أو تصير هي من تتعلَّم الدرس من المصاعب التي يجابهونها. ومع خوض “سماح” تجارب مختلفة، يقسو عودها، وتتحوَّل لشخصية صلبة لا تسمح لأيِّ كان أن يقهرها أو يحد من طموحها؛ من جرَّاء المصاعب المتتالية التي تعرضت لها، وتحتم عليها مجابهتها وحدها، بل والتصرف فيها بحنكة. ولولا تفكيرها السليم، لكان الفناء والهلاك نصيبها.
وفي غمار رحلة “سماح” للبحث عن الذات، يثير الكاتب العديد من قضايا الساعة مثل: حقوق المرأة، والزواج المبكِّر، والخيانة الزوجية وأثرها على بناء الأسرة، والعدل الاجتماعي، والشذوذ الجنسي، والمصاعب التي يقابلها الأفراد عند السفر للعمل في الخارج، وغيرها من القضايا الاجتماعية التي تؤرِّق العامة. وكان من الطريف أيضًا، عرض الكاتب لبعض المفاهيم الخاطئة التي قد تقوِّض الجهود التنموية في المجتمع الخليجي. ودار ذلك في إطار وحدوي يؤكِّد على العلاقات الطيِّبة التي تربط مصر بالمجتمع الخليجي، في توكيد غير مباشر على أن الوحدة بين أبناء العرب هي السبيل للتقدم وتخطِّي الصعوبات.
ويجب التوكيد على أن أي رواية بطلتها أنثى، لا يجب بالضرورة أن تندرج تحت إطار الأدب النسوي. ففي رواية “صباح ينتظر الفرج”، يبدو أن الكاتب “أحمد رزق” قد اختار الشخصية المحورية للرواية أنثى كي تكون مجازًا لكون المشكلات أجمعها تخرج من رحم واحد؛ فلو انصلح حال الأسرة التي تقوم على رعايتها الإناث، لانصلح حال المجتمع بأكمله. فمكانة المرأة في المجتمع – كما يعتقد جون ديوي – تحددها بيئتها، وليس تركيبها البيولوجي فقط”، وأي جهد إصلاحي من السهل تقويضه عند الإصرار على الإملاء على المرأة ما يجب أن تفعله، وما هو لزامًا عليها أن تنبذه.
الإطار الفلسفي الوجودي لرواية “صباح ينتظر الفرج” هو محك ناشط لاختبار الإرادة الحرة بشكل عملي واقعي، يبحث عن جوهر الوجود وعلَّته من خلال الموجودات الواقعية الحاضرة في عالمنا الحسي، أو بعبارة أرسطو: “البحث عن الوجود بما هو موجود”.