بالونات قياس وتوجيه الرأي العام

بالونات قياس وتوجيه الرأي العام

مع التقدم الهائل في تقنيات وسائل الاتصال والقفزات السريعة في تكنلوجيات المعلومات واهمية هذا التقدم في التثقيف والتوعية وتنميية المجتمعات ، يتعين بالمقابل تحديد مديات استخدام هذه الادوات في عمليات سلبية وغير اخلاقية وتآمرية ترقى الى مستوى تهديد الامن القومي وهدم كيان الدولة  مع راعية  محاذير المساس بالحريات في المجتمعات الديمقراطية .
ومسؤولية اجهزة الاستخبارات  المتطورة والمحترفة في الدول الديمقراطية هي حماية عقل المتلقي مع مراعاة حقوق الفرد في الاطلاع وحرية ابداء الرأي .
إن متلازمة الامن والاعلام ، اضحت من التعقيد والحرفية بحيث يصعب معرفة ماهو اعلامي وتثقيفي وماهو استخباري .  وتخوض اجهزة الاستخبارات في العديد من الدول معارك ضروس في قلب العملية الاعلامية وباتجاهين :
• اتجاه  ( دفاعي ) وذلك عبر  مراقبة ودراسة وتحليل المحتوى الاعلامي
• اتجاه ( هجومي ) من خلال  استغلال وسائل الاتصال للتأثير على المتلقي سواء كان المتلقي محلي ام خارجي عبر عمليات كبيرة ، طابعها اعلامي ولكن غاياتها استخبارية صرفة مستغلة تطور الادوات التقنية ولاسيما برامج وتطبيقات التواصل والتراسل عبر السوشيل ميديا .
وتهتم الدول والحكومات بتحليل مضمون وسائل الاعلام ، وبالاخص الرسائل ذات المضمون المبطن بالايدلوجيات والافكار لتحديد ما اذا الرسالة ذات :
نزعه ثورية ، تحريضية ، تغييرية ، تخريبية ، تآمرية .
ولذلك تنشئ الحكومات دوائر واجهزة سرية  خاصة مهمتها رصد وتحليل مضمون ما ينشر ويبث عبر وسائل التواصل ..
-في عهد النظام السابق اسس جهاز المخابرات عام 1985 مديرية البحوث الاجتماعية والنفسية وكانت مهمتها رصد حركة الشائعة والدعاية والمعلومات عبر ادوات بسيطة مثل شبكة المتسولين وباعة البسطيات وسائقي التكسي و…
-في السبعينيات من القرن الماضي انشأت وكالة الامن القومي  الاميركية.( NSA ) قسما یتابع ویحلل من حیث الکم والمضمون ما تبثه محطات التلفزة والاذاعات والصحف في الدول التي تهتم بشؤونها الولايات المتحدة ،اذ علمت اميركا بالانقلاب السلمي في الصين والاطاحة ب ماو تشي تونغ قبل ان تعلن بكين عنه .!
-في ايران وفي عهد الشاه كان جهاز الساواك يراقب بالتفصيل الصحافة العربية . إذ يقول حسين فروست المحلل السابق في جهاز الساواك  ان كمية المعلومات المستقة من وسائل الاعلام كانت كافية لمعرفة ما يدور في غرف نوم حكام دول الخليج .
بعد انتصار الثورة الاسلامية ، احتفظ الثوار ب حسين فردوست وعين باحثا في جهاز الاطلاعات واستطاع عام 1981 كشف محاولة انقلابية غربية للاطاحة بنظام العقيد القذافي من خلال الاستماع الى نشرات الاخبار  في الاذاعات الاوروپية .
وعن التداخل مابين ماهو امني وماهو اعلامي ، يقول ايهود باراك بعد ان عينه مناحيم بيغن مديرا لشعبة الاستخبارات الخارجية الاسرائيلية : كنت اقرأ صباحا صحيفة نيويورك تايمز  واستمع الى اذاعة البي بي سي فاحصل على احاطة حول اتجاهات الحكومات في الدول المحيطة باسرائيل وايضا بتوجهات الدول الغربية .
اليوم دائرة الاهتمام بالخبر  (  من رؤية امنية  ) باتت اوسع واكثر تعقيدا بحكم تعدد الوسائط والاساليب والتطورات في علم الحروب النفسية والاجتماعية .
فالموجات الاعلامية  التي تبث وتدار عبر المنصات الرقمية باتت اكثر علمية من حيث:
-صناعة المضمون
-من حيث جودة التقنية
-من حيث التخطيط المرحلي والاستراتيجي
وبتقديري ان العراق قد تحول الى حقل تجارب في تجريب العمليات ( الاعلامية ذات الاهداف الامنية التكتيكية والاستراتيجية  ) للتأثير على توجهاته وميوله ،
.   إذ صار بامكان افراد ممولين ودول واجهزة ومنظمات الخوض في ساحة السوشيل ميديا العراقية واطلاق موجات ( بالونية ) للتأثير على المتلقي في مراحل واحداث محددة ومخطط لها مسبقا.
وعلى سبيل المثال ، ومن خلال رصد مايبث خلال الاشهر الاربعة الماضية يلاحظ ان نسبة كبيرة من المحتوى المرسل عبر تطبيقات تيكتوك وفيسبوك مضمونه يركز على :
• التأثير سلبا على القرار الرسمي
• الابقاء على الامراض المجتمعية والنفسية الفردية السلبية كاليأس والاحباط والاتكالية ووو..
منذ  ثلاثة اشهر تحديدا، اغلب وسائل الاعلام التلفازية والرقمية تروج ( للتغيير  القادم في العراق ) واللافت ، هو ان شخصيات  سياسية رسمية وشبه رسمية ( تبرعت ) باطلاق تصريحات تتماشى مع هذا التوجه ،  الامر الذي حوله من شائعة الى حقيقة مثبتة  ومدعمة بتصريحات هذا المسؤول وذاك .
ولكن هذه الحملة يمكن دراستها  من زاويتين :
-اولا : أنها  لاغراض انتخابية وهدفها ارعاب الناخبين من جمهور الحزب او الجماعة السياسية لدفعهم نحو  التصويت لها باعتبار ان ( تلك الجهة السياسية هي الراعي والضامن للمذهب والطائفة  الحاكمة )  .
-ثانيا : انها عملية عدائية مركبة والغرض منها  :
• ترسيخ الاحباط الجماعي لدى المجتمع
• رسم هالة من الضبابية والغموض حول مدى الاستقرار السياسي والامني .
• تثبيط مسار الاعمار وعرقلة جذب الاستثمارات الخارجية واعاقة فرص الاستثمار في الاقتصاد الوطني .
•تعميق حالة عدم الثقة بالنظام السياسي الديمقراطي
• تشويه صورة وسمعة العراق الخارجية وترسيخ الانطباع الزائف منذ عام 2003 بان العراق بلد غير امن وغير مستقر واسوأ بلد للعيش .
هذه الاهداف والغايات  تؤثر سلبا بمجملها على الامن القومي العراقي وعلى مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والامنية وصولا نحو هدم وتفكيك النظام السياسي وأخيرا هدم اركان الدولة الدستورية  .
ان المحتوى الاعلامي  المخطط له بعلمية وحرفية من قبل جهاز استخباري او منظمة معادية  او عبر شبكة الكترونية مؤدلجة ،يصبح من قوة التأثير ما يتفوق على  تأثير اي نشاط امني واستخباري معادي تقليدي على الارض .
*بالونات قياس الرأي العام .
ما سبق ، كان حول تحليل مضمون المحتوى الاعلامي في سياق عمل ،( دفاعي ) لغرض تحديد ما يمس الامن القومي ويهدد كيان الدولة .
وخلال عملية التحليل يمكن للباحثين والمحللين في المراكز والدوائر المعنية بالرصد والمتابعة ان يكتشفوا عمليات اطلاق بالونات قياس واختبار عدائية هدفها ( تحديد مديات التأثير في العقل الجمعي العراقي ) .
للتوضيح  والتبسيط ، دعونا نتخذ قضية الطبيبة بان زياد طارق  نموذجا للدراسة ونسأل : هل كانت الموجة الاعلامية الهائلة التي رافقت الحدث ، هل كان المقصود معرفة الحقيقة والدفاع عن حقوق الطبيبة المنتحرة او الضحية  ؟!؟
بغض النظر عما كانت الحقيقة ، اعتقد ان ( عملية بان ) كانت واحدة من اهم التجارب التي تستحق الدراسة والتحليل كونها عملية ناجحة وتحولت الى  بالون اختبار مثالي متكامل حول قدرة الاعلام الالكتروني في اثارة الغرائز العاطفية ومن ثم اثارة العقل الجمعي وصولا نحو تشكيل رأي عام ضاغط ومحرك للشارع العراقي وهذا هو المهم بالنسبة للجهة او الجهات التي :
 إما اثارت القضية بدوافع اجتماعية بريئة  او للجهة التي تدرسها باعتبارة تجربة اعلامية ونفسية يمكن تكرارها مستقبلا لتحريك الشارع في اتجاه امني او سياسي او تخريبي .
وبتصوري ،ان خبراء صناعة الرأي العام يدرسون ( عملية بان ) كتجربة مهمة لمعرفة  :
• حدود ومستويات  استجابة المتلقي العراقي لموجات الدعاية والشائعة
• معرفة مدى استجابة العراقي للصدمة التي يمكن ان يحدثها حادث فجائي.
  •مدى تأثر العراقي بالحدث المصحوب بمحاكاة  الغرائز العاطفية وتأطيرها باطار سياسي.
•معرفة كيفية اطالة  المدة الزمنية التي يواصل خلالها المتلقي التفاعل مع الشائعة ومعرفة الزمن الذي تستغرقه عملية سباحة القصة في الفضاء المجازي .
• تحديد فاعلية ونسب  نجاح ( المواد المصورة ) وطرق انتاجها واشكالها  الفنيةالتي انتجت وتم الترويج لها خلال عملية تعزيز وادامة التفاعل مع القصة واستمرارها .
• تحديد نسبة نجاح المواد المفبركة التي انتجت عبر برامج الذكاء الصناعي ونشرت لتعزيز ،( احقية ) القضية ومعرفة مدى تصديقها وانطلائها على المتلقي  .
 ان الطرف الذي يحلل ( عملية بان ) يتوصل الى النتائج التالية :
-امكانية النجاح في تحديد مدى سهولة تمرير قصص مقرونه بحوادث صادمة ومؤثرة عاطفيا
-النجاح في فهم طبيعة التفاعل العاطفي وبالتالي  التحكم بردود افعال المتلقي العراقي .
-النجاح في اطالة امد تحرك القصة من خلال تغذية السوشيل ميديا بمنتجات متنوعة تعزز استمرار القصة وتحولها الى قضية راي عام .
– الاهم هو ان المتلقي العراقي يصدق وينساق خلف كل قضية ( يتطرف ) وينحاز اليها عاطفيا وجمعيا .
-الاخطر هو ان المتلقي العراقي (يتبرع ) من ذاته طوعا وينتج وينسج قصصا ويبتكر معلومات اضافية تمنح الموضوع الاصلي اهمية واثارة  اكبر واوسع وذلك طبقا لنظرية ( كرة الثلج ) باعتبارها من ادوات صناعة وتضخيم الشائعة المتدحرجة .
ان صناعة الراي العام ترتكز على ( العقل الجمعي ) والعقل الجمعي يلتئم ويتجمع بالصدمة الفجائية التي تقترن بالعاطفة وصولا  لدفع المتعاطفين نحو إحداث الانفجار .
وهنا نشير الى نماذج للشائعة العاطفية المؤطرة باطار سياسي والتي تصدم العقل الجمعي وحشده في اتجاه رأي عام متفجر ؛
 °فالثورة الفرنسية اندلعت بعد شائعة اعتقال المفكرين في سجن الباستيل… ولكن بعد 200 عام وبعد العثور على سجل السجناء انذاك ،  تبين انه لم يكن ايا من المثقفين في سجن الباستيل . !!
°الثورة الرومانية التي اطاحت بنظام شاوشيسكو. اندلعت بعد شائعة (مقتل متظاهرين في بلدة بيشمورا جنوب رومانيا)  وتبين لاحقا ان الصور التي انتشرت للقتلى  في بيشمورا هي لجثث متوفين سرقت من مشرحة مستشفى المدينة والقيت في الطرقات حيث جرا تصويرها وبثت عبر CNN    .

أحدث المقالات

أحدث المقالات