18 ديسمبر، 2024 6:56 م

بالعودة إلى حامد علوان الجبوري

بالعودة إلى حامد علوان الجبوري

نلاحظ مؤخراً أن بعض الأخوة الذين يكتبون عن السنوات الأخيرة من تاريخ العراق الحديث، يتناولون أحداثاً شائعة لدى الغالبية العظمى من الناس، وربما يحتفظ الآخرون بأحداث جسام تفوق ما يذكره هؤلاء الكتاب الذين كثيراً ما يطلبون منا العودة إلى ما قاله الوزير السابق حامد علوان الجبوري في شهادته على العصر بغية التأكيد. وقد تحدث الأستاذ الجبوري في أشياء كثيرة. غابت عنه أشياء، وأحتفظ بأشياء لنفسه، وهذا أمر طبيعي. لكني أعتقد أن أخطر ما قاله الجبوري، على كثرة ماقال، هو تلك الحكاية التي تخص عبد الرزاق النايف، مدير الإستخبارات العسكرية في زمن عارف، والمشارك في إنقلاب تموز الذي جاء بالبعثيين إلى السلطة، والمقتول أخيراً في لندن بعد أشهر قليلة. يقول الجبوري إن البكر أعطاه قبل الإنقلاب بأشهر ملفاً كاملاً في ثلاثين صفحة فيه من التفاصيل الدقيقة، وفيه من التواريخ والأسماء ما يثبت عمالة النايف للموساد الإسرائيلية. ويقول الجبوري إن الملف بقي عنده فترة، ثم أعاده للبكر، وكان الذي حمل الملف إلى البكر هو العقيد الركن سعدون غيدان، أما كاتبه فلا يعرف عنه شيئاً. ويضيف الجبوري إن الموساد كان يتحرك في بغداد بمطلق الحرية. وهذا قوله. لكن السيد الجبوري لم يذكر لنا في حديثه نتفة ولو صغيرة من بين تلك الثلاثين صفحة، ولم يأت على شاهدة أو اسم، ولم يراجع نفسه حتى الآن عن صحة المعلومات التي قرأها في حينه، بل سلم تسليماً كاملاً بكل الصفحات الثلاثين، وبلا نقاش مع نفسه أو مع البكر. والحقيقة أننا نعرف جيداً أن سعدون غيدان لم يكن ذلك الرجل القادر على كتابة تقرير مفصل عن الموساد في العراق، ولا نعرف للرجل حتى اليوم رأياً أو موقفاً أو تصريحاً يعلق بالذهن، ما عدا ما قاله مرة في الثمانينات لجريدة الثورة من أنه بعثي قديم جداً، وإن اسمه الحركي هو عبد الله، وكان هذا التصريح نكتة في حينه، لأننا نعرف أن غيدان لم يزد في البعث خردلة، ولا البعثيون لهم شغل بغيدان وأشباه غيدان، فهو رجل سيف، وكأس، ونساء. ولو سألنا الآن الأستاذ الجبوري أن يصف لنا كيف كان الموساد يتحرك في بغداد بتلك الحرية المطلقة، ويعطينا واقعة واحدة على ما يقول، لما أفادنا بشيء. من ناحية أخرى، لو كان النايف عميلاً للموساد لما إمتدت له أيادي السلطة الجديدة وقتلته في لندن، أرض الموساد، والمعروف إن الموساد تضع خطوطاً حمراء صعبة على عملائها لا يمكن لأحد تجاوزها أو الإستفادة منها. والمعروف عن النايف أيضاً أنه يمت بصلة القرابة إلى عارف. وهو إنسان طموح جداً حتى أنه فرض شرطاً للتعاون مع البعثيين أن يكون رئيس وزراء في الحكومة الجديدة، ولا شك بأن كانت لديه طموحات أخرى لم تسعفه الأيام على تحقيقها. لكن النايف رجل متردد، جديد على السياسة وألاعيبها المرة، فحالما عرفت السفارة البريطانية في بغداد بأن الرجل يعد مع جماعته لإنقلاب عسكري وشيك الوقوع في نيسان من ذلك العام المشؤوم على العراقيين، حتى سارعت إلى الإتصال به، وفرضت عليه التعاون المر مع الجالس أمامه غير السفير البريطاني، وهو أحمد حسن البكر. ومن الحقائق الثابتة اليوم أن البكر، وحردان التكريتي، وصالح مهدي عماش، وأكرم الياسين، كانوا يزورون السفارة البريطانية ليلاً إثنين إثنين، وبواقع مرتين في شهري مايس وحزيران من ذلك العام، كما إن البكر زاد من زياراته للسفارة البريطانية في شهر حزيران، وكان يأتي مع بزوغ الفجر، ويمكن الرجوع في هذا إلى كتاب الدكتور هيثم الناهي بعنوان “خيانة النص”. إذاً كان النايف على علم أكيد بكل هذه التحركات الواضحة والتي تقترب من العلن، فأسقط في يده، ووجد حتاماً عليه أن يسلم مصيره ورقبته إلى البكر وأعوانه، وإلى حين. لكن المخطط كله كان واضحاً وجاهزاً من البداية لدى البريطانيين من ناحية، والبكر وجماعته من ناحية أخرى. وهكذا سار النايف مرغماً إلى حتفه ككل الخونة، مرغماً لا بطلاً، وأصبح في أيام قليلة لقمة سائغة لدى البريطانيين، وعلى أرضهم، لكنه لم يدخل في تاريخهم الذي يعج بالحكايات النادرة والأعاجيب، فكان لا بد من قتله. لكن البريطانيين لم يكونوا مستعدين لتلويث أيديهم بدماء النايف، فلهم الآن وريث قوي ومستقر هو الذي يقوم بالمهمة السهلة. وذهبت دماء النايف هدراً بيد فاعل مجهول. لكن النايف الذي كان يتملكه الغضب، وتكسره الفجيعة، أراد أن يكتب مذكراته كي يعري من يعري، وهو العريان الأول، لا الأخير. كتبها بالفعل، وبدقة الرجل العسكري، مدير الإستخبارات السابق، وأعطاها إلى الروائي أحمد دايح الدوري للنشر. وبعد ثلاثة أيام، يقتل النايف، وتختقي المذكرات إلى الأبد. إنه مصير الدايحين على أية حال. تذكرت هذا وأنا أشتري بطيخة من البائع الجوال. طلبت منه أن يضرب عليها بيده ليتأكد من حلاوتها، ففعل. لكن الرجل نظر إلي بابتسامة عريضة وقال: جبنا عمرنا كله بالتطبطب، نطبطب، نطبطب، وما حصلنا شي .. ! وكان الرجل بليغاً، فصيحاً في هذا لأنه إبن الشعب البار.