جذبتني شخصية المذيع ريسان مطر منذ أول لقاءٍ جمعني به في مساء الأحد ١٩٩٢/٢/٩م في قسم التصحيح بجريدة (العراق) .
كانت مهمته تدقيق الصفحة قبل تصويرها، ويُكلف بمراجعة المقال الافتتاحي لرئيس التحرير أحياناً، لكنَّه يحب الانغماس في العمل معنا، ويتابع تصحيحاتنا، ويدخل في جدلٍ حادٍ مع الناقد عبد المطلب صالح بشأن استخدام بعض الصياغات فريسان مطر متشددٌ، ومعجميٌّ باللغة بينما يميل عبد المطلب صالح إلى المرونة بوصف اللغة كائناً حياً.
أحسستُ به قريباً جداً مني مع أنَّ بينه وبيني نحو ثلاثة عقود من السنين .
صوته له رنينٌ لا تُخطئه الأُذن يأسر المرء، ويقوده إلى زمن الأسود والأبيض ، وتقاليد الفن الإذاعي الجميل.
التقيتُ في ما بعد مذيعين من جيل الرواد، لكنْ ظلت لريسان مطر تلك النكهة التي لم تغادرني.
بعد أن إطمأن اليَّ، وتأكد أنَّني لستُ عنصراً من عناصر أحد الأجهزة الأمنية، حكى لي قصته، قال : إنَّه خريج كلية التربية/ قسم الرياضيات، وحصل على دبلومٍ عالٍ، وسعى إلى الحصول على شهادة الماجستير في الإعلام من جامعة عين شمس في مصر عندما كان يعمل دبلوماسياً عام ١٩٧٩م إلا أنّه استُدعي إلى بغداد قبل ثلاثة أيام من موعد مناقشة أُطروحة رسالته، وكانت هذه إحدى الفرص الضائعة في حياته.
تحدث لي عن دخوله إذاعة بغداد التي استهواه العمل فيها منتصف الخمسينيات مع نخبةٍ من المذيعين المتميزين منهم : محمّد علي كريم، وعادل نورس، و ناظم جواد، ومال الله الخشاب الذي بدَّل اسمه بعدما ذهب إلى السعودية، وحصل على الجنسية السعودية، وبقي هناك ضمن كادر إذاعة الرياض.
يعتز ريسان مطر بقراءته لبيان رقم واحد لثورة ١٩٥٨/٧/١٤م (٢٦ من ذي الحجة ١٣٧٧ هـ).
يقول : جئتُ إلى إذاعة بغداد في الصالحية الساعة السادسة من صباح يوم الاثنين ١٤ تموز فأعطوني بيان الثورة، وقد سبقني بقراءته العقيد الركن عبد السلام محمد عارف، والمذيعة عربية توفيق [ دكتوراه في الأدب العربي ( ١٩٣٩م ـ ٢٠٠٩م) ] ، وقد نجحتُ في قراءته بطريقةٍ معبرةٍ.
يضيف : كان صوتي مميزاً، وكانت الناس تلقبني بـ (أحمد سعيد العراق) تشبيهاً بالمذيع المصري الشهير، ومدير إذاعة صوت العرب في الخمسينيات والستينيات أحمد سعيد
(١٩٢٥م ـ ٢٠١٨م) .
من المفارقات التي يذكرها يقول : تعرض المذيع محمّد علي كريم عام ١٩٥٧م إلى وعكةٍ صحيةٍ ، وطلب مني أن أقرأ نشرة أخبار الثامنة صباحاً بدلاً عنه، فقرأتها.
مساء اليوم نفسه اتصل رئيس الحكومة نوري السعيد بمدير الإذاعة خليل إبراهيم، وسأله عن اسم قارىء النشرة فردَّ : إنَّه المذيع محمّد علي كريم.
لكنَّ الباشا نوري السعيد المتابع لما يُذاع نفى أن يكون قارىء النشرة محمد علي كريم لأنَّه يعرف صوته، فاستدرك مدير الإذاعة قائلاً : نعم، إنَّه المذيع عادل نورس !
وكان دوام المذيع عادل نورس يبدأ الساعة التاسعة مساء، فجاءت سيارةٌ من طرف نوري السعيد ، ونزل سائقها، وسأل : أين المذيع عادل نورس؟
وحين أوصلوه إلى غرفته قال له : الباشا نوري السعيد أرسل لك خمسين ديناراً، مع قلم حبر باركر هديةً !!
يُضيف : لقد دُهش عادل نورس لهذه الهدية الثمينة.(كان راتب المذيع نحو عشرين ديناراً شهرياً).
وفي صباح اليوم التالي بانت الحقيقة بأنَّ الهدية لم تصل إلى الشخص المقصود، لكنَّ عادل نورس رفض إرجاع ما أخذ إليَّ مردداً الآية الكريمة 🙁 وفي السماء رزقكم وما توعدون) !!
يتذكر ريسان فصله من الإذاعة مرتين : الأولى قبل يومٍ واحدٍ من ثورة ١٤ تموز سنة ١٩٥٨م.لكنَّ الأمر الإداري لم يوقع، وحدثت الثورة في اليوم التالي، وجرى إلغاؤه.
الثانية : يقول : كان مدير الإذاعة شيوعياً، ولم يرتح لوجودي، فصدر أمر بفصلي في ١٩٥٩/٣/٢م.
[صدر أمرٌ وزاريٌّ من وزير الإرشاد برقم
(٢٩٤٥) في ١٩٥٩/٣/٢م ينص :
(بناءً على مقتضيات المصلحة العامة ونظراً لمتطلبات الأمن، فقد قررنا فصلَ كلٍ من:
ريسان مطر (مذيع)/ ١٨ ديناراً شهرياً
عربية توفيق لازم (مذيعة)/ (٥) دنانير أسبوعيا.
ينفذ هذا الأمر اعتباراً من تاريخ صدوره)] .
سألته عن وظيفته في السفارة العراقية بالقاهرة فقال : كنتُ أشغل وظيفة معاون المستشار الثقافي العراقي في سفارة جمهورية العراق.
وعن استتباب الأمن في مصر، قال : يندر أن يتخلص المواطن المصري من سلطة الأمن والمخابرات.
أضاف : إنَّ السلطات المصرية تمتص نقمة الشعب بأسلوبين : الأول إتاحة المجال للمواطن للكلام بحريةٍ، والثاني : رصد العناصر المهمة، والفاعلة في المجتمع، ومحاولة إخراجها من مصر ببعثةٍ دراسيةٍ، أو مهمةٍ دبلوماسيةٍ لينشغلوا بمعيشتهم !!
سألته : هل هناك نشاطٌ لحزب البعث في مصر؟
قال: نعم، فمنذ عام ١٩٥٤م كان هناك نشاطٌ لحزب البعث، وقد حصل الدكتور عبد الله عبد الدايم المختص بالتنظيم والتخطيط على درجة عضو فرع في قيادة البعث !
لكنَّه أردف : في مصر وجدتُ أشخاصاً مهما تبذل من جهدٍ في حوارك معهم فلن تحصل على نتيجةٍ فإذا جادلت شيوعياً مثلاً قال لك في آخر كلامه : يحلها ربنا ! لكن هذا لا يمنع من وجود مناضلين حقيقيين.
تحدث ريسان مطر بألمٍ، وحرقةٍ عن قصة طرده من الإعدادية المركزية ببغداد سنة ١٩٥٤م لأسباب طبقية.
يقول : كنتُ أروم الدراسة في هذه الإعدادية المرموقة فقدمت أوراقي إليها لكنَّ المدير طردني، فذهبتُ بعد طردي من تلك الإعدادية إلى وزارة المعارف، ونجحتُ في مقابلة الوزير خليل كنة، وقلتُ له : إنَّ مدير الإعدادية المركزية طردني من المدرسة حين علم أن مهنة أبي هي عامل.
انتصر الوزير لي، وأنبَّ المدير، وجرى قبولي في المدرسة مع أن أغلب المقبولين في تلك المدرسة كانوا من أبناء الذوات، وقد نصحني أحد مدرسي المدرسة بعدم الاصطدام مع هؤلاء لأنَّ الغباء نعمة !
كان يكرر القول : هنيالة الغبي !!
لم يخفِ ريسان مطر انتماءه إلى حزب البعث لكنَّ حادثةً واحدةً أجبرته على ترك الحزب، وهي ما حصل سنة ١٩٨١م حينما دُعي في الحزب إلى التطوع في الجيش الشعبي فكان من ضمن ٢٢٠ عضواً رافضاً للتطوع فصدر قرارٌ بفصلهم من الحزب.
يُلخص القصة بالقول : وقف عضو القيادة القطرية في حزب البعث سمير الشيخلي أمامنا قائلاً : الإنسان الشريف يصير هنا، وغير الشريف يصير هناك !
(سمير الشيخلي تسنم عدة مناصب مهمة في الدولة منذ عام ١٩٧٨م وحتى سنة ١٩٩١م منها: أمين بغداد، ووزير التعليم العالي والبحث العلمي، ووزير الصحة وكالةً، ووزير الداخلية)
يُعلق ريسان مطر : إنَّ المؤامرة على حزب البعث بدأت منذ عام ١٩٨١م، وأنَّه حاول توضيح الموقف برسائل بعثها إلى الرئيس صدام حسين لكنَّه لم يتلقَ جواباً.
[ اجتمع صدام حسين نهاية سنة ١٩٨١م بأعضاء الحزب، وأمر الحاضرين ـ في أجواء من الرعب ـ ممن لم يسجلوا أسماءهم، ويتطوعوا للقتال في الحرب العراقية الإيرانية بالخروج من القاعة قائلاً :الكل تطلعون ، تروحون على بيوتكم انتم مفصولين من الحزب يله.
ما أريد مناقشة، كل من ما مسجل اسمه قبل هذي الندوة يطلع، يغادر يله.. حماية :كل من ما يطلع اضربوه (تصفيق وهتاف).. گبل ما تطلعون.. رجعوهم، خل يسمعون حجاية أخيرة مني.. ما أريد كلام.. الثورة الها رجالها، والها قادتها، والها جماهيرها.. راح تطلعون، انتم مفصولين من الحزب.. قسماً بالله الي أسمعه همساً يحجي ويه مواطن عراقي أو بعثي الا أطره بيدي أربع وصل.. اسمعتو زين.. إلى أن تقرر القيادة مصيركم.. يله اطلعوا، انعل ابو هالشوارب (من تسجيل فديوي لصدام حسين بُث على قناة اليوتيوب)]
سألته : لماذا يشتري الناس الجريدة ؟
قال : ينقسم الناس في سبب اقتنائهم للجريدة إلى ثلاثة أنواع : الأول: يشتريها ليقرأها بعد الدوام فيحصل على موجزٍ يمكنه من معرفة التطورات السياسية والأمور العامة.
الثاني : يشتريها ليقرأ الإعلانات والوفيات بقدر تعلق الأمر به.
والثالث : يشتريها ليأكل عليها !
ذكرني النوع الثالث بنكتةٍ ربما تكون قد حصلت فعلاً ، حين زار أحد القادة وحدةً عسكريةً في إحدى سنوات الحرب العراقية الإيرانية، وسأل الجنود عن احتياجاتهم فرفع أحدهم يده قائلاً :إنَّ الجرائد سيدي لا تصلنا !
سُرَّ القائد، وأمر ضابط التوجيه السياسي، أو المعنوي أن يوفر عدداً من الجرائد.
ثمَّ عاد ليسأل الجندي : أيّ جريدةٍ تفضل ؟
أجاب الجندي بتلقائيةٍ : لا يهم سيدي اسم الجريدة إنما المهم هو وجود جريدة لنأكل عليها!
(السيرة مستمرةٌ، شكراً لمن صبر معي.. يتبع)