كان اطلاق لحيتي بعد أن سكتت المدافع سنة ١٩٩١م، واتسع تصحر بلاد الرافدين علامة رفضٍ للاستبداد، أكثر مما هي علامة تدينٍ !
تزامن قرار الإبقاء على لحيتي مع قرار وقف اطلاق النار في حرب الخليج الثانية.
هكذا قررتُ أن أُوقف الموس عن العمل !
استفدتُ في ذلك من ضعف أجهزة النظام، وارتخاء قبضته في ملاحقة المستقلين والملتحين، والمحجبات !
حكاية تداولها الناس قابلةٌ للتصديق ملخصها :أنَّ مجموعةً من رجال الأمن اعتقلوا شاباً ملتحياً فسألوه عن سبب اطلاقه لحيته، وقد ظنَّ أنَّه وجد عذراً يلوذ به فأجابهم قائلاً : إنَّني أقتدي بالأُستاذ الفاضل عدي صدام حسين، فانهالوا عليه ضرباً قائلين : ( يول.. شلون تقارن نفسك باستاد عدي) !
عندما باشرتُ العمل في جريدة (العراق) يوم الأحد الموافق ١٩٩٢/٢/٩ كنتُ في عامي التاسع والعشرين، وكانت لحيتي سوداء كثيفة لم أتخلَّ عنها في أحلك الظروف، حتى حين رجاني في إحدى الليالي مدير التحرير أكرم علي حسين بلهجةٍ أبويةٍ أن أحلقها حفاظاً على سلامتي، معززاً رجاءه بأنَّ الإيمان يظل في القلب، لكنَّني شكرته على عاطفته الصادقة، وأجبته بأنَّ هذه حرية شخصية، وإذا كانت الملاحظة من عنده فعليه أن يطمئن، ووعدته بتخفيفها !
لكنَّ تكتيك تخفيف اللحية لم يكن غائباً عن المنظومة الأمنية ففي أحد الاستدعاءات الأمنية في دائرة أمن مدينة الحرية غربي بغداد قال لي مدير أمن الحرية بلهجة الواثق : إنَّ معلوماتنا عنك أنَّ لحيتك كثيفةٌ فلماذا حلقتها قبل أن تأتي إلى هنا ؟
لم أملك وقتها جواباً فكان سكوتي أهون الشرين لأنَّ أيّ جملةٍ أنطقها ستكون ضدي، والدليل أنَّ الضابط المذكور غضبَ من ذكري لآيةٍ قرآنيةٍ أوردتُها في سياق كلامي، وهي قوله تعالى :
(وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) التي وردت في سورة الإسراء، الآية( ١٥)، وفي سورة الأنعام الآية (١٦٤)، وفي سورة فاطر الآية (١٨)، وفي سورة الزمر الآية (٧) وفي سورة النجم وردت بصيغةٍ :(أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) الآية رقم (٣٨).
يورد السيد العلامة محمد حسين الطباطبائي
(١٩٠٤م ـ ١٩٨١م) في كتابه القيّم (الميزان في تفسير القرآن ج١٧ ص ٣٥) ما نصه : (قال الراغب: الوزر – بفتحتين – الملجأ الذي يُلتجأ إليه من الجبل، قال تعالى:
” كلا لا وزر ” والوزر – بالكسر فالسكون – الثقل تشبيهاً بوزر الجبل، ويُعبر به عن الإثم كما يعبر عنه بالثقل قال تعالى:” ليحملوا أوزارهم كاملةً ” الآية كقوله: ” ليحملوا أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم “. انتهى، فالمعنى لا تحمل نفسٌ حاملةٌ للإثم إثم نفسٍ أخرى، ولازم ذلك أن لا تؤاخذ نفس إلا بما حملت من إثم نفسها واكتسبته من الوزر)، فكأنَّ الضابط أمسك بدليلٍ ملموس ضدي، وأخذ يقلد (القائد الضرورة) في كلامه بدعوى أنَّنا نطبق قوانين الأرض لا قوانين السماء !
لم أكن مناضلاً، أو أُشكّل خطراً على النظام، ولم تكن لديَّ (خدمة جهادية) لكنَّ النظام بملاحقته لنا، واستدعاءاته المستمرة لمن يشك في ولائهم كان يريد أن يقول لي، ولأمثالي : ها أنذا !!
وبمناسبة الحديث عن اللحى لا بأس بهذه الحكاية :
يروون في الأمثال مثلاً يقول : (بين حَانة ومَانة ضاعَتْ لِحَانا) ، وقصته أنَّ رجلاً كان متزوجاً من امرأتين ( حين لم يكن الزواج من إمرأةٍ ثانيةٍ جريمةً ! ) إحداهما تُدعى (حانة) ، وهي فتاة في سن العشرين (هل تتذكرون مسلسل فتاة في العشرين؟) ، عكس (مانة) الزوجة التي كانت متقدمةً بالعمر، فكان هذا الرجل كلما أتى إلى (حانة) أمسكت بلحيته، وانتزعت كل شعرةٍ بيضاء منها ثمَّ قالت: (يصعب علي أن أرى الشعر الأبيض يلعب بهذه اللحية الجميلة، وأنت ما زلت شاباً) فترتفع معنوياته! ، وعندما يذهب إلى (مانة) تمسك بلحيته، وتنتزع أية شعرة سوداء، وتقول : «يكدرني أن أرى شعراً أسود بلحيتك، وأنت رجلٌ كبير السن، جليل القدر)! ، وبقي على هذه الحال مدةً من الزمن، حتى نظر إلى نفسه يوماً في المرآة، وأفزعه أنَّه فقد شعراً كثيراً فأمسك المتبقي من لحيته بغضبٍ وقال : (بين حانة ومانة ضاعت لحانا)!!
دخلتُ قسم التصحيح ملتحياً مع سجادتي المحيوكة يدوياً وسط دهشة زملائي من جرأتي؛ لأنَّ موظف البدالة المتقدم في العمر هو الشخص الوحيد الذي يجهر بصلاته، وسجادته، وكان مرجعاً شعبياً لمنتسبي الجريدة في المسائل الدينية؛ لعدم وجود رجل دين يُرجع إليه في المسائل البسيطة فالتديّن بعيدٌ عن هذه الأجواء، والمتديّن عملةٌ نادرةٌ.
نعم كان يزورنا بين الحين والآخر بعض الشيوخ كالشيخ عبد الغفار العباسي، والشيخ جلال الدين الحنفي (١٩١٤م ـ ٢٠٠٦م) لكن لا يسألهم أحدٌ، ويُكتفى بالترحيب بهم، والمزاح معهم !
نعود إلى موظف البدالة المتديّن، فيروى عنه أنَّ الكاتب داود الفرحان اتصل صباح أحد الأيام برئيس التحرير نصر الله الداودي ليهنئه بالعيد فلما استفسر عن أيّة عيدٍ يقصد ؟ أجابه الفرحان بأنَّ التاريخ الهجري الذي ظهر في الصفحة الأولى من جريدة (العراق) هوالأول من شوال !
أرسل الداودي على رئيس قسم التصحيح، وسأله عن هذا الخطأ الفادح، وكيف ظهر شهر شوال بدل شهر رمضان؟ فأجابه : لقد سألنا موظف البدالة عن تاريخ اليوم الهجري فأجابنا بأنَّه الأول من شوال !!
عندما رأيتُ الشاعر حسن النواب في قسم التصحيح أعجبتني لحيته التي هي أقل كثافةً من لحية القاص محمد إسماعيل، وأكثر كثافةً من لحيتي !
تذكرتُ الحكاية الشهيرة حين سُئل الفيلسوف الايرلندي الشهير جورج برنارد شو
(١٨٥٦م ـ ١٩٥٠م) عن الرأسمالية، فأشار إلى لحيته الكثيفة، قائلاً: غزارة في الإنتاج، ثم مسح بيده على صلعته، وقال : وسوء في التوزيع !
ومنذ اليوم الأول للقائي به أخذ حسن النواب يُكرر مقطعاً شعرياً للشاعر صلاح حسن يقول فيه : ( كل ملتحٍ فارسٌ، والشهيد غنيمةٌ) !
لم أتردد في سؤال حسن النواب عن ظروف إطلاق لحيته بهذه الكثافة ولابدَّ أنَّ لها تاريخاً، وحكايةً، فأجابني : أنَّه نشر أربع قصص قصيرة في جريدة (بابل) التي كان القاص عبد الستار ناصر مسؤولاً عن الصفحة الثقافية فيها، ويبدو أنَّ نشر هذه القصص لشاعرٍ، وما تحمله من تجديدٍ قد أثار القاص إسماعيل عيسى بكر الذي قال للنواب صراحةً في حديقة اتحاد الأدباء في ساحة الأندلس ببغداد : وما شأنك بكتابة القصة ، وأنتَ شاعر؟
رد النواب بقوةٍ : أنتَ تهتم بأناقتك أكثر من اهتمامك بالقصة !
أثارت هذه الجملة الاستفزازية حفيظة القاص إسماعيل عيسى بكر، وعيل صبره ، فأخذ زجاجةً فارغةً، وضرب بها النواب على خده الأيسر مما سبَّب له نزفاً، وجرحاً غائراً قرب صيوان الأذن اليسرى، استدعى نقله فوراً إلى صالة الطوارىء في المستشفى، وبعد اللتيا والتي نجح الطبيب الخافر في ايقاف النزف، ورتق الجرح، لكنَّ أثره بقي واضحاً فاضطر النواب بعدها إلى إطلاق لحيته باستمرار !
ولد حسن النواب في كربلاء مطلع ستينيات القرن الماضي، حياته سريالية فقد حصل على الدبلوم من المعهد الزراعي في أبو غريب قبل الغائه ، وسُيق إلى الخدمة العسكرية جُندياً مُكلفاً، فعاش أسوأ سنوات الحرب العراقية الإيرانية في مطحنة الثمانينيات، وسُجن ثمانية أشهر بسبب هربه من ساحات القتل، فهو من جيل الحرب، والحصار شعرياً، وفعلياً، وحين وضعت الحرب أوزارها لم يجد في بغداد سوى الشعر،والصعلكة مهنةً له تناسبه مع العمل مُصحّحاً في جريدة (العراق) مع ما تفرضه هذه المهنة من جديةٍ، ودقةٍ، وانضباطٍ عالٍ، وهي صفاتٌ تتناقض مع الصعلكة بكل ما فيها من حياةٍ فوضويةٍ، والعيش على هامش الحياة !
كانت مسافة التعارف بيني، وبينه قصيرةً وسريعةً، وانفتح كلٌ منا على الآخر، واكتشفتُ أنَّ لديه لغةً سرديةً شائقةً فضلاً عن عذوبة شعره.
في سنة ١٩٩٥م أصدرت له دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد كتابه السردي (ضماد ميدان لذاكرةٍ جريحةٍ) وضمَّنه مقاطع شعرية أطلق عليها صفة (قصف شعري) ومنها هذا المقطع الذي يخاطب فيه الشاعر الصعلوك جان دمو قائلاً :
أخرجتُ قُبيل ثوانٍ
من دولابِ فؤادي
زي الكاكي
فانبثقت ذاكرة الحرب
أراها
تتدفق مثل نوافير نبيذٍ أحمر
وشممتُ دقائق
رائحة العشب خليطاً
بالبارود
راحت أيام المدني
يا جان !!
أعود إلى وَرطة اللحية ؛ فقد زار قسمنا كالعادة المسؤول الأمني عن الجريدة العقيد عبد العزيز الراوي، وما أن رآني حتى ألقى عليَّ جملةً أفزعتني، وجعلتني أشعر بالرعب أياماً !
قال لي الراوي مبتسماً، وبلهجةٍ ودودٍ : ظننتك أنتَ حسن النواب !
بعد أن غادرنا الراوي التفتُ لحسن النواب وسألته : ما الأمر يا حسن، وما الذي يقصده الراوي ؟
أجاب حسن : إنَّ الحاج عبد العزيز الراوي، ورئيس التحرير أبا شيلان لهما الفضل عليَّ.
قلتُ : كيف ؟
قال : لقد استدعاني رئيس التحرير، وكان يجلس قربه الحاج عبد العزيز الراوي، وأخبراني : لقد رُفع عنك تقرير يقصم الظهر من أحد ندمائك في حديقة اتحاد الأدباء يفيد بتهجمك على ذات السيد الرئيس حفظه الله ورعاه، ولحسن الحظ أنَّ التقرير وصل إلى الراوي الذي اتصل بي، وقررنا إغلاق القضية.
يضيف النواب : التفت إليَّ رئيس التحرير ناصحاً وقال : أرجوك يا حسن لا تتكلم عن الدولة بسوءٍ أمام أي أحدٍ !
لكن ما علاقتي بقول الراوي لي : ظننتك حسن النواب ؟
الجواب : لحيتنا المشتركة !
وأختم بقول الوزير أبي الوليد بن طريف في المعتمد بن عباد بعد خلعه :
مَنْ حُلقت لحية جارٍ له
فليسكب الماء على لحيته !
( السيرة مستمرةٌ،شكراً لمن صبر معي.. يتبع)