22 ديسمبر، 2024 9:46 م

باريس والارهاب والآخرون

باريس والارهاب والآخرون

قد يكون هذا هو الوقت النموذجي للرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند كي يقلب أوراق الجنرال شارل ديغول المتعلقة بالشرق الاوسط. فثمة وصفات سياسية للجنرال تجاور الإرث الكولونيالي الفرنسي في المنطقة لكنها مطعمة بنكهة الديمقراطية. مرة قال بما يشبه الوصايا البوذية “يجب الذهاب الى الشرق المعقد بافكار بسيطة”. لكن أولاند الموغل ببساطة السلوك اليومي وهو يقود دراجته الهوائية نحو قصر الأليزيه موغل بالمقابل بالافكار المعقدة وهو ذاهب على متن حاملة الطائرات التي تحمل اسم ديغول نحو هذا الشرق الذي لم يعد معقدّا كما كان على أيامه. كما ان أولاند، وهو القادم من فضاءات الاشتراكية الفرنسية المفتوحة على جميع التناقضات فيما يتعلق بهذا الشرق، تكاد مواقفه أن تتماهى مع مواقف سلفه الديغولي ساركوزي الذي لم يكن وفيا لديغوليته هو الآخر عندما تعلق الأمر بأزمات المنطقة التي شهدت تغييرات دراماتيكة تحت يافطة الديمقراطية والحرية وحقوق الانسان والتي باتت أسلحة معدة للاطلاق ضد الشعوب ولم تعد قيما إنسانية في الأجندة الأمريكية ولواحقها الغربية ومنها الأجندة الباريسية.

الرئيس الفرنسي الذي يستعير قبعة رعاة البقر من الرئيس الامريكي السابق جورج بوش وهو يسيرعلى عجلة من أمره للحصول على موطأ قدم فوق شواطىء النفط الخليجية، لم يلتفت الى الماضي ولو قليلا، ليستعيد مقاربات الحزب الاشتراكي الفرنسي حول الديمقراطية والأمن في المنطقة. فقد أنتجت أدبيات الحزب على هامش القمة الفرنكوفونية التي عقدت في باريس إبان عهد الرئيس الاسبق فرانسوا ميتران مقاربات مسّت عصب الأزمات التي طفت على السطح مجددا إثر دخول القوات العراقية الى الكويت في آب 1990، كما أنتجت مواقف تكاد أن تتقاطع مع مواقف واشنطن المتعطشة لشن الحرب على العراق. آنذاك عرّف البيان الختامي للمؤتمر الأمن على انه” يتجاوز مجرد القدرات العسكرية، وكم أنه يرتكز على منظومة مركّبة تتداخل فيها الأسلحة، بالأوضاع الداخلية، بالديمقراطية”. وبعد أكثر من ربع قرن على هذا التعريف الذي ولد من رحم فرنسا الميترانية، لم يستطع اولاند الربط بين جرح باريس وبين أزمات المنطقة التي كان هو وسلفه ساركوزي من أبرز صنّاعها أو من الداعمين لتعميقها. المشكلة الفلسطينية تسير نحو تفجير جديد. التلاعب الدولي بأسعار النفط العالمية وإنعكاساته على تنمية بلدان المنطقة ذات الإقتصاد الاحادي الريعي المعتمد بالدرجة الأساس على مردودات نفطها. الصراعات الاثنية والطائفية التي تفجرت في معظم دول المنطقة برعاية أمريكية، وأوربية في بعض الأحيان، وما نتج عنها من توالد أميبي

لتنظيمات إرهابية لم تعد تكتفي بعمليات التفجير، بل وأصبحت أقرب الى الجيوش المنظمة بعد أن بدأت تحصل على أسلحة وتجهيزات عسكرية متطورة بأساليب وطرق غامضة وبدأت فرض سيطرتها على أراضي شاسعة كما هو حاصل في العراق وسوريا، بل وصلت الى حد إعلان دولة الخلافة على هذه الاراضي بما يتبع ذلك من قوانين ومنظومات ثقافية وإجتماعية أقل ما يمكن ان يقال عنها، إنها معدة للتصادم مع قيم الحداثة التي بدأت تغزو معظم دول العالم في ظل ثورة الاتصالات والمعلومات التي حولت العالم فعليا الى مجرد قرية صغيرة، إضافة الى ما خلفته هذه التنظيمات من هجرات داخلية وخارجية كبيرة.

وبما يشبه خيانة الارث الاشتراكي الفرنسي، يقفز أولاند على ما حققه ميتران في ذلك البيان الذي عد في حينه ميثاقا جديدا للعلاقات بين الدول، حيث حرص على أن يتضمن الفقرة التالية “أن الديمقراطية نظام وحيد لا بديل له وأنه يكفل إحترام الأقليات الإثنية والثقافية والدينية والقومية و يرفض إستخدام القوة أو التهديد بها في العلاقات بين الدول وينشئ، لهذه الغاية، هيئة وقاية من الأزمات.” وبدلا من تفعيل الهيئة التي باتت من ضرورات إطفاء الحرائق التي يبدو انها مرشحة للاشتعال في منطق عدة من العالم، باريس بضمنها بطبيعة الحال، ليلحق بركب واشنطن السائر نحو صب الزيت على حرائق المنطقة في سوريا والعراق واليمن والسودان ودول اخرى موضوعة على لائحة صقور البيت الابيض، دون الالتفات الى الصيحات الامريكية والفرنسية الداعية الى مراجعة المقولات التي سارت عليها الادارات الامريكية، خصوصا إدارتي الرئيس السابق جورج بوش والرئيس الحالي باراك أوباما المتعلقة بالديمقراطية وحقوق الانسان التي شنت واشنطن تحت شعاراتها حروبها في المنطقة وأحالت دولا الى خرائب مغلفة بتلك المقولات.

ناتان شارانسكي كبير منظري الفوضى الخلاقة الذي إرتكزت على مقولاته معظم تصريحات الرئيس بوش حول نشر الديمقراطية، يقول في كتابه “فلسفة الديمقراطية و قوة الحرية”، ” أن المجتمعات الديمقراطية لا تروج للإرهاب الدولي، بينما المجتمعات غير الديمقراطية تنتج الإرهاب الدولي .. وعلى هذا الأساس فأن الإستراتيجية الأمريكية ينبغي أن تساعد المجتمعات غير الديمقراطية في العالم من أجل نيل الديمقراطية “. لكن أصوات نخبوية في واشنطن وعواصم غربية عديدة تشير الى العلاقة المريبة بين الديمقراطية الامريكية في بلد مثل العراق على سبيل المثال، وتنامي المنظمات الارهابية، ما يعني ان واشنطن ليست حريصة على نشر الديمقراطية في هذه البلدان قدر حرصها على نشر الافكار التي تولد الارهاب، شريطة ان لا تنتقل نيرانه الى الغرب، وهنا يكمن التناقض الاخلاقي الذي بدأ حلفاء واشنطن مثل باريس ولندن وبروكسل بدفع فاتورته، ما يعني ضرورة العودة الى ملفات

الجنرال شارل ديغول حول قضايا المنطقة المعقدة وضرورة التعامل معها بافكار بسيطة، يمكن ترجمتها بأن الديمقراطية قيمة عليا وهي حق طبيعي لجميع الشعوب، ما يتطلب وقف دعم الانظمة الشمولية والقمعية والمتخلفة وما تولده من تنظيمات متطرفة، وإشاعة الأمن المجتمعي دوليا، لان ترحيل الارهاب مقولة أصبحت بالية، كون الارهاب عابر للجغرافية كما انه عابر للتاريخ.