22 ديسمبر، 2024 9:41 ص

باب الشيخ حافلة التاريخ ..ج24

باب الشيخ حافلة التاريخ ..ج24

المهن والحرف
إنّ اي عمل يحتاج الى الموهبة وفطنة أساسي في حياة الفرد وفي كثير من الأحيان تكون الحاجة مؤثرة في سرعة الاختراع و لا يمكن الإستغناء عن ذلك لكي يستطيع الفرد تحقيق طفرة ليخفف عن فقره ومعاناته واحداً إثر واحد وتوفير لقمة عيشه وافراد عائلته ،وفي ايام الزمن الماضي كنا نرى في ازقة ودرابين محلات مدينة باب الشيخ التي لا تختلف عن الكثير من المناطق الأخرى في التشابه وأسواقها القديمة تعج بمهن يعمل بها البعض من الرجال خاصة وهم يتجولون بين الشعاب الضيقة التي لم تتجاوز المتر أو المترين و الطرقات المتربة التي لم تكن تعرف أكثرها التبليط الى أواخر الستينات من القرن الماضي ،وكانت تعمل من اجل استمرار المعيشة واكثرها سادها الافول والزوال ولا تزال بعضها قائمة رغم قلتها ولكن تصارع من أجل البقاء، فيما اختفت أخرى بسبب الإهمال الحكومي لتلك المهن التراثية وبعد التقدم في المكننة ولكن لازالت راسخة في عقولنا نحن ابناء الاجيال الماضية وتعاني العديد من هذه المهن والحرف الشعبية من الاندثار والزوال بسبب موت أصحابها أو تركهم مهنتهم او بسبب التقدم الحضاري الذي أخذ هذه المهن إلى الغيبوبة الابدية او التغيير لدخول الالة الحديثة المتطورة في التقليل من الجهد والتعب وسرعة العمل، ولا تبقي الروح جامدة وليس يخفى موتها أو حياتها على الناظر إليها. وهكذا مهن تمثل جانباً إبداعياً من تراث البغدادي الاصيل وما تجود به من دقّة المهارية والتجربة المختمرة من أجل العيش الكريم والتي سوف نتحدث عن بعضها حسب ما اطلعنا على أسسها وعايشنا البعض الآخر منها مثل النداف واللمبچي : و النحاس ( الصفار ) الكندكاري اوالمبيضچي والنجار والچراخ والرواف والچرخچي والطماسون ونزحوا البلاليع وهي خاصة الأرمن والمسيحيين او التكليف الذين اتخذوا من منطقة المربعة و السنك في بغداد تجمعاً لهم وهم الذين ينظفون خزانات البيوت وتسحب فوائض المرافقات والمرحاض المنزلي بالتنكات ( الصفيح ) وتنقل بسيارات معدة لهذا الغرض تتكون من خزانات مستطيلة تقع خلف العجلة و كذلك من المهن ، خياط الفرفوري ،وبائع الفرارات ،والشعر بنات ، والنجارين ، والبزازين ، والخياطين والعشرات من الاعمال اليدوية الاخرى.

1- تُعدّ الندافة احدى هذه الأعمال ومن المهن المتوارثة، وتتكون عدتها في السابق من عصا من أغصان شجر الرمان وقوس خشبي فيه وتر من سلك معدني مع مطرقة خشبية مدورة يضرب بها على الوتر حين الندف ليفرق الخيوط القطنية ويدور فيها في الدرابين والعقود ، ويقوم بندف ونفش القطن عند تمرير القطن من خلال الوتر ، أما بعد التطور الصناعي اليوم فقد استعاض أغلب الندافين عن القوس بالماكنة الكهربائية في عملهم ، وتعتبر من المهن المتعبة والصعبة وتحتاج الى قوة العضلة قبل ان تدخل الالة الحديثة ويقوم النداف بعملهم في ساحات البيوت أو في مكانات مفتوحة و إن لم تتوفر مساحة مناسبة في البيت الذي يعمل به يختار الطريق لهذا العمل وكثيراً ما كنا نسمع عبر شبابيك البيوت صوت الندافة ( نداف ملاحيف مخاديد ودواشك ) وهو ينادي بصورة متميزة لكي يعرف بها ،و كانت الأُسر على اختلاف مستواها المادي تطلب النداف ليقوم بعمله بتجديد الفراش تقريباً في كل عام بالنسبة للبيوتات المتمكنة ، ويعمل فراشاً خاصاً للمناسبات والأفراح والاعراس. كما جرت العادة على احضار جهاز العرسان والمواليد في البيوت ليقوم النداف بنقشها باللوان جميلة وكانت هذه المهنة شائعة ومزدهرة سابقاً وخاصة في فصل الشتاء حيث يستعد الناس لاستقبال فصل البرد بتجهيز المنازل بالفرش الجديد أو تجديد القديم منه، و الندافون الان يقومون بعملهم في دكاكين أو في بيوت الناس وهم من القلة اليوم وذلك عندما يحتاجون تجديد الوسائد والفرش ومطارح مما يحتاج إلى يومين عمل أو أكثر من النداف ومساعديه وكانت من العادة أن هؤلاء يقومون مقام الضيف في تقديم الغذاء أثناء النهار لهم من قبل أهلي البيت ما يدل على كرم اهلينا.

2- الجراخ: رجل يحمل على كتفه آلة الچراخة ” وأصل هذه المهنة تركي جاءت الينا قبل او اثناء الاحتلال العثماني للعراق، حتى سمي كل الذين يشتغلون هذه المهنة الأوزبكي”.والتي تتكون عدته من إطار خشبي دائري بحجم اطار الدراجة الهوائية يدور عليه قايش مطاطي ينتهي في جهته العليا بقرص رصاصي يسمى (الحجر) يستخدم لحد السكاكين والسواطير ومحد يدوي لتسوية السكين او اي عدة اخرى وچراخ السكاكين هو أكثر تداولا وانتشارا في الشارع الشعبي العراقي حتى يومنا هذا ، ويعود هذا لكثرة استعمال آلة السكين واستخدامها بشكل متواصل ويومي في قضايا التحضير المطبخي وغيرها من المهام الاخرى، التي تقوم بها هذه الآلة بديلا عن الآلات المنزلية اذا ماتوفرت، ، فضلا عن دورها في ادارة وحسم المشاجرات التي تحدث في الدربونة كسلاح جاهز وتحت اليد، وكان على صاحب هذه المهنة هو التجوال في أزقة وأسواق المحلات مناديا بأعلى صوته (جراخ- جراخ سكاكين) وعند سماع ربات البيوت صوته يخرجن بسكاكين وسواطير المطبخ التي أصبحت غير حادة (عمية) من جراء استعمالها، وتقدم للجراخ الذي يقف أمام الدار بعد ان ينزل من كتفه آلة الچراخة ويباشر بعملية حدها مقابل مبالغ زهيدة كانت تتناسب مع تلك الظروف، ومع كل مرحلة «جرخ» يدس السكين في سطل ماء، مثبت على دولابه ليخلصها من البقايا الناعمة التي علقت بها.

3- بغداد القديمة فيها من الاشغال البسيطة التي كانت تشتهر بها وكنا نلعب في الازقة ونشاهد خياط الفرفوري ليأتي هو بصيحات مألوفة له لدى الجميع “خياط فرفوري… فرفوري خياط” والادوات التي كان يستخدمها بدائية جدا ” فالماكنة هي خشبة بسيطة ذات ركائز لتثبت على الارض ولها ارجل تتحرك وفيها عجلة تدور لتشيغل المثقب الذي يقوم بثقب الفخار من قبل الخياط و مادة بيضاء لزجة تخلط بالماء لتلصق القطع المكسورة وشرائط من معدن خفيف مطواع يضعها حول الابريق لتقيه من الكسر مرة اخرى” فترانا نركض نحوهم وندلهم على بيوتنا طلبا لخدماته, فيخرجن الامهات والنساء وبأيدهن مايرغبن بخياطته من اباريق الشاي والصحون المصنوعة من “الفرفوري” عند تعرضها للكسر ، و “الفرفوري” هو الفخار الذي تصبع منه الاباريق التي تستخدم لصناعة الشاي والصحون على اختلاف انواعها وانواع الفخار الممتازة تكون عادة غالية الثمن ، لذلك كان الناس في ذلك الوقت يفضلون خياطة هذه الاباريق والصحون عوضا عن رميها لغلاء ثمنها من جهة ولاعتزازهم بهذه التحف المتقنة الصنع من جهة اخرى وهي مستوردة من دول مختلفى وخاصة بريطانيا ( يعني شغل ابو ناجي ) كما كان يطلق عليها على الاكثر، وكذلك لان استخدام اباريق من المعادن الاخرى لم يكن شائعا في ذلك الوقت واكثر هذه المشاغل موروثة تنتقل من الاباء الى الابناء ، وقد دقت ساعات الخلاص والانقراض ابوابها ولم نعد نشاهد هؤلاء اليوم في المحلات والدرابين والعكود وهي من المهن الفنية والحرفية و بسبب انتشار معامل الفخار وسهولة استيرادها ليصبح بمتناول يد الجميع ، وباسعار مخفوضة وخاصة الصيني المستورد، فاصبح استبدال المكسور بآخر جديد أمر يسير لكل الناس.

4-أن العراقيين لم يكونوا يعرفون المرطبات غير الصودة والسيفون التي كانت تصنع في الشورجة بمعامل بسيطة والبوب سايكل والنامليت بطعم الازبري او البرتقال او البطيخ او الحليب او مجرد مياه توضع في الثلج داخل اسطوانة من الصفر او الجينكو او الكلبانايز مبسطة من الاسفل وبشكل دائري لكي تكون سهل الحركة في الثلج ثم يدور بها العامل الى ان تجمد وهو يصرخ بين الازقة ( ازبري برد كلبك يا ولد) وتباع للراغبين وتنقل بعربات يدوية وبها عجلات دائرية سهل الحركة والتنقل وعرضها على المارة أما الدوندرمة الاصلية فقد صنعتها شركة “لاكي ستك” واخذت تبيعها بالعودة ومن ثم أتت بعد العشرينات من القرن الماضي المرطبات الاجنبية من قبل شركة حسون أخوان و اورزدي باك واختلفت طريقة بيعها ام بالقناني مثل الشرابات او عن طريق علب مخصصة بالنسبة الدوندرمة ، ومن أشهر المرطبات عبود الشامي في باب الاغا البوظة الشامية ومقهى حسن عجمي اول من باع شربت اللوز ، أما التي لازالت قائمة هي شربت زبيب زبالة في منطقة الميدان حيث تم تأسيس المحل في بداية القرن الماضي ولازال قائما في نفس المحل ونفس الشهرة وظهر في اوسط الستينات من القرن الماضي جبار ابو الشربت في شارع ابو نؤاس وانتقل الى الكرادة في السنوات الاخيرة ….يتبع