18 ديسمبر، 2024 10:01 م

بؤسُ المثقفِ وملاينة ُسوط السلطة أحمد فال ولد الدين وروايته (الحدقي)

بؤسُ المثقفِ وملاينة ُسوط السلطة أحمد فال ولد الدين وروايته (الحدقي)

(لا تلعبْ بالحبل مع الجلاد
قد يقتادُكَ للشنقِ )
بهذه الكلماتِ ودّعتُ قراءتي الأولى لرواية(الحدقي) وهذه الكلماتُ هي غصنٌ مثمر مِن غصونِ (الشجرة الشرقية) للشاعر والروائي والمثقف العضوي العراقي الكبير فاضل العزاوي ..وهذا يعني أن هذه الرواية َ تدخل ضمن مشروعي الذي قطعت ُ فيه شوطا عميقا ونشرت ُ ضمن هذا التوجه دراساتي/ قراءاتي المنتجة في الرواية العراقية والعربية وأطلقت على مشرعي النقدي :(سرديات عنف الدولة)
(*)
في الرواية التاريخية والرواية التي تستعملُ التاريخَ في نصّها: يستعمل الروائي المعاصر مواده الخام من كتب التاريخ، لكنه يستعملها بمذاق الروائي وخبرته، ولا يحاسب كمؤرخ زوّر/ زيّف وثائق تاريخية،علما أن التزوير/ التزييف، لا تخلو منه الوثائق الرسمية نفسها .
(*)
نقيس هذا الصنف الروائي بمدى إمتاعه لنا ومؤانسته،ونستوعب حرية مخيال الكاتب في تخليص الوثيقة من جهامتها وترحيل دلالتها نحو جماليات الفني وهذا الأمر أراه متوفرا بشكل أنيق في (الحدقي) للروائي الموريتاني أحمد فال ولد الدين
(*)
تتوزع الرواية بين روزنامتين هجريتين: هجري ماضي البصرة وبغداد وهجري راهن مدينة الدوحة، كما تتوزع من خلال التاريخين إلى ثقافتين : موسوعية رصينة يمثلها الجاحظ وثقافة الإرتطام المدوي للصورة عبر فضائية يديرها جهول يحف به مداحون/ نباحون لا يهمم سوى زيادة تجهيل المواطن باللغة العربية من خلال تفتيت جوهرها إلى لهجات ترضي استرخاء المشاهد المحلي وبينهما وسط كل هذا الخراب اللغوي يقف / برزخ بصيغة رجل بمثابة كائن لغوي يحاول حراسة اللغة من الوضر، وهي حراسة ٌ تجعل كائنا لغويا زميتا.
(*)
الإطار هو روزنامة الهجري المعاصر وهذا الإطار السردي بمنزلة منصة ينطلق منها النص الأصل / الصورة التي تتعلق به وتشير إليه ثريا النص الروائي : (الحدقي) في الصفحة الأول من داخل الرواية.. داخل غرفة الأخبار بقناة (العروبة) يرى القارىء نفسه وسط شبكة من خيوط لهجات عربية في مدينة الدوحة 1438 هجري وبعد أن ينشده القارىء بصفحة وثلث الصفحة يكون هذا (التنوع والحركية أول ما شد انتباه محمد القروي لحظة دخوله غرفة الأخبار/8) وأول صدمة يتلقى محمد القروي هي صدمة لغوية/ ص8 فهذا الشخص المدعو محمد القروي هو حقا من كائنات لغتنا العربية وبشهادته وهو يخاطب حبيبته حصة (إن الأشياء تزداد حلاوة إذا عُربت. أليست كلمة (نوارد) أحلى من (نيردس) الانكليزية؟ قد يكون محمد القروي زميتا في ذلك، لكن محمد القروي كما يبدو يكابد أحيانا من كينونته اللغوية، فهو يتناول الحياة لغويا قبل أي تناول آخر، وبشهادة السارد العليم، (أنه أيضا لايتذوق جمال المرأة إلا بحاسة اللغة/ 255) فهو حين يبهر جمال الأنثى لا يتذوقه حسيا بل لغويا !! فهو في مراهقته يبئر الجمال بمخياله (لايعرف كيف يحكم على جمالها إلا ّ إذا تخيلها لغويا) ثم يفلتر الجمال بمخزونه اللغوي ثم يستطيع بعد ذلك الحكم !! أنه كائن تتحكم به اللغة أكثر مما يتحكم هو بها فاللغة من الكائنات الحية، وثمة مفردات ذات تداولية عالمية : بيجاما وموبايل ماستر كي، بازار، الحشاشون/ الانتفاضة …إلخ، لكن صحراوية المنشأ لدى محمد القروي لا ترطبها مكيفات قناة العروبة. وتولّه محمد القروي لغويا، قام بترحيله إلى الجاحظ وجعل من لغويته كاريزمته المتسيدة بين الناس، وهاهي الجارية علية وهي جارية عبوس رغم جمالها الفاتك
تأسرها لغويته (لم تكن تعرف أي شيء عن أصفهان،ولم ترها قط، لكنها شعرت بسعادة حين لاحظت فصاحة الجاحظ وأطلاعه،وهي تقارن في ذهنها بينه وبين سيدها./275) ومؤثرية الجاحظ على الجارية عليه، سترصدها الجارية المغنية(بأستغراب إلى أندماج عليه في الحديث مع هذا الرجل الغريب..ظلت الجارية تتأمل بأستغراب أبتسامات علية لهذا الرجل الدميم الغريب،فمنذ وصولها إلى هذا البيت لم ترها قط بهذا الاندماج والأستنئناس في الحديث../276)
(*)
على طرف الثاني يستوقفني المثقف الموسوعي الجاحظ، تستفزني حياديته وهو يكشف عنها بصراحة مطلقة ليتجنب شرارات ما يجري، وهو يستعيد تعذيب أبن حنبل على مرأى من مثقفي العصر العباسي أثناء ولاية المعتصم يشعر الجاحظ وهو(يستعيد صورة وقع السياط على جسد أبن حنبل بوخز في أعماق نفسه، جلس َ بتثاقل وهو يلوم نفسه على مساهمته في التحريض على أمتحانه / 387) ثم يتراجع الجاحظ عن ملامة نفسه ومحاسبتها، مبررا كل ذلك أنه فعل ذلك (لصالح الإسلام والمسلمين) !! ثانيا (فلو ساد ما يدعو إليه أبن حنبل لتعطل العقل وبطلت الشريعة) !! ثم يطرد ما تبقى في نفسه من ندم ويمسح أثره ندمه بإلقاء نظرة من نافذة مكتبة نحو حديقته الأنيقة في فناء منزله الفسيح، هنا يكون الجاحظ بمثابة المثقف المستعلي عن كل ما يجري ولا يريد أن يدري أن الزيات يعذب الناس في سجنه بالتنور !! هنا يتذرع الجاحظ ويستقوي بمقولة أموية جاءت على لسان عبد الملك بن مروان(الملك شجرة ٌ لاتنمو إلا إذا سُقيت بالدم/ 388) فيوقظه أبن داؤد قائلا(وأين أنت من العدل والتوحيد والأمر بالمعروف؟ أم إن الكلام صناعة حدُها اللسان، ولا طريق إلى الجنّان؟) كعادته يلوذ الجاحظ بالمنطق الأستقرائي ويوزّع الأدوار بينه وبين أبن داؤد وسنعمد على تنضيد ٍ خاص لها بعد ننتزعها من ص388 والكلام على لسان شخصية الجاحظ في رواية أحمد فال ولد الدين :
(*أنت القاضي،وصاحب الكلمة المسموعة،كلّم أمير المؤمنين ليثنيه عن أفعاله.
*أما أنا فخادم وصانع كلام.
*أنت تفعل
*وأنا أصف
– أنا أتمنى
– أنت تستولي
– وشتان بين من يملك القدرة على الفعل ومن يملك القدرة على الوصف )
هنا الجاحظ يناقض الجاحظ الذي كان بعيدا عن السلطان، كما جرى في مجلس يضمه والأصمعي والخليل بن أحمد الفراهيدي وإبراهيم النظام، حيث يتهم الأصمعى بمواطأة الخليفة المهدي حول ظلمه للمثقفين وقتله للشاعر بشّار بن برد، حيث ينافح الأصمعي عن المهدي قائلا (جالست ُ المهدي وما رأيتُ منه إلا إكباره للعلم وتقديره للعلماء..ويسألني عن أيام العرب،ثم لايخرج حتى يهديني المال الكثير/98) فيرد عليه الجاحظ( ذاك فعله معك،لكن فعله مع بشارما سمعت.فما الذي جعله يتحفك بالتحف والدنانير ويتحف بشارا بالسياط الحامية؟ إلا أنك لاينته وأسمعته ما يريد..).. وحين يشعر الجاحظ أنه تجاوز الحد سلوكيا، فيصمت ثم يخفظ نبرته ويقول(أنا لاأشك في أنك كنت تنصحه في خلواتك معه..) هنا يلتفت الأصمعي ويخاطب إبراهيم النظام قائلا(هل ترى أن الجاحظ لوجالس المهدي أو أحد الخلفاء سينصحه على رؤوس الأشهاد؟) فيجيبه النظام أجابة ً ترتسم الشخصية الحقيقية للجاحظ، تكشف ما في الجاحظ من تعادلية، لاتنحاز لسوى الجاحظ نفسه (لا واللهّ! فصاحبي يكره الظلم قدر حبه للإحسان، ويمقت الظالمين كما يحب المحسنين. ويحنو على الضعاف لكنه على نفسه أكثر حنوا)
نموذج المثقف الجاحظي مازال متوفر فينا،يكتفي بالوصف والتفسير وكلاهما ضمن سياقات رضا الدولة ما دامها دولة قوية . وهنا تساؤلي المشروع كم نسبة الذي طبقّه على سلوكه الثقافي المثقف الجاحظ وهو ينتج(أخلاق التاج) كتابه في آداب التعامل مع السلطة ..؟! قد نلتمس عذرا للجاحظ في معاضدته للخلافة فقد كان يعيش حياة ً خشنة موجعة يستل رغيف يومه من بيع السمك.. (قارن الجاحظ بين الدوانيق التي يكسبها بعد ساعات من الجلوس على النهر،وألوف الدنانير التي يقبضها شاعر في لمح البصر،فخفق قلبه،ثم تذكر أمه لوجاءها في يوم واحد بألف دينار،وهي التي لم تملك في حياتها عشرين دينارا/ 46).. لكن ما الذي يرغم سليل الطبقة الرافهة أبن الزيات لتلطيخ يديه بدماء المسجونين..وتعذيبهم في تجليسهم على كرسي في تنور ؟ ولنصغي لإبن الزيات وهو سجين ٌ في منولوجه وقد تيقظ وعيه يقظة متأخرة ً عقيمة..(يا أبن الزيات، ما الذي دعاك لكل هذا؟ أبوك تاجر بغداد الأول،فلم تطمح للسلطان والنفوذ؟ ألم تسعك المراكب الفارهة والملابس الفاخرة والجواري الحسان حتى رضيت بمجالسة الخلفاء ومنازعتهم السلطان؟ لم َ لم تعتبر بما جرى لبني برمك ؟ /391)
(*)
في قراءتي الثانية، قررت ُ قراءة مايخص الجاحظ وحده، فتنقلت بين التاريخ الهجري الذي يخص مدينتي البصرة وعاصمة وطني العراق : مدينة بغداد. والسؤال هنا من داخل النص الروائي الأساس أعني الذي سأطلق عليه (نص الدوحة) هل نقل محمد المقري من قسم التدقيق اللغوي إلى القسم الوثائقي: مكافئة ؟ أم إقصاء ..؟ وكم سيبقى من النص الذي ينتج محمد المقري عن الجاحظ حين يكون بين يديّ السيناريست ..؟!
مادام الفكرة كما يوجزها رئيس التحرير(الفكرة، هي أن تتفرغ لكتابة النص، ويدفع النصّ لاحقا إلى كاتب سيناريو ليمفصله ويعده للتمثيل /25) وماهو رد فعل محمد المقري في تدوير نصه من رواية إلى سيناريو؟
(*)
. وحين أنتهيتُ من رواية الجاحظ . نقلّت عينيّ إلى رواية مدينة الدوحة .أستهوتني الثانية أيضا فهي تشتغل على أشكاليات الملفوظ العربي وتمسيخه إعلاميا. كما أنشددت ُ للآصرة العاطفية بين محمد القروي وحصة إبراهيم ورأيت ُ في فشلها هو الحقيقة غير المصنّعة إعلاميا. لكنها مقارنة بالرواية الرئيسة رأيت ُ رواية لا تصمد للمقارنة .إذن يمكن اعتبارها محض إطار – حسب قراءتي المنتجة –
(*)
المثقف والسلطة وعنف السلطة مع سلطتها هو المحور الرئيس في (الحدقي) رواية الروائي الموريتاني أحمد فال ولد الدين. فالطفل وهو في عامه التاسع بعينيه الجاحظتين رأى السياط تسرد عنف الخليفة المهدي على جسد الشاعر بشّار بن برد وتهمة الشاعر الأذان في غير الأذان . وهناك مَن يرى أن السياط هي عقوبة على شربه الخمرة، لكن ليس التهمة ألا ذريعة الخليفة المهدي للأنتقام من الشاعر بشار بن برد (لقد أوصل الوزير يعقوب إلى مسامع الخليفة القصيدة التي هجاه فيها بالأنشغال بالملذات عن هموم الناس :
( ضاعت ْ خلافتكم – ياقوم – فالتمسوا
خليفة الله بين الزقّ والعود ِ!/35)
مشهد السياط على ظهر بشّار بن برد، سيرسخ في ذاكرة الجاحظ إلى آخر يوم في عمره.. وحين يهجم كلب ٌ على طفل في الكتّاب، سيرى (موت الكلب تحت ألواح أطفال الكُتاب ووقع السياط /39) وكلما تمنى الجاحظ رعاية السلطة في بداية حياته،سرعان ما يستعيد الطفل الذي كائنه وهو يتشبث بأمه أمام مشهد دموي ضحيته الشاعر بشّار بن برد (بوخز بين أضلاعه.غاب عنه حديث الوراق،وذهب خياله إلى صورة شاعرٍ يئن تحت الجَلد، ونظارة ٍ يصفقون،وسياط ٍ تعلو وتهبط في مقدمة سفينة /46)
(*)
وعنف السلطة مع سلطتها يجسدّه الحذف الدموي بين قوائم كرسي الخلافة ذاتها وقد الحذف متسترا عليه كما هو الحال مع تخليف هارون الرشيد بعد وفاة الهادي(الذي كان حبسه ليخلعه من ولاية العهد.كما كان قد حَبَس يحيى بن خالد البرمكي والفضل َ لقربهما من هارون الرشيد ./45) ثم ينتقل المستور إلى العلن في نكبة البرامكة ثم سيكون العلن أوسع قوسا وأكثر دموية في معركة الأمين والمأمون وسيكون العنف مسلفنا ونخبويا في بلاط المأمون حيث ينتقل الحوار من المفاهيم إلى حوار الدم حول مخلوقية القرآن حسب مفهوم المعتزلة ويمتد العنف في زمن المعتصم وتهبط السياط على ظهر الفقيه أحمد بن حبل ..
(*)
سرديات عنف أنظمة الوعي الجمعي
مازالت تلك الأنظمة الغابرة تتحكم مجتمعيا فينا،فهو لا يعزو الفشل لدمامة وجهه وقامته الهزيلة حين تفشل خطوبته لتماضر أبنة الفراهيدي، لم يخطر في بال الجاحظ، إلا وسوسته هذه :(لعل بعض الحساد قالوا لهم- زورا- مايقوله أهل المربد من أنه مولىّ لبني كنانة، لاصليبة فيهم؟!/173) أي أن الجاحظ لم ينحدر من أصلاب ٍ كنانية ٍ وسيكابد ثانية بعد أن يبتاع جارية له، فهو يريد نقلة ً جنسانية له (فيرى فيها نفسه أباً لأطفال قد أنعتقوا من دمامته ودمامة آبائه إلى أبد الآبدين /188)
(*)
كل خطوة ٍ نحوحياةٍ رافهةٍ : هي دنوٌ من سيف مسرور، بهذا المقياس يزن الجاحظ أخلاق التاج، مقياسه أدق من ميزان الذهب، وهو يصغي لسردية البهلول حول حكاية السياف مسرور حين يأمره(أذهب إلى قصرجعفروائتني برأسه/ 237) ويتردد السياف ويذهب إلى جعفر ويعود ثانية إلى جعفر، ثم يعود حاملا ً رأسه للرشيد..وبمؤثرية الحكاية فأن(الخدر الذي تركته قصة البرامكة في ركبتيه وقف حاجزا دون سروره بالمبلغ،فذهنه مملوء بصورة المال والسلطان الذي كان يسبح فيه البرامكة،ثم تراءت له صورة بشار بن برد تحت السياط).. لكن للجاحظ نفسٌ تأمره بملاينة السلطة وتناسي عنفها مع الكافة والعامة : من أجل أن يرفل بعطاياها.
*أحمد فال ولد الدين/ الحدقي/ مسكلياني للنشر والتوزيع/ تونس/ ط1/ 2018