23 ديسمبر، 2024 2:20 ص

هم قومٌ دارت بهم الدنيا , من أسمى الشعوب إلى سافلها , من عراق عريق متعدد الأعراق إلى ميدان حافل بالدماء وبتقييد العقول وبإزالة ما تبقى لهم من كرامة , أضحينا ساحات دامية للبشر أولاً لاختلافاتٍ وللحيوان ثانياً لتلف ضميرٍ ولاجتثاثنا ما تبقى من إنسانية وللنبات ثالثاً لإهمالٍ تفشى و لنسيان واجباتٍ , كل أشكال الجمال والحياة أضحت أمراً ممنوعاً محرماً , كُبِلَت حيويتنا بالبؤس والتعاسة وكره احدنا للآخر , يفترض أن يقول الآباء لأبنائهم : أنظروا إلى الطبيعة إلى الجمال وإلى الإبداع وفكِّروا . أما اليوم , فلا كلمة على لسانهم غير : “العالم ليس ورديا” واحذر الجميع ولا تثق بأحد و كذا وكذا , لماذا أضحى عالمنا هكذا ؟
الأرض كلها خائرة القوى منهكة تناشد وتنادي : هل من واعٍ ؟ هل من متذكر لأمجادٍ زال ما تبقى منها ؟ هذه الأرض التي أبت الركود , التي أبت الوقوف مكتوفة الأيدي , حفظ كرامة الإنسان يفترض أن يكون أولوية , لا أمرا تافهاً وعديم الأهمية , الأنانية لم تكن بهذه الحدة _ لا يمكننا القول أن الماضي بالضرورة كان جيدا جداً , لكننا نلاحظ بأن الأمور تسوء وتسوء , نلاحظ بأن ما يجري ليس منطقيا البتة , وما وصلنا من تاريخ أثبت لنا أن الإنسان العراقي كان أقل سذاجة مما نشاهد اليوم من مشاهداً غير معقولة _ القادة من المفترض أن يجيدوا التصرف أن يفكروا ويفهموا وأن يكونوا قادةً حقاً , اليوم يبدو الأمر وكأنك سلمت طفلاً _لا يفقه من الحياة شيئاً_ دفة الحكم وفقط قلت له : هيا تصرف وضع الأمور في مجاريها .
لطالما عرفنا الفقر والبؤس على انه ضياع القوت والمأوى لكنه هنا يعنى بؤساً من نوع آخر إذ إن الطعام لديهم وفير, بؤساءنا هؤلاء يأكلون كل ما يرونه , هم شديدي الشراهة , حكمتهم هي : لماذا ستبذل الجهد وتنفق الإمكانيات وتتعلم وتقرأ و كذا وكذا , الأهم هو أن تحصل على المال لتعيش و هذا كافٍ , وياله من اعتقاد .. كل , فقط كُلْ واستمر بالأكل والاستهلاك ونخر هذا الكوكب وتدمير أشكال الحياة فيه , يالهم من قوم مهنتهم الوحيدة التي يؤدونها بوفاء وإخلاص وأمانة هي الأكل وأنهاك هذا الكوكب والإسهام بتقريب وقت تدميره .
أما الإنسانية التي جاءت من أسم جنسنا , فهي تعني هنا التدمير وقتل الكائنات الأخرى بدلا من أن تعني التعاطف معها والرحمة بها , هل سمعت بالحوادث التي تجري , هل رأيت كيف يقتلون الحيوان بحجة انه حيوان , يقولون أنه مؤذي _لا نستبعد أنه مؤذي حقاً وأن البقاء للأقوى _ لكن ألا تعلمون لماذا أصبح مؤذيا ؟ لأنكم لم تعطوه أدنى فرصة ليتسامح معكم , فقط كان يدافع عن نفسه ضد من آذوه أو سخروا منه , مثلاً : هناك حكاية لكلب عادي , في أحد الليالي , كان يبحث عن طعام وقد أُنهكه الجوع , كان متلهفاً لكي يجد بعد الطعام له ولعائلته _لأطفاله الصغار الجائعين_ وكله أمل أن يتمكن من العيش مزيداً من الوقت لكي يجد ذلك الرجل ويرد الجميل إليه إذ قد أعطاه طعاما قبل سنتين , مفكراً : ما أجمل البشر وما أطيبهم , ثم يُفاجَئ المسكين بأحد هؤلاء الطيبين حاملاً شيئاً غريبا بيده , ينطلق جسم غريب من ذلك الشيء , يخترق جسد المسكين , يشتعل جسد المسكين ليخر صريعاً على أرض الإله , في مدينة السلام ..
وماذا عن النبات ؟ _حسنا , لقد توصلنا إلى أن الحيوان مدرك , ومن الصعب إثبات أن النبات كذلك , إضافة إلى أن هؤلاء الشرهين سيقولون : إذاً ماذا نأكل ؟ لذا دعنا نظل في الجانب المعهود_ بعد أن كان العراق واحداً من البلدان الممتلكة مكانة زراعية جيدة بالفعل .. أمسى بلداً منسياً من هذه الناحية , بالرغم من ميزانيته العالية ومن ثروته الكبيرة إلا أنها لم تنفعه مطلقاً في سد حاجاته , فأصبح بلداً مستورداً بامتياز ..
نعم , ويال الحسرة والندامة على هذا , هل هذه بلاد الرافدين ؟ بلاد النهرين العظيمين والأراضي الخصبة المباركة ؟ هل هذه بلاد السواد التي عرفها العالم بثروتها وغناها وبهاءها ؟
أما عن هذه البلاد من الناحية الاجتماعية , فهناك الكثير للحديث بشأنه , مثلاً : أضحت الديانة اليوم أداة للتحكم بالناس , لأن هذه الأمور هي نقاط ضعفهم , إذ لا يمكنهم الحديث إذا ما جودلوا واستشهد المجادِل بشيء من ديانتهم , ومن الطبيعي أن تكون الأمور هكذا فقد غرس كل هذا فيهم منذ الطفولة , ومن الطبيعي أن يخافوا كل ما يخالف المُسَلَمات التي تربوا عليها وإن كانت هذه العقائد والمسلمات مخالفة للمنطق وللعقل _وهذا الإيمان هو ما يوفر لهم الأمان_ وهذه الأشياء التي يصدقونها _ويتظاهر آخرون بتصديقها_ أصبحت تجارة , تتم المتاجرة بآمال الكثير من الناس وبالمشاعر البشرية الفطرية كالحب والكراهية والحسد والغضب والحماس لخدمة أغراض أخرى _قد يكون تحصيل الأموال والمجد أكثرها_ , هذا يعني أنهم المساكين البؤساء مستغلين بسبب جهلهم , والذي لم يكن ذنبهم , بل كان بسبب الغشاوة التي وضعت على أعينهم فمنعتهم من رؤية الحقيقة .
وهناك بعض الذين يدعون أنهم قدموا للإصلاح ولنشر المبادئ و كذا وكذا , ثم لا ينشرون غير التفاهات .
نسيانكم تاريخكم _الذي أقل ما يقال عنه عظيم_ أحد العوامل التي أخرتكم , لقد نبذتم تاريخكم الثمين لأجل ديانة أو بسبب جهل وهذا أعادكم للوراء وجعل لسان حالكم لا يردد غير : ” الأجانب أفضل و كذا وكذا ” أي أن كل من ليس عراقيا أفضل , فلك أن تتخيل ما وصلنا إليه , هذا ما يقوله كثر عنا : “حمقى نسوا تاريخهم” .
لم تكتفوا بجهلكم , بل زدتم الطين بله بإدعائكم المعرفة والأفضلية الغير موجودتان فيكم , يقول ستيفن هوكينغ : ” أسوأ عدو للمعرفة ليس الجهل , بل هو وهم المعرفة ” .
وكما يقول كونفوشيوس : ” أفضل للعالم أن يوقد شمعة , من أن يلعن الظلام ” , فلن نكتفي بلعن الأحوال السيئة لبؤسائنا الذين عميت أعينهم ولا بد لنا من أن نقدم حلا بسيطاً أو حتى أملاً بسيطاً , فنقول إن الخطأ ليس فيمن استغل صفاء نياتنا وبراءتنا وسذاجتنا أو ملئ نفوسنا بخرافات , بل إن الخطأ فينا نحن لأننا سمحنا له _بجهلنا وعدم تبصرنا واستخدام عقلنا_ باستعبادنا , لقد وصل الجنس البشري للكثير بالفعل وأثبت لنا التاريخ أن التقدم مستمر وأن البشر أقوى مما اعتقدوا يوما , و الغرائز البشرية الأساسية تظل قائمة وهي ما تدفعنا للحياة وللحركة و جزءاً كبيرا من هذه الغرائز عبارة عن خير وأخوة ومحبة وعقل , فدعونا نتخلص من الأنانية التي آلت بنا إلى هذه الحال ..
يقول غاندي : ” تتوقف السعادة على ما تستطيع إعطاءه لا على ما تستطيع الحصول عليه ” .
فيا صديقي جرب أن تهب هذا العالم من إمكانياتك بدلاً من أن تضيع سدى على أكل ونوم وشرب فقط _ثم ماذا؟_ عندها ستشعر بالسعادة وستحصل على ما يتمناه الجميع , عندها فقط ستكون قد وضعت قطعتك من الأحجية في مكانها.
يقول بوذا : ” المحبة وعمل الخير هما أكبر قوى العالم ” . وبالفعل هما المنقذان الوحيدان الذين يمكننا أن نعول عليهما في انتشالنا من ظلمات البؤس والسوداوية .
وسنتخلص من هذه الحال .. بؤساء مع طعام .
ملاحظة : لا نقصد بقولنا بؤساء مع طعام أن نعمم الوصف على الجميع حرفيا , لكنها حال الكثير بالفعل من البؤساء الجدد ( بؤساء العقل والإرادة ).