من الصعب أن نجد بين الكتاب الروس– بعد جيل العمالقة ، غوغل ، نولستوي ، تورغينيف ، دوستويفسكي ، تشيخوف ، بونين – كاتباً أكثر شهرة في داخل روسيا وخارجها ، وأعمق تأثيراً في الأدب الروسي في القرن العشرين من ايليا أهرنبورغ ( 1891 – 1967) .فقد كان طوال حياته الأبداعية خالقاً للأشكال الشعرية والروائية الجديدة ، وجسراً ثقافيا، مهماً – ان لم يكن وحيداً – بين روسيا وأوروبا .
لم تترجم من أعمال اهرنبورغ الى العربية سوى عدد محدود من رواياته ، ذائعة الصيت ، التي كتبها في الأربعينات وأوائل الخمسينات من القرن العشرين ( سقوط باريس ، العاصفة ، الموجة التاسعة ،أقوى من الموت ، وذوبان الجليد وغيرها ) التي ترجمت الى العربية – ليس من اللغة الروسية مباشرة ، بل من اللغتين الأنجليزية والفرنسية – وصدرت منها طبعات عديدة منذ أربعينات القرن الماضي وحتى عهد قريب ، ولكنني ، أكاد أجزم ان الجيل الجديد من قراء العربية لا يعرفون عنه شيئاً يذكر ، مع أنه وحسب احصائية لمنظمة اليونسكو في أوائل الستينات من القرن الماضي ، كان الكاتب الأكثر شهرة في العالم ويحتل مكان الصدارة بين الروائيين العالميين من حيث مقروئية رواياته المترجمة الى عشرات اللغات الأجنبية .
دور النشر اليسارية في العالم العربي ، قدمته ككاتب سوفييتي من مؤيدي النظام القائم . وجاء هذا الأنطباع الخاطيء لأن رواياته الرائعة فكراً وفناً ، حازت على أرفع جوائز الدولة السوفيتية وهي جائزة ستالين من الدرجة الأولى ثلاث مرات ، ولأن دور النشر العربية المحسوبة على التيار اليساري ، هي التي قامت بترجمة ونشر رواياته ، مما ولد انطباعاً خاطئاً ، ان اهرنبورغ من مؤيدي الستالينية .
والأسوأ من ذلك أن بعض المترجمين العرب، العاملين في دور الترجمة والنشر في موسكو – تلك الدور التي لم تكن تنشر في العهد السوفييتي سوى النتاجات التي كانت تتفق مع ايديولوجية الحزب الحاكم ً و” الواقعية الأشتراكية ” – حاولوا التقليل من شأن اهرنبورغ وخيل اليهم ، ان كل من كان يحتل مكانة بارزة في العهد السوفييتي من كبار الكتاب والشعراء والفنانين ،ويحظى بتقدير واحترام الدولة السوفيتية فهو من كتاب السلطة ، غير جدير بالدراسة والتقييم. وهذه نظرة ساذجة وسطحية الى أبعد الحدود . فهم لا يعرفون شيئاً عن عذابات الكتّاب الروس الكبار وصراعهم الدائم مع السلطة واجهزتها الرقابية والأمنية ، ولا يعرفون شيئاً عن محنة اهرنبورغ وعذاباته على وجه الخصوص ، حيث كان سيف السلطة مسلطاً عليه طوال وجوده في الأتحاد السوفييتي .
الروايات التي حظيت بأهتمام اليسار العربي كانت ، تلك التي كتبها في فترة معينة من حياته ، حين أحس – قبل غيره –بخطر النازية الألمانية على بلاده وعلى العالم ، فكتب روائعه ليس دفاعاً عن النظام القائم ، بل لفضح الفاشية بشتى صورها ، والوجه الآخر القبيح للرأسمالية ، التي خبرها ، حيث عاش في فرنسا وألمانيا وبلجيكا ، لسنوات طويلة ، وأكثر مما عاش في الأتحاد السوفييتي . روايات أهرنبورغ تصوّر ايضاً الواقع السوفييتي الجديد بكل ما تحمله من آلام ومعاناة ومن بطولة الناس السوفييت وتفانيهم ، رغم كل المصاعب ، في بناء مستقبل أفضل .
أهرنبورغ كتب أكثر من مائة كتاب في مختلف أنواع الأدب من رواية ، وقصة ، و نقد ، وبحث .كما كتب الآف المقالات النارية خلال الحرب الألمانية -الروسية (1941-1945 ) تلك المقالات التي الهبت حماس المقاتلين السوفييت في جبهات القتال ,
اهرنبورغ حظي بمكانة عالمية ، وكان صديقاً مقرباً لأشهر أدباء وفناني العصر ، وكان حتى أوائل الثلاثينات من أشد معارضي النظام الشيوعي ، وكان يسخر من هذا النظام في رواياته الطليعية ومقالاته اللاذعة ، ولكن بعد استيلاء هتلر على السلطة في ألمانيا شعر بالخطر المحدق ببلاده وبالعالم الديمقراطي وكان أمامه طريقان اما الأنحياز الى شعبه ووطنه والدفاع عنهما بقلمه الجبار أو الصمت ، فأختار الطريق الأول.
وحسب علمي لم ينشر في العالم العربي أهم رواياته التي كتبها في العشرينات من القرن الماضي وهي اخصب فترة في تأريخه الأبداعي .
وما عدا بعض التعليقات المتناثرة هنا وهناك في الصحافة العربية لم أقرأ شيئا ذا بال عن هذا المبدع الكبير الذي كان الضمير الناطق لعذابات البشرية بايمانه الراسخ بالقيم السامية التي تعد القاسم المشترك لثقافت شعوب العالم . لقد عاني أهرنبورغ من النظام السوفييتي ، أشد المعاناة ومنع من النشر عدة مرات ، بسبب نقده اللاذع لكل النظم الشمولية ودفاعه هن الثقافة الأوروبية وعن كبار كتاب وفناني العالم الذين منعت نتاجاتهم في الأتحاد السوفييتي في العهد الستاليني ، ومنهم هيمنجواي ومالرو وكافكا وبيكاسو ومودلياني وعشرات غيرهم.
البداية :
شاعر مبدع ،كتب قصائد عاطفية رائعة ، ولكنه لم يشتهر بشعره ، بل برواياته وقصصه ، التي لفتت اليه الأنظار ، وأثارت جدلا واسعا بين النقاد والقراء داخل البلاد وخارجها في آن ، منذ العشرينات من القرن الماضي .
نثره الفني غطى على شعره الى الذي طواه النسيان تقريباً . ناثر رقيق وغزير الأنتاج ، وفي الوقت نفسه كاتب مقالات تعد نماذج رفيعة لأدب المقال . مقالاته أصبحت روائع في باب المقال الصحفي . وفي نثره الفني أخذ يحس على نحو متزايد بضغط الحداثة والأحداث الآنية الساخنة .
في الرابع عشر من حزيران عام 1940 دخلت القوات الألمانية باريس ، وفي ايلول 1941 شرع اهرنبورغ بكتابة رواية ” سقوط باريس ” حيث صدر الجزء الأول من الرواية في ربيع عام1941
اسلوب اهرنبورغ :
كانت رواياته تجريبية لم يألفها النقاد والقراء السوفييت : مزيج من الأجناس الأدبية , وكان ذلك اسلوباً جديداً تماماً في بناء الرواية حينذاك .
وتتجلى في تلك الروايات ، القدرة الأبداعية الفائقة والموهبة الصحفيّة العاليّة، إذ تبدو بعض فصول رواياته مزيجاً من النثر المشرق والتقارير الفنية ، بالغة الجمال . ورغم ذلك اعتبر بعض النقاد هذا الشكل الروائي مثلبة في معمار الرواية ، في حين اعتبره البعض الآخر ميزة مهمة .
ومن يطلع على آخر الأصدارات الروائية في الغرب في أيامنا هذه سيجد ان المزج بين الأجناس الأدبية ضمن الرواية الواحدة أمر شائع . وقد قرأت في الأيام الماضية ، رواية جديدة لكاتب عراقي ، كتب على الوجه الثاني لغلاف الرواية ، أنه لجأ الى المزج بين الأجناس الأدبية ضمن روايته ، واعتبر ذلك ابتكاراً جديدأً في الفن الروائي ، ولم يكتف بذلك ، بل زعم أن روايته هي آخر صيحة في رواية ” ما بعد الحداثة ” وأنه الرائد الأول لهذا الشكل الروائي في العالم العربي . وهذه مزاعم لا تستحق الوقوف عندها ، وقد أشرنا اليها لنبين ريادة أهرنبورغ لهذا النوع من الروايات .
ويمتاز نثر اهرنبورغ بما يسمى ” الأسلوب البرقي ” أي الجمل القصيرة الفعالة والمؤثرة .
وهو اسلوب ، سرعان ما أنتشر بين الروائيين بفضل اهرنبورغ وصديقه ارنست هيمنجواي .
ذوبان الجليد :
كان اهرنبورغ على دراية واسعة وعميقة بالثقافة الأوروبية وبكل الأتجاهات الفنية الحديثة في الغرب. وقد سمح له السوفييت بالأقامة في الخارج مراسلا لجريدة الأزفيستيا . ورغم ذلك لم يكن ستالينيا في يوم من الأيام .ولم يسمح لنفسه كتابة كلمة مديح واحدة للدكتاتور . فبعد أشهر قليلة من وفاة ستالين ، كتب روايته ، ذائعة الصيت ” ذوبان الجليد ” في عام 1953 ، وقد دخل مصطلح ” ذوبان الجليد ” ليس الى اللغة اليومية فقط بل الى العلوم السياسية والأجتماعية في كل أنحاء العالم ، بصفة مصطلح يرمز الى العهد السوفييتي الجديد ، المنفتح نسبياً.هذا المصطلح ما يزال يستخدم على نطاق واسع حتى يومنا هذا .
” ذوبان الجليد ” رواية تراجع الفترة الستالينية وكل ما جاءت به من تدمير للثقافة والمثقفين . ويقول بعض النقاد أن اهرنبورغ عبقري العناوين ، بمعنى أنه يختار عناوين نتاجاته لتعبر عن روح واجواء الفترة التي كتبت فيها ، فقد اطلق هذا المصطلح ” ذوبان الجليد ” على الفترة التي أعقبت وفاة ستالين وما تميزت به من قدر لا بأس به من حرية التعبير ، والخلق الأدبي والفني .
الناس ، والأعوام ، والحياة :
خلال السنة الثانية من فترة دراستي في موسكو( 1960 – 1967 ) . لفت نظري جدال واسع وساخن على صفحات المجلات والجرائد الروسية ، حول الجزء الأول من مذكرات أهرنبورغ المعنونة ” الناس والأعوام والحياة ” الذي صدر في عام 1961 . وقد استطعت بشق الأنفس الحصول على نسخة من الكتاب . ومنذ ذلك الحين أخذت أتابع كل ما ينشره أهرنبورغ وما ينشر عنه في الصحافة الروسية .كما تسنى لي الحصول على نسخة من روايته الذائعة الصيت ” ذوبان الجليد “. وقد يستغرب القاريء ، ما الصعوبة في أقتناء نسخ من أي كتاب صادر حديثا . وأقول ان الشعب الروسي من أكثر شعوب العالم عشقاً للقراءة وأي كتاب جدير بالقراءة – وان كان بمئات الألوف من النسخ – ينفد فور صدوره ، ولا يمكن الحصول عليه الا بسعر مضاعف في السوق السوداء أو عن طريق ( الواسطة ) اذا كان لديك معارف يعملون في متاجر الكتب المنتشرة في المدينة التي تسكن فيها .
ذات مرة سأل صحفي غربي اهرنبورغ ،عما فعله الكتّاب السوفييت خلال ربع قرن من قيام الاتحاد السوفياتي فقـال: «لقد ربينا جيلاً من القراء».
لقد توّج اهرنبورغ نشاطه الأبداعي بصدور مذكراته ، التي تعد ، سجلاً حقيقياً وصادقاً لوقائع العصر و مصدراً مهماً للغاية لفهم الكوميديا البشرية التي يطلق عليها اسم التأريخ ، وهي مذكرات تقرأ بشغف واهتمام ، لما تتضمنه ، من التأمل الفلسفي لوقائع الحياة العاصفة التي احياها الكاتب وسط الأحداث الخطيرة للقرن العشرين ولعلاقاته بكبارالساسة في الغرب وبرجال الدولة في بلاده وبأهم كتاب العصر وفنانيه ، في النصف الأول من القرن العشرين . ولعل من أمتع فصول هذه المذكرات ، تلك التي كرسها الكاتب للسنوات الأولى من حياته في باريس ، وسط الأجواء البوهيمية لمقهى ( روتوندا ) الشهير ، بين الكتاب والشعراء والفنانين الشباب – في ذلك الوقت – حيث تعرف فيها على مبدعين كبار في شتى مجالات الآداب والفنون ، وأصبح العديد منهم ، اصدقاء العمر بالنسبة اليه .. وهو يخصص فصلا كاملا لكل مبدع ، كما يتحدث عن معاناة الكتاب والفنانين والمسرحيين الروس في ظل النظام الستاليني .
كتاب الطاولة :
يطلق الروس مصطلح ” كتاب الطاولة ” على الكتاب الذي تضعه في متناول يدك على الطاولة وتقرأ فيه بين آونة وأخرى ، كلما احتجت اليه أو رغبت في اعادة قراءته ، لشدة حاجتك اليه أواعجابك به . وبالنسبة اليّ فأن كتاب طاولتي هو” الناس ، والأعوام ، والحياة ” ففيه دروس بليغة لكل المثقفين ، ولكل من يعتز بثقافات الشعوب دون تمييز ، وبالقيم الأنسانية النبيلة .
. كان اهرنبورغ يعتقد بأن غياب الدين عن الحياة الأجتماعية في الأتحاد السوفييتي ، قد ترك فراغاً روحياً هائلاً، لن تملأه سوى الثقافة وبخاصة الآداب والفنون ، وهذه الفكرة يتحدث عنها في مواضع عديدة من مذكراته الرائعة ، التي كانت التربة الخصبة ، التي نبتت ونمت فيها حركة ” المنشقين الروس ” منذ الستينات وحتى تفكك الأتحاد السوفييتي .
قوة الكلمة الصادقة :
كان خطر الأعتقال والتصفية محدقاً بأهرنبورغ طوال فترة حكم ستالين . وكان كمن يسير على حبل مشدود . يقول بين الأسطر ما لا يمكن أن يبوح به صراحة ً ، فهو كان يوازن بين التعبير عما يفكر فيه ويشعر به في ظروف النظام الشمولي المغلق ، وما يتوق اليه من أدب قادر على التأثير في الجمهور العام القاريء ، وبين قيود الرقابة التي كانت مفروضة على حرية التعبير ، وعلى نشاطات المبدعين والعلماء وعموم المثقفين . وكان يعتقد أن قول جزء من الحقيقة راهناً ، افضل وأقوى تأثيراً من قول كل الحقيقة بعد عشرين أو ثلاثين عاماً . لم ير اهرنبورغ سنوات ” البريسترويكا ” فقد غيبه الموت قبل ذلك بعشرين عاماً تقريباً ، ولكن كتاباته المؤثرة ، التي كان المثقفون الروس يتلقفونها بشغف ويطيلون التفكير فيها ، أسهمت الى حد بعيد في التشريح الفكري للنظام السوفييتي الشمولي البائد .
اسم اهرنبورغ سوف يبقى حياً في ذاكرة الأجيال الروسية الصاعدة وفي سجل الثقافة العالمية ، وليس من قبيل المصادفة أبداً ، أن العديد من الكتب قد ظهرت في الغرب في السنوات الأخيرة عن حياة وأبداع هذا الكاتب الأنساني الكبير.