لم يعد مستحيلاً حتى لمن لا يتقن اللغة الفارسية ان يعرف هاتين المفردتين الرئيسيتين ، وهي (جنك) وتعني الحرب ، و (شهيد) وتعني بكل من يسقط في ارض المعركة قتيلاً. حيث تسمعها من الراديو والتلفزيون دائماً وباستمرار.
ان الكلمات التي تنهمر في النشرات والبلاغات الايرانية ، تقرأ بطريقة مغايرة لطبيعة المشاهد التلفزيونية المؤلمة التي تسجل من على ارض المعركة وتذاع مرات عديدة ورتابة يشوبها القرف.
لكن هذه النداءات المتكررة والموجهة اصلاً للأهالياخذت بالخفوت رغم انها تبغي التعبئة الجماهيرية من اجل دعم الحرب ، اذ تبدو وكأنها ضجيج خلفية غامضة ازاء الحقيقة المغايرة لها ، علماً ان الجبهة واقعياً تبعد عدة مئات من الكيلومترات عن طهران.
لقد اعتادت طهران على سماع مثل هذه الاصوات ذات التعابير الحربية الطنانة وبدون اعارتها اي انتباه ، فقد أكملت الحرب اعوامها الستة ( وقت كتابة التقرير –المترجم ) واحتفلت ايران في شباط الماضي بالذكرى السنوية الثامنة لقيام حكومتها ، وعلقت وقتها امرأة طهرانية قائلة :- ان علينا ان نقوم بأحسن ما بوسعنا من خلال الرديء من الاعمال . وهم فعلوها على الطريقة الايرانية ولكن من غير اكتراث تقريباً ،او هذا ما يبدو في الظاهر على الاقل.
ويكتشف هذا الاختلاف عند هذا الفندق الفاخر الواقع في شمال العاصمة طهران حيث كانت هناك مراسيم احتفال زفاف عروسين من الطبقة الوسطى . في وقت تطلق فيه صافرات الانذار معلنة حدوث غارة جوية عراقية ، وقد وصل موكب الزفاف بأضوائه الجذابة يتقدمهم العروسين راكبين سيارة جاكوار ، متخطين عدداً من سيارات العائدين من عطلة نهاية الاسبوع من منتجعات التزحلق على الجليد والمتجولين في المدينة والذين يتنزهون على شواطئ بحر قزوين.
ويبدو التناقض اكثر وضوحاً كلما ابتعدت بالمشاهد الى جنوب العاصمة طهران نفسها حيث نلاحظ هبوطاً اكثر في التدرج الاجتماعي . ففي ساحة الفردوس التي تقع في وسط المدينة ، كان هناك احد الملالي يرتدي عمامة بيضاء وعباءة سوداء ويمسك بأحكام بمكبر صوت خطابي شبه معطوب حيث يطلق تهديداته ضد العراق ويأمر الناس بالتوجه الى الجبهة بأعداد كبيرة ، ولكن الناس لا يعبرونه اي اهتمام ، اذ تجدهم يكافحون بشتى الاعمال الشاقة والمضنية من اجل البقاء في هذه المدينة الكئيبة والضخمة ، فمقومات بقائهم سلبت وانتهكت ، حيث تجدهم مسرعين دون توقف قليلاً الى الخارج في شارع الثورة الذي يمر بالمدينة من الشرق الى الغرب ، حيث يلقون الناس صراحة نظرات كئيبة على قافلة تتألف من ثلاث او اربع سيارات محشوة بشبان ملتحين صغار السن ، وهؤلاء متطوعين ذاهبين عائدين من الجبهة ، يشقون طريقهم بصعوبة كبيرة ، في اضوية المرور الشائكة.
ومن اقصى الجنوب تبدأ اسواق البازار، ومرة ثانية ليس هناك ما يجسد اقتصاد الحرب ، كالمخازن النصف فارغة او شحة منتجات المواد الغذائية المعروضة او الصفوف الطويلة من المستهلكين الذين تبدو الخيبة على وجوههم.
كلا ، ان اسواق البازار تعمل بطريقة جيدة . فهناك البضائع الفاخرة والساعات الراقية والمجوهرات والادوات المنزلية ، واحدث اجهزة الصوت اليابانية ( هاي فاي) ذات ادق التصاميم ، اذ تستطيع اسواق البازار الاعتماد على نفسها على حد سواء مع التدفق الكثير للأسواق المركزية في الجزء الشمالي من المدينة.
ورغم تعهد الحكومة باقتلاع آخر رمز لأمريكا ( الشيطان الاكبر) ، لكن امريكا تأبى ذلك ، حيث تسيطر افلام غزاة الفضاء والسوبرمان على اشرطة الفيديو كاسيت وحتى وان لم نتوه عن اماكن الوجبات السريعة من نوع مكدونالدز في ساحة ازادي التي كانت مكاناً لكل المتظاهرين الثوريين في الفترة التي تلت سقوط امبراطورية ايران.
ان الحياة في ايران اصيبت بالشيزوفرينيا ، ضمن جانب هناك وسائل الدعاية التي تعرض لك باستمرار صوراً عن توحد الناس خلف الملالي في حربهم التي يسعون بها لا جبار علمانية بغداد وحكومتها الاشتراكية على لفظ كل شيء ابتلعته ، ومن جانب آخر ، ان العاصمة طهران التي لم تتغير كثيراً على مدى ثمانٍ سنين من الثورة وستة سنوات من الحرب ، لان طبوغرافية المجتمع ابقت النظام على نفس الحالة.
كما كان سابقاً في عهد الشاه ، لازال شمالي ايران ثرياً ، فالقصور الضخمة والسيارات الفارهة والحفلات الراقية . اما الجنوب فبقي على ما كان عليه دائماً، صفوف خلفها صفوف من البيوت الصغيرة ، التي تشكل الاغلبية الكبيرة من الايرانيين ،فالنساء يلبسن العباءات السوداء الكاملة ، اما الرجال ومن تسيطر عليهم حالة الولع بالحرب ويعتبرونها ضرورة يرتدون سترات عسكرية خاصة بالتدريب ( بدلة عرضات) حتى وان كانوا لا ينوون الذهاب الى الجبهة فعلاً ، وقد تكيف الجنوب على هذه الحالة ، ففي حديقة ميلانت ، وهي المكان المفضل للتنزه في طهران ، نشاهد هناك فتيات يلبسن الجينز والاوشحة المزكرشة تحت الجبة الاسلامية .
ومع ان طهران بعيدة عن الجبهة ، لكن من الممكن الشعور بالحرب فيها . فبعد مرور شهر على هجوم كربلاء (ه) والذي شنته ايران في منتصف كانون الثاني ، لاتزال الصحف الايرانية تحمل العديد من الاعمدة ، تنعى قتلى المعارك بأسطر وجيزة عن حياة القتيل ، وكذلك بائعي الزهور الذين يعرضون في محلاتهم رفوفاً من اكاليل الزهور التي توضع على القبور.
رغم ان طهران تحتفظ الى حد ما بالقليل او الكثير من الاحتياط ، الا ان الهجمات الجوية العراقية على المدن الايرانية ، كبدتهم آلاف الموتى واضرار كبيرة . فطبقاً لمصادر ممثل ايران في هيئة الامم المتحدة ، فأن ثلاثة آلاف شخص قتلوا على اقل تقدير . وعند التوجه من طهران الى الاحواز ، فأنك تجتاز ضواحي تضررت بشكل كبير جداً نتيجة لحرب المدن ، فترى المؤسسات الصناعية المدمرة وحشود اللاجئين الذين يرتعشون برداً تحت خيام نصبت في العراء عرضة للثلج والوحل.
لقد شن العراق ما يقارب الثلاثمائة غارة جوية على خمسين مدينة ايرانية مختلفة منذ بداية هجوم كربلاء(ه) ، فقد تم ضرب اصفهان ما يزيد على الثلاثين مرة . واما مدن قم وتبريز وديزفول ، فضربت عشرات المرات وعمدت وسائل الاعلام الايرانية الى التقليل من شأن الغارات العراقية ، تحسباً من القصف الدقيق الذي يؤدي الى المزيد من الرعب بين الايرانيين او للتستر على حجم الخسائر الحقيقية التي تكبدوها.
واعتبر بعض المراقبين ذلك ، بانه سوف لا يؤدي الى تحطيم معنويات الايرانيين بل على العكس سيزيد من سخطهم على العراق ، ويرى البعض الاخر في ذلك خطراً على النظام ، فقد اوضح دبلوماسي غربي قائلاً:- ان احدى الاهتمامات الرئيسية للحكومة ، انها نجحت الى حد ما في جعل وقع الحرب غير مؤلم نسبياً على مدن البلاد الكبيرة ، اذ ان الاهالي انفسهم هم المستخدمون في الحرب ، فأنها تختار بعناية فائقة الطريقة التي تؤثر بها على الايرانيين.
اما بالنسبة للقطعات المهاجمة ، فهي تتكون من كتائب كبيرة من افراد ما يعرف بــ( حرس الثورة) والتي تقدر بألفين رجل . وهم يشكلون فعلياً الجيش الثاني من الشباب الصغار ، ومعظمهم من القرى الريفية والمناطق الفقيرة بالإضافة الى كتائب الباسيج ( وحدات متطوعين) ، فعلى الطريق المؤدي من طهران الى الجنوب لا توجد هناك قرية واحدة لا تخلو مقابرها من قبور وضع عليها علم الجمهورية الايرانية ، مشيراً الى مكان يرقد به قتيل.
لقد زادت الغارات الجوية العراقية على المدن من ضحايا الحرب ، وبلا شك فأنها بذلك حركت احساس الضجر من الحرب.
وهناك حقيقة ، هي ان النظام يعتمد على بعض الحقائق الغامضة التي لا يعلن عنها دائماً، وهي التي تدعم بطريقة ما شرعية النظام في مواصلة الحرب ، كالسلوك المعادي للعرب مازجاً معه الفخر القومي عند تحقيق الانتصارات على الجبهة والاستياء الراسخ من العراق بسبب الطريقة التدميرية التي اتبعها ضد ايران خلال سنين الحرب الاولى.
باختصار ، ان الاتجاه الرسمي الذي يعلن ان الحرب ستتوقف عند سقوط الرئيس العراقي، لا يجد في الغالب اذاناً صاغية حتى من وسط الايرانيين الذين لا يشاركون الحكومة نفس اتجاهها.
وقد اشار احد المراقبين قائلاً: ستستمر هذه الحرب التي عطلت كل شيء ، لأنه في استمرارها تتجنب الحكومة الحاجة للأقدام على اتخاذ خيارات من شأنها ان تؤدي الى المزيد من التصدعات العميقة بين الفئات المختلفة التي تتكون منها الحكومة . وبذلك وفرت على الحكومة المجابهة الحقيقية للمشاكل والخلافات الداخلية.
على أية حال ، ان الحرب غطاء او ستار تريد به الحكومة ايجاد حالة من التوحد القومي كي تتماسك جميع الميول التي تتألف منها الحكومة . فالحرب تضع الناس الذين يقدمون على قبول مناقشة اية تسوية من خلال التفاوض في مرتبة الخونة كحد اعلى او مرتبة المخطئين كحد ادنى.
ان دعوة المتطوعين ساعدت في تحجيم اعداد البطالة الذين يصل عددهم الى 30% من مجموع القوى العاملة . وان مدة خدمة التطوع في الجبهة الملزم ادائها اي متطوع هي مرتين كحد ادنى . وهناك شبكات كثيرة للمعونة الاجتماعية متفرعة من لجنة الشهداء التي تقوم بتقديم المساعدات للعوائل المتضررة من الحرب ، واقتصر الاقتصاد الايراني على مبيعات النفط لشراء اسلحة وبضائع استهلاكية . اما المجال الوحيد الذي نفذت به الحكومة بعض الاصلاحات هو الزراعة ، اذ رفعت اسعار المواد الغذائية وتحملت جزء من اجور المعدات الزراعية والاسمدة الكيمياوية المستوردة.
ويبدو ان المجالات الاخرى تمتلك الاسباب كي تتوقف بشكل كامل حيث غابت مشاريع الاستثمار لتوظيف المقدار الهائل من رؤوس الاموال التي وجدت طريقها الى الخارج ، وبذلك تعطلت مشاريع التجهيز الصناعي وارتفعت نسبة التضخم بشكل مضطرب . وفي الحقيقة ان النمط الاسلامي هو بالأحرى نوعاً محافظ – اي اقتصاد محافظ لا يميل الى الانفتاح – والذي يبدو بانه سيكون هو المهيمن . وعليه ، فقد قننت ايران بعض المواد – كالنفط وزيوت الوقود والطبخ واللحم والحليب … الى اخره – من المواد ، حيث يوزع الملالي قسائم استلام المواد في الجوامع وبصورة عامة ، ان ذلك يريحهم ، اذ تستخدم كوسيلة من قبلهم للمحافظة على قبضتهم الممكنة بالأهالي ، وفي الوقت نفسه، ان اصحاب الموارد المالية يمكنهم الحصول على اي نوع من المواد الغذائية من السوق السوداء غير الشرعية . وعموماً ان الليبرالية لاتزال تحكم المجال الاقتصادي ، ورغم التهريج المعلن ضد الامبريالية والثورة الطنانة ، فان غالبية القادة الدينيين غير زاهدين ويميلون الى الثقة بالقطاع الخاص.
فبعد ثمان سنوات من الثورة ، يبقى افضل رمز للتناقض في ابقاء ايران على ماهي عليه ، وكذلك نواياها التوسعية الخارجية ، هو المتحدث بمجلس الشورى حجة الاسلام علي اكبرها هاشمي رفسنجاني ، فهو رجل ميليشيا منذ البداية ، وكذلك مالك ارض ثري ، فبالنسبة له وكما هو واقع الحال لبقية رجال القيادة الكبار الذين عززوا موقعهم داخل النظام بشكل راسخ . ان اللحظة لهم هي ليست من هو خليفة الامام بل السلام.
الهوامش