23 ديسمبر، 2024 9:34 ص

ايران تلبس ثوب التشيع وتحت عباءة الاسطورة والسياسةوالاطماع والتهديد

ايران تلبس ثوب التشيع وتحت عباءة الاسطورة والسياسةوالاطماع والتهديد

رد في كتب الشيعة المعتبرة عن الإمام (جعفر الصادق)، أن يوم (النوروز) يوافق يوم (غدير خم) ـ الذي بايع فيه النبي علي بن أبي طالب بالخلافة من بعده كما يرد في السياق الشيعي ـ وهو يوم انتصار علي على الخوارج في معركة النهروان، وهو يوم عودة الإمام المهدي، وكان خلق آدم من نور الأئمة في هذا اليوم كذلك، وفيه ستكون نهاية العالم.ومن العادات المتبعة في هذا اليوم في إيران زيارة قبور الموتى والدعاء لهم، وأضرحة الأئمة والتبرك بهم.
فالعقلية الإيرانية مزجت بين السياق الأسطوري والديني المذهبي حينما اختارت أن تنطوي تحت رداء التشيع، أو تطويه تحت جناحها، فمعظم الكتابات الأصيلة في التشيع اعتمدت على الفترة الصفوية في بداية القرن التاسع الهجري، حينما تحولت إيران رسمياً إلى المذهب الشيعي، وحاول حكام المرحلة الصفوية أن يمنحوا التشيع كمذهب ديني أصوله القومية الإيرانية، حتى يسهل نشره أو انتشاره، أي تحويل الأسطوري إلى ديني، وبالتالي إلى سياسي مقدس، ترسخ في الوجدان الجمعي بوصفه الحقيقة المطلقة التي لا فكاك منها
.
فالـ (نوروز) عيد إيراني أصيل، يجسد بداية الكون في الفكر الزرادشتي، وانتصار إله النور (أهورامزدا) على إله الظلام أو شيطان العدم (أهريمن)، وفي مرحلة تالية على الفكر الأسطوري المطلق، كان النوروز أو النيروز، مرتبط بإعادة بناء العالم على يد الملك الإيراني (جمشيد) الذي أوكل له الإله بناءه بعد خرابه على يد الشيطان.فهو عيد قومي بامتياز يليق بالحضارة الإيرانية .ولكن طبيعة العقلية الإيرانية ترفض الانتماء لغير ذاتها، وبالتالي رفضت الأصول العربية للتشيع، وحولته إلى سياق فارسي تتوحد فيه قداسة الأسطورة بقداسة الدين.فالإمام علي زين العابدين (السجاد) الإمام الرابع، كان نتاج زواج الحسين بن علي، من ابنة (يزدجر) أخر ملوك الفرس الساسانيين، كما ورد في العديد من الحكايات المذهبية الإيرانية.فكل أصول التشيع قد تم تفريسها، لتتسق مع الذاتية الإيرانية التي ترفض التبعية للأخر أياً كان، حتى وإن كان عربياً إسلامياً.فمجرد تبني السياق الإيراني للمذهب الشيعي، ما هو إلا محاولة لاحتواء سياق انفصالي معارض ضد السيطرة العربية السنية المتمثلة في الحكومات العربية المتتالية من أموية أو عباسية
.
القضية لا تقف عند حواف المذهب، وإنما تنسحب إلى عمق الأفكار الفلسفية المؤسسة للتشيع، فكما في الزرادشتية أن العالم مخلوق من النور الإلهي الذي فاض ليخلق الوجود بأكمله، ويثبت في العناصر الأساسية للكون، أمام الزحف الظلامي للشيطان، كان التشيع الذي أسس خلق الكون على فكرة نور الأئمة، فنور العرش الإلهي من نور النبي محمد، ونور الملائكة من علي، ونور السماوات والأرض من نور فاطمة، ونور القمر من الحسن، والجنة وحور العين من الحسين.كما ورد أن أول ما خلق الله كان الأئمة الإثنا عشر وفاطمة والنبي، فكان نورهم يسكن أسفل العرش، منهم خلق الكون بأكمله، بل أن آدم ذاته مخلوقاً من المزج بين نور الأئمة والطين، ويظل هذا النور متوارثاً في أصلاب الأولياء وصولاً للأئمة على المستوى التاريخي، أي أن التجسيد التاريخي للأئمة لم يكن إلا لحظة واحدة لا تعبر عن خلود أنوارهم قبل الوجود بأكمله.بل أن التأويل الشيعي للآية القرآنية : ( يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين) (سورة ص آية 75)، اعتمد على إجابة النبي عن العالين قائلاً: (أنا وعلي وفاطمة والحسن والحسين كنا في سرادق نسبح لله، فسبحت الملائكة بتسبيحنا قبل أن يخلق الله آدم بألفي عام
) .
فكرة انتقال النور تلك نجدها واضحة في الزرادشتية، فأصل وجود زرادشت، اعتمد على انتقال النور الإلهي جيلاً بعد جيل وصولاً إلى رحم أم زرادشت، ليتجسد فيه ويستمر بعده وصولاً لأحفاده، الذي سيخرج منهم المهدي المنتظر أو المخلص الزرادشتي في نهاية الزمان ليحكم بالعدل وينهي المظالم التي حكمت العالم.فالمفاهيم المقدسة قد توحدت في العقلية الإيرانية مسقطة التتابع التاريخي الذي أنتج الأسطورة التي كانت ديناً قديماً، وبين التشيع الإسلامي الذي
تحول إلى أسطورة حديثة.خاصة إذا وضعنا في الاعتبار أنه رغم الاضطهاد الذي تعاني منه الأقليات الدينية مثل البهائية أو المذهبية مثل السنة في إيران، تظل للزرادشتية مكانتها في المجتمع الإيراني، فمازالت العقيدة مستمرة وحاضرة، سواء على المستوى السياسي ووجود ممثلين للزرادشتية في البرلمان، أو السياق الديني وحضور المعابد القديمة حية بحضور الطائفة الزرادشتية فيها، وممارستها لكل حقوقها الدينية كاملة.أي أن الفكر الإيراني قد رفض التخلي عن أصوله الدينية المقدسة رغم السياق الإسلامي الذي يمثل شعار الجمهورية الدينية.
تلك السمة الأسطورية نجدها حاضرة في بعض العناصر المقدسة المتشابهة بين الزرادشتية والتشيع، فمثلاً، يرد في التشيع أن الشمس قد كُسفت يوم مقتل الحسين دليلاً على حزن الكون على زواله من الأرض، وأن دمائه قد صعدت نوراً إلى السماء، أي إلى الأصل المقدس الأول، وأنها سوف تشتعل يوم عودة المهدي، وفي بعض الحكايات أن الشمس قد توقفت ذات مرة حتى يؤدي علي صلاة العصر التي فاتته.أي أن الشمس بوصفها عنصر الضياء الأول تمثل قداسة ما في الفكر الشيعي، تلك القداسة حاضرة بقوة في الزرادشتية وفي العقلية الإيرانية بشكل عام، فالشمس هي التي تطهر الكون من الدنس الشيطاني، وهي التي تحفظ النور الإلهي المقدس في أجساد العائلة الزرادشتية المقدسة وصولاً للمخلص الأخير، وأن الكون سوف يفنى حينما تنكسف الشمس والعودة إلى حالة الظلمة الأبدية.فالعقل الجمعي الإيراني قد منح الأسطورة لتاريخ الأئمة لكي يزيد من قداستهم ليس فقط على المستوى المذهبي الشائع ولكن في المخيلة الرمزية الثابتة
.
فلكي ندرك طبيعة الشخصية الإيرانية في تعاملها مع العناصر المقدسة، لابد أن نرصد العلاقة بين الأسطوري والتاريخي، أو السياسي بتجلياته الحديثة، فدائماً يحتمل السياسي أن يكون أسطورياً ـ مقدساً في العقلية الإيرانية، فالحكومة الصفوية استتب لها الوجود بعد أن تمكنت من إنتاج المقدس السياسي، ليس فقط على المستوى المذهبي، ولكن على المستوى القومي الأسطوري كذلك.والحكومة الإسلامية الحديثة ألبست رجال الدين ثوب السياسة، لتحول مسار التشيع كمذهب ديني، إلى التشيع الإيراني، فأعطت انطباعاً عاماً أن الدين لابد أن يكون إيرانياً عرقياً بعيداً عن أي سياق أخر أكثر منطقية واعتدالاً قد أنتجه التشيع.بل أن الترويج للتشيع كمذهب ديني في الأوساط العربية يعتمد على السمة الإيرانية، التي تتسم بالمبالغة في تمجيد الأشخاص وتقديس الأفراد، المتسقة تماماً مع فكرة عبادة الذات القومية
.
فما رصدناه من عناصر تشابه بين الأسطوري والمذهبي لا يهدف بشكل رئيسي نفي التشيع من سياقه الديني، أو محاولة نزع أقنعة القداسة عن مذهب له متبعيه ومريديه، ولكن الهدف هو إضاءة الجانب الحضاري المظلم في الفكر الإيراني، فما نلاحظه من تقديس لأفراد، أو استغلال سياسي للرموز التاريخية للتشيع، أو الغضب الإيراني من تصريحات (حسن نصر الله) التي نفت قومية إيران أمام إسلاميتها، له ما يبرره على السياق الحضاري الإيراني الذي يُعلي من الذات القومية أمام أي أخر مذهبي أو عرقي
.

وحسب رؤية اخرى لاسطورية التفكير الايراني/// جعله مايك بومبيو أولويّةً له يوم كان مديراً لوكالةِ الاستخباراتِ الأمريكيّةِ، ونجح بتصفيته بعدما أصبح وزيراً للخارجيّة الأمريكيّة وكان مضمونَ تهديده بردٍّ حاسمٍ على إيران، وقال عنه مايكل بريجنت ضابطُ الاستخباراتِ بالجيشِ الأمريكيّ: “التخلصُ من البحريّةِ الإيرانيّةِ أو موقعٍ نوويّ لم يكن ليعادلَ قاسم سليمانيّ”، فمن هو الرجل الذي اغتالته الولايات المتحدة الأمريكيّة صبيحةَ الجمعة 3/1/2010، وما سببُ الاحتفاءِ منقطعِ النظيرِ بتشييعه؟ وما سرُّ جعله أسطورةً بعد زمانٍ طويلٍ من انقطاع الأساطير مثل رستم وكورش؟
من المؤكد أنّ قاسم سليمانيّ يتجاوزُ كونه قائداً عسكريّاً، فالتوصيفُ الأسطوريّ لا يُسبغه العقلُ الإيرانيّ اعتباطاً، والمسألةُ تتطلبُ فهمَ طبيعةَ هذا العقلِ في تعامله مع العناصرِ المقدّسةِ، وإدراكَ الرابطِ بين الأسطوريّ والتاريخيّ، والسياسيّ بتجلياته الحديثةِ، إذ يندر تحوّل السياسيّ إلى أسطوريّ مقدّسٍ “طوطميّ” بالعقل الإيرانيّ ويتطلب استثنائيّة في الصفات والشروط والظروف والأهم الدور.
التيارُ الراديكاليّ يحددُ هويةَ الثورة
يتكئ العقل الإيرانيّ على مصدرين مهمين الأول تاريخيّ فارسيّ قوامه الاعتداد القوميّ ويزخرُ بالرموزِ الأسطوريّة التي تجسّد صفات الشجاعة والفروسيّة والبطولة الفذة، ويشكّل كلّ ذلك الإطار العام، والإيرانيّ لا يلغي التاريخ القديم من حساباته بل يستحضرها ويمجدّها لأنّها عاملٌ مهم للحفاظ على وحدته القوميّة وإضفاء التوصيف القوميّ علة إيران، والثانيّ دينيّ يتمثل باتباع المذهب الشيعيّ، وقوامه الشعور بالمظلوميّة، ولم يبتعد هذه البعد من الرموز الأسطوريّة ولكنه نسب كلّ الخوارقِ إلى أئمةِ أهل البيت من آل النبي على اعتبارِ اتصافهم بالعصمةِ والكمالِ الإنسانيّ.
جاءتِ الثورةُ ضد الشاه محمد رضا بهلويّ نتيجةَ حراكٍ اشتركت فيه مختلفُ قوى الشعبِ الإيرانيّ، فمن جهةٍ تياراتٌ دينيّةٌ متشددةٌ ومراجع دينيّة، ومن جهة أخرى تياراتٌ فكريّة وسياسيّة تأثرت بقيمِ الليبراليّةِ الديمقراطيّةِ أو اليسارِ الثوريّ مثل حزب توده.
بعد الإطاحةِ بالشاهِ انقلب “التيار الراديكاليّ” على شركائه ممثلي القيمِ الديمقراطيّة والليبرالية ورفع شعار معاداة الغرب، واعتبر أنّ القوى الليبرالية استمرارٌ للعلاقة مع الغربِ الذي دعم الحركة الدستوريّة في أوائل القرن العشرين وجاء بالشاه رضا خان إلى الحكمِ عام 1921 باسم الثورة الدستوريّة، وأنّ اليسار هو من مخلفاتِ التياراتِ اليساريّةِ الراديكاليّة التي وصلت إلى إيران قبل عقودٍ، وبدا أنّ ما جمعَ هذه القوى المتناقضة هو فقط العداءُ للشاه، فيما تتفق على برامج ما بعد الثورة.
اتضحت بوادر الافتراق مبكراً بين قوى الثورةِ، مع إصرار الخمينيّ على أنّ الثورة حركةٌ مستمرةٌ لا تتوقفُ على الحدودِ الوطنيّةِ لإيران، وأقيمت المحاكم الثوريّة التي أعدمت المئاتِ ممن اعتبروهم محسوبين على النظامِ السابقِ، فاتخذت شخصياتٌ كبيرةٌ موقف المعارضة من هذه المحاكم، أهمهم آية الله محمد كاظم شريعتمداري، وآية الله حسن قمي الطبطبائي، ورئيس الوزراء مهدي بازركان.
هاجم الراديكاليون مقرَّ السفارةِ الأمريكيّة في 4/11/1979، تلك الحادثة التي عُرفت بأزمةِ الرهائن الأمريكيين واستمرت 444 يوماً، وشكّلت بدايةَ التناقضِ بين الولاياتِ المتحدة الأمريكيّة وإيران الثورة، فيما كانت فكرةُ استمرارِ الثورةِ تعني تصديرها إلى دولِ المنطقةِ وتحريرها من الهيمنةِ الأمريكيّةِ، ما جعلَ المنطقةَ كلها هدفاً منشوداً للنفوذِ الإيرانيّ، ورُفعت حينها شعاراتُ “الموت لأمريكا” و”الموت لإسرائيل”، لتكون الإشارة الأولى للانفتاح على القوى المناهضةِ لواشنطن وإسرائيل، وجاء تأكيدُ الاستقلاليّةِ عن المحاور عبر شعارِ “لا شرقيّة ولا غربيّة، جمهوريّة إسلاميّة”، ولكن ذلك لم ينفِ مشروعَ إيران الخاصِ بالمنطقةِ.
ولاية الفقيه ومصادرة الثورة – كان ما يحدثُ واقعاً يخالف أساساً عقائديّاً شيعيّاً، بألا تقومَ حكومة في زمن غيبة الإمام المعصوم، ومن هنا انبثقت فكرة “الولي الفقيه” الذي يستأثر بكلِّ الصلاحياتِ السياسيّةِ بيده، ويمثلُ أعلى سلطةٍ في البلادِ، وقد وضع الخمينيّ الخطوطَ العريضةَ لها في كتابه “الحكومة الإسلاميّة”، ومع تبني نظرية ولاية الفقيه زاد الافتراق وتم تغييب أسماء كبيرة لها وزنها منها آية الله حسين علي منتظري وآية الله محمد كاظم شريعتمداري وآيةُ الله محمود أبو الحسن الطالقاني وغيرهم ووفق هذا السياق أحكم التيارُ الراديكاليّ قبضته على البلاد وآلت الثورةُ بعد مصادرتها إلى ثيوقراطيّة محكمةٍ تتضافرُ بكلّ مؤسساتها وهيئاتها لتقدّمَ صورةً مختلفةً للدولةِ الدينيّةِ، تتمثل بشموليّةِ العمائم، بالتوازي مع حالة تمظهرٍ بمعاييرِ محدودةٍ للحداثةِ وسياسةِ لا تخلو من البراغماتيّة وأهدافٍ للسياسةِ الخارجيّةِ يدعمها الحضورُ الدينيّ، ليتوجّهَ إلى العامةِ ويخاطبهم على المنابر، ويربط الثورةَ المعاصرة بنهضةِ الحسينِ، ويوظّفَ على نحوٍ دقيقٍ الخطابِ العاطفيّ في خدمةِ السياسةِ، ذلك لأنّ أحد أهم وجوه الاختلاف المذهبيّ يكمن بتناقض قراءة التاريخ وتقييم حوادثه.
الاختلاف ما بين المرحلة البهلويّة وما بعد الثورة الإسلاميّة يتعلقُ بالمضمونِ الدينيّ، وليس بالإطار القوميّ، وتمّت إعادةُ صياغةِ الشخصيّةِ الإيرانيّةِ على أنّها رائدةُ الحِراكِ الثوريّ بالمنطقةِ في مواجهةِ ما تسمّيه قوى الاستكبارِ العالميّ التي تقودها “حكومةُ الطاغوتِ”، أو “الشيطان الأكبر وربيبته إسرائيل”، ووفق هذا المنحى تُفهمُ العلاقةُ مع حزبِ الله اللبنانيّ وحركةُ حماس الفلسطينيّة ودمشق، والنشاط التبشيريّ والحِراكِ السياسيّ والعسكريّ لإيران بالمنطقة، وجعلُ قضيةِ القدسِ مركزيّةً، وعلى درجةٍ عاليةٍ من الأهميٍة، باعتبارها محرّضاً عاطفيّاً يمكن توظيفه سياسيّاً لصالح التمدد الإيرانيّ.
القوميّ الأسطوريّ والمقدّس الدينيّ
كان فيلق القدس الذي قاده قاسم سليمانيّ الذراعَ العسكريّ الأكثر أهميّةً في الحرسِ الثوريّ الإيرانيّ، وقد أقام سليمانيّ علاقاتٍ معقدةً جداً على طول المحور الذي يبدأ من طهران وينتهي بجنوب لبنان مروراً بالعراق وسوريا. وما يُمكنُ فهمه أنّ سليمانيّ اكتسب أهميته الاستثنائيّة من الناحيةِ الوظيفيّةِ، فهو الأداةُ التنفيذيّةُ المباشرةُ لسياسةِ إيران بالمنطقةِ، وهي ليست في واردِ الانكفاءِ على نفسها، واختزالِ ميراثِ الخمينيّ الذي دعا إلى تصدير الثورةِ.
إنّ توصيفَ قاسم سليمانيّ بالشخصيّةِ الأسطوريّةِ والحديثُ عن تجاوزه بالأهميّةِ رئيس الجمهوريّة ووزير الخارجيّةِ له مؤشراته وأسبابه، ولكن الأهم أنّه يُراد خلقُ الشخصيّةِ الإيرانيّة النموذجيّة في ولائها للفقيه وخدمة أهداف الثورةِ داخلَ إيران وخارجها. وقد تعمدت طهران جعل سليمانيّ رمزاً ورفعه إلى مستوى “رستم” الأسطورةِ القوميّة بالتراث الفارسيّ، لتحريضِ العواملِ النفسيّة وخلقِ حالةِ حماسٍ لدى الحلفاءِ ورفعِ درجةِ الاستعدادِ لمواجهة الاحتمالات الممكنة.
لم تختلف حكومة إيران الإسلاميّة عن الحكومةِ الصفويّة من إنتاجِ المقدّس السياسيّ، ليس فقط على المستوى المذهبيّ، ولكن على المستوى القوميّ الأسطوريّ أيضاً. والنظام الإيرانيّ الحالي وريثٌ للحكومةِ الإسلاميّة ولكن مع تعديلاتٍ تقتضيها الظروف، تسنّم خلالها رجال الدين مراكز سياسيّة مهمة، ليتحولَ مسارَ التشيِع كمذهبٍ دينيّ، إلى التشيع الإيرانيّ، وتُنتجَ حالةٌ مذهبيّةٌ إيرانيّةٌ عرقيّةٌ متمايزةٌ عن المذهبيّةِ نفسها في إطارها العربيّ، قدّمت نفسَها منافساً قويّاً للمراجعِ العربيّة. وجاء تقديسُ الأشخاصِ متوافقاً مع تأكيدِ الاعتبارِ القوميّ، أي صيغة تتبنّى نظرية ولايةِ الفقيه، المتسقةِ مع فكرةِ تقديسِ الذات القوميّة، وبذلك لم تتخلَّ إيران الإسلاميّة من تاريخها القديم ورموزه.
من المؤكد أنّ الوقوفَ على عناصر التشابهِ بين الأسطوريّ والمذهبيّ، لا يعني نزع التشيّع من سياقه الدينيّ، أو محاولة نزع القداسةِ عن المذهب أو الانتقاص من أتباعه، ولكنه محاولة لفهم العقل الإيرانيّ، وفكّ شيفرة سياسته بالمنطقة، بتوسيع إطار التشيّع بالمنطقةِ مع تمركزه في طهران.
أسطورةُ العقيدةِ الدفاعيّةِ
إيران البهلويّة اعتباراً من عام 1921 وقبلها القاجاريّة، لم تتسم علاقاتها مع المحيطِ العربيّ بالعدائيّة، فيما اعترت الهواجسُ الحكوماتِ العربيّةِ من نظرية تصديرِ الثورةِ واستمرارها جغرافيّاً، وتجلّى ذلك بالدعمِ العربيّ للعراقِ في الحرب التي بدأها العراق على إيران في 22/9/1980 واستمرت ثماني سنوات كأطولِ حربٍ شهدتها المنطقةِ، وكانتِ السببَ في تغييرِ جملةِ معادلاتِ السياسةِ، ورغم مرور أكثر من ثلاث عقود على نهاية الحربِ وسقوط نظام صدام حسين، إلا أنّ طهران لازالت تُوظف نظرية المؤامرة عليها بالتوازي مع استمرار تصدير الثورة، ويؤكد الرئيس الإيرانيّ حسن ذلك بقوله: “إنّ المحافظون والإصلاحيون والمعتدلون الحقيقيون هم جميعاً ثوريون وعلينا  تجديد لغة الثورة”، وأما قائد فيلق القدس قاسم سليماني فقد قال في 11/2/2015: “إنّ الدلائل على تصدير الثورة الإسلاميّة إلى عدد من المناطق باتت واضحة للعيان فقد وصلت إلى من اليمن والبحرين وسوريا والعراق وحتى شمال إفريقيا”، واعتبر ذلك أبرز إنجازات الثورة.
نظرية العدو أو الأسطورة التي تقضي بوجوده تشغلُ المخيلةَ الإيرانيّة على الدوام، وهي محرّكُ سياسةِ طهران، ويقول قادتها إنّ ما يفعلونه هو من منطلقٍ دفاعيّ ويستند إلى عقيدةٍ عسكريّة دفاعيّة في الأساس، ولو تمظهر بعض السلوكِ بشكلٍ هجومي أحياناً.
الشكوى من علاقات التناقض والحصار من قبل واشنطن وحلفائها الإقليميين وانقطاع العلاقات والعقوبات هو ديدنُ الساسةِ الإيرانيين، كما أنّها معرّضة على الدوام للمؤامرة لإسقاط الثورة وفرض تغيير نظامها السياسيّ، ولا سبيل لمواجهةِ الواقع إلا بتطوير القدرات الدفاعيّة الإيرانيّة، وعدم الانكفاء بل المبادرة لمواجهة المخاطر خارج الحدود، سواء في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وأنّ تؤكد وجودها في هذه البلدان المباشر أو عبر الأذرع الإقليميّة، وفيما تؤكّد على سلمية مشروعها النوويّ وأنّه غير مخصص لأغراض عسكريّة، فقد مضت إيران في تبنّي استراتيجيّة دفاعيّة تضمنت مشروعَ تطوير الصواريخ الباليستية بمديات مختلفة، وتؤكد في كلّ مناسبة أنّ كلَّ المصالحِ الأمريكيّة وحتى إسرائيل باتت ضمن نطاقِ الاستهدافِ فيما لو تعرّضت للخطرِ، وبالمثل طوّرت منظومات الدفاع الجويّ والقدرات العسكريّة البحريّة.
واشنطن وطهران من التصعيد للتهدئة – برز سليمانيّ منذ الاحتلال الأمريكيّ للعراق بدوره بتهريب الجواسيس والمال والسلاح إلى العراق، وعبره نفذت إيران عملياتٍ ضد الوجود الأمريكيّ في العراق أودت بحياة أكثر من 600 جندي أمريكيّ. وعلاوةً على ذلك يتمتع سليماني بمكانةٍ رمزيّةٍ، وله ثقله في قلبِ النخبةِ والعناصرِ الثوريّةِ، إضافة لموقعه الأمنيّ والاستراتيجيّ الميدانيّ كأحد أهم أدواتِ إيران لتعميقِ نفوذها الإقليميّ، بما يمتلكه من علاقات ونفوذ. وقد تجاوز نفوذ سليمانيّ كل الخطوط، وكان له تأثيرٌ كبيرٌ على جملةِ الأحداثِ والتوازناتِ بالمنطقة، عبر تحالفاته مع الفصائل الموالية لإيران، وقيادته لفيلق القدس، وهندسةِ ورسمِ جملةِ المصالحِ الإيرانيّة ووفق ما أوردته رويترز فإنّ سليمانيّ كان بصددِ تشكيلِ مجموعاتٍ جديدةٍ غير معروفة للولايات المتحدة لشنِّ هجماتٍ ضد أهدافٍ أمريكيّة بالعراق باستخدام أسلحة إيرانيّة متطورة، وجرى التنسيق لذلك خلال اجتماعٍ منتصفَ تشرين الأول 2019 ضمَّ نائب رئيس هيئة الحشد الشعبيّ “أبو مهدي المهندس” وقادة فصائل عراقيّة موالية لإيران، فطهران كانت تعوّل على العمليات العسكريّة لإخراج القوات الأمريكيّة من المنطقة، وشهدت الفترة التب بعدها تصعيداً في التوتر والقصف المتبادل بين تلك فصائل الحشد الشعبيّ وحزب الله العراقيّ والقوات الأمريكيّة.
التكهناتُ التي أشارت إلى مزيدٍ من التصعيد لم تصب، واكتفت طهران بهجومٍ صاروخيّ على موقعين للقوات الأمريكيّة هما قاعدة “عين الأسد” في الأنبار و”حرير” قرب أربيل، دون إصابات بشريّة، وكانت تتطلعُ لتحقيقِ جملةِ أهدافٍ تأثرت بإسقاط الطائرة الأوكرانيّة فجر يوم 8/1/2020، ومرّ تصريح الرئيس ترامب: “كل شيء بخير… لدينا أقوى وأحسن الأسلحة حول العالم!”. عابراً وخطابه يوم 8/1/2010 الذي تضمن تراجع الولايات المتحدة جدّياً عن التصعيد وعدم الرغبة باستخدام القوة العسكريّة، والاكتفاء بفرضِ عقوباتٍ اقتصاديّة، “، ذلك لأنّ نعوشَ الجنودِ الأمريكيين القادمةِ من المنطقةِ كفيلةٌ بإفشالِ حملةِ انتخابات ترمب وإبعاده عن البيت الأبيض، ولن يحتملَ الانتقاداتِ الموجهة له. وكانت السفيرةُ الأمريكيّة لدى الأمم المتحدة كيلي كرافت قد قالت في رسالة: “إنّ واشنطن مستعدةٌ للدخول دون شروط مسبقةٍ في مفاوضات جادٍ مع إيران لمنع تعرضِ السلام والأمن الدوليين لمزيد من الخطر وللحيلولةِ دون حدوثِ تصعيدٍ إيرانيّ”.

 

وفي سياق تبادلِ المواقفِ رفض الرئيس الإيرانيّ روحاني في 15/1/2020 ما أسماه “اتفاق ترمب، وفي نفس السياق لوح نائب رئيس منظمة الطاقة الإيرانيّ علي أصغر زاريان في 25/1/2020 بتخفيض التزام بلاده بالاتفاق النوويّ وقدرتها على تخصيبِ اليورانيوم بلا حدودِ، وليغرّد ترمب في 26/1/2020رافضاً دعوةَ طهران للتفاوضِ بالقولِ: “لا شكراً”، فيردُّ وزير الخارجيّة الإيراني جواد ظريف بنفي المبادرةِ.
طهران تستثمر الاغتيال – من المرجح تعاظمُ النفوذِ الإيرانيّ بالمنطقة، وكانت أولى البوادرِ زيارة أمير قطر إلى طهران ودعوته لها بتخفيفِ التوترِ والحدِّ من التصعيدِ، فيما هددّ الحرس الثوريّ بقصفِ قاعدةِ الظفرة بالإمارات إذا أقلعت منها طائرةٌ تستهدفُ إيران، فتردَّ الإماراتُ بهدوءٍ على التهديد، وأوفد ولي العهد السعوديّ شقيقه خالد بن سلمان نائب وزير الفاع إلى واشنطن طالباً التهدئة ولعلّ اغتيال سليماني يكونُ بداية تقليصِ الوجود الأمريكيّ بالعراق عبر الوكلاء، وبالفعل كان مجرد اغتيال سليماني دافعاً لإنهاء الاتفاقية الأمنية العراقية الأمريكية، وسبباً لتصويت البرلمان العراقي على إنهاء الوجود العسكري لقوات التحالف الدوليّ.

اغتيال سليمانيّ وحّد الجبهة الداخليّة في إيران، وسيكون بداية متغيرات في إيران وصعود شخصيات جديدة، فإيران لا تُعجزها البدائل، وصحيحٌ أنّ غياب سليماني كان مكلفاً على النظام الإيراني، باعتباره العقل المدبّر للاستراتيجية الإيرانية بالخارج، ومحافظته طيلة عبر سنواتٍ على المصالح الإيرانية، رغم انفجار أزمات مستمرّة بالمنطقة، وتدهور الأوضاع الأمنيّة في دول المنطقة، إلا أنّ سليمانيّ أوجد وكلاء أقوياء في تلك البلدان، ارتبط مصيرهم بطهران