22 ديسمبر، 2024 2:19 م

ايران المعاصرة والقضية الفلسطينية ! ج ١

ايران المعاصرة والقضية الفلسطينية ! ج ١

الكراهية المتأصلة للعرب في الشخصيتين الايرانية والصهيونية ؛ صعود المد القومي العربي خلال عقدي الخمسينات والستينات ؛ تزايد النفوذ السوڤيتي وتحالفه مع المد القومي العربي خلال ذات الحقبة ؛ تعاظم قوة الاحزاب الشيوعية في المنطقة وبشكل خاص في ايران وجوارها الاقليمي المباشر خلال حقبة الخمسينيات من القرن الماضي ؛ تعاظم الشكوك بشأن شرعية الانظمة الملكية الوراثية بالتزامن مع بدء سقوط بعضها بالفعل كما حصل في مصر والعراق ؛ وجود جالية يهودية كبيرة في ايران واستمرار تواصلها مع من هاجر من ابنائها الى ” اسرائيل ” بعد قيامها : كلها عوامل مهدت الارضية لنشوء علاقات تزايد حجمها وتشعبت ميادينها بين ايران والكيان الصهيوني منذ مطلع خمسينيات القرن الماضي .

يعود اول تماس لايران بالقضية الفلسطينية الى عام ١٩٤٧ عندما تم اختيار ايران لتكون عضواً في لجنة فلسطين التي شكلتها الجمعية العامة للامم المتحدة من احد عشر عضواً ، وكانت مهمة اللجنة تقديم التوصيات بشأن ماسيكون عليه الوضع النهائي لفلسطين بعد انتهاء الانتداب البريطاني . اعتمدت اللجنة توصية بتقسيم فلسطين باغلبية ثمانية اعضاء ، وعارضته ايران والهند ويوغوسلاڤيا . كان شاه ايران محمد رضا پهلوي يعتقد ان التقسيم سيقود الى استمرار النزاع المسلح بين الفلسطينيين واليهود , وفضل اقامة دولة فدرالية واحدة تضم الطرفين على قدم المساواة . تم بعد ذلك تبني توصية اللجنة واصدرت الجمعية العامة قرارها ١٨١ لعام ١٩٤٧ القاضي بتقسيم فلسطين الى دولتين احداهما ذات حكومة يهودية والاخرى ذات حكومة عربية ؛ كان ذلك حصيلة دعم سوڤيتي عسكري ودبلوماسي وبشري ، بينما كانت بريطانيا والولايات المتحدة تدرسان امكانية وضع فلسطين تحت الوصاية الدولية لمجلس الامن .

رفضت ايران الشاه الاعتراف بأسرائيل عند اعلان قيامها ، سواء اعترافاً قانونياً de jury على غرار الاعتراف السوڤيتي ، أو اعترافاً فعلياً de facto على غرار الاعتراف الامريكي ؛ وبقي الحال على ماهو عليه حتى جاءت حكومة مصدق اليسارية عام ١٩٥١ فاعترفت بالكيان الصهيوني اعترافاً فعلياً تحت تأثير حزب تودة الشيوعي الايراني والضغط السوڤيتي ، فقد كان الاتحاد السوڤيتي يأمل ان تستمر حكومة اليسار في حكم الكيان الجديد ، بما يعني اقتلاع النفوذ البريطاني من فلسطين . لكن حكومة بن غوريون والغالبية من السكان اليهود كانوا يميلون الى اعادة البوصلة باتجاه الغرب بفعل التدفقات المالية الهائلة التي كانت تقدمها القوى الغربية وخاصة يهود الولايات المتحدة ، فضلاًعن اعتبار القيادة الصهيونية ان الساحة الامريكية هي الساحة الرئيسية للنشاط الصهيوني .

رغم اعتراف ايران فعلياً بالكيان الجديد خلال حكم مصدق الا ان الشاه رفض ان يمنح الكيان الجديد اعترافاً قانونياً حتى سقوطه عام ١٩٧٩ ، رغم الضغوط التي كان يتعرض لها من جانب الكيان الصهيوني والولايات المتحدة ، لكنه وبحكم التوجهات الغربية للكيان الصهيوني واتجاه علاقات الاخير مع الاتحاد السوڤيتي نحو البرود بعد سقوط نظام الملك فاروق قيام الجمهورية في مصر ( ٥٢ – ١٩٥٣ ) ، وتحت ظغط تصاعد اليسار في الجوار العربي المدعوم من السوڤيت ، قام باتخاذ عدد من الخطوات لمد جسور من العلاقة مع ” اسرائيل ” في ميادين مختلفة ولاسباب عديدة امتزج فيها العامل النفعي مع تراكمات التاريخ بخصوص العرب في الشخصية الايرانية .

كانت ايران تأوي جالية يهودية كبيرة سمح الشاه لافرادها بالهجرة الى ” اسرائيل ” ، وكانت تمثل الجسر الرئيسي لتأمين عبور يهود العراق اليها ، حيث قامت بتسهيل قيام اليهود العراقيين بتصفية ممتلكاتهم من خلال الاسر العراقية ذات الاصول الايرانية ؛ كان يتم الاتفاق على اثمان ممتلكات اليهود العراقيين في بغداد ، وتتم التسويات المالية في طهران عن طريق اقارب تلك الاسر التي حققت ثروات هائلة من هذه العملية . كذلك بدأ التفكير الاسرائيلي في امكانية تأمين مرور كميات من النفط الايراني المصدر الى اوروپا عبر فلسطين من خلال انبوب لنقل النفط يربط مينائي ايلات على البحر الاحمر بميناء عسقلان الفلسطيني المحتل على سواحل البحر المتوسط ، وهو امر يمكن ايران من تجنب تصدير جزء كبير من نفطها دون الاضطرار للمرور في قناة السويس عبر مصر الناصرية ذات العلاقات المتنامية مع الاتحاد السوڤيتي ، والتي كانت علاقاتها تتجه الى التردي مع ايران . كانت ايران تسعى ايضاً للحصول على اسلحة اسرائيلية لتأمين جزء مهم من احتياجاتها العسكرية ، تجنباً لاستيرادها من الولايات المتحدة مع مافي ذلك من بعض الصعوبات احياناً . كانت هنالك ايضاً حاجة ايرانية متنامية لانواع معينة من الخبرات والتقنيات في الميادين الزراعية والصناعية التي تميزت بها ” اسرائيل ” .

لقد ظلت هذه العلاقات تتنامى وتتشعب في مجالات عديدة بما في ذلك الاستخبارية ، وكانت ايران قد سمحت بفتح مقر للبعثة الفنية والعسكرية الاسرائيلية في طهران دون ان يمنح اية صفة تمثيلية او دبلوماسية ، ولم يسمح للمكتب المذكور برفع العلم الاسرائيلي ، كما لم يسمح لمنتسبيه بالمشاركة في المناسبات الاحتفالية التي يدعى اليها الدبلوماسيين الاجانب ، في تل ابيب كان هنالك طاقم دبلوماسي ايراني مكون من ستة دبلوماسيين ، وكان يشار الى مقر عملهم في ملفاتهم الشخصية على انه ” بيرن ” العاصمة السويسرية ، كما كانت جوازات سفرهم تخلو من اية اختام اسرائيلية ؛ جرى ايضاً انشاء مقر للموساد الاسرائيلي في شمالي ايران في منطقة محاذية للحدود العراقية لتأمين تدفق المساعدات الاسرائيلية للمتمردين الاكراد في شمالي العراق ، لكن ايران حرصت على ان يظل هذا التعاون بعيداً عن الانظار ، وخاصة خلال فترة حلف بغداد والتقارب مع العراق الملكي ، والذي كان الدولة العربية الوحيدة التي رفضت توقيع اتفاقيات الهدنة مع الكيان الصهيوني ، فضلاً عن موقف صلب ازاء وجوب تطبيق قرارات الامم المتحدة بشأن قضية اللاجئين التي شكلت المحور الرئيسي للقضية الفلسطينية خلال تلك الحقبة ، وبقية حقوق الشعب الفلسطيني التي اعتبرتها الامم المتحدة ” حقوقاً غير قابلة للتصرف ” ، وقد اضطرت ايران الى اتخاذ موقف اثار حفيظة الاسرائيليين خلال اجتماعات حلف بغداد وخاصة في جلسته الافتتاحية الاولى ، التي عقدت في بغداد في شهر ت١ / نوڤمبر عام ١٩٥٥ ، حيث تضمن خطاب رئيس الوزراء الايراني انذاك حسين علاء اعلان بلاده ” كامل استعدادها لعمل كل ماهو ممكن من اجل تسوية النزاع العربي – الاسرائيلي ، وانها تثق بأن الامم المتحدة قادرة على حل النزاع القائم بين الاصدقاء العرب واسرائيل ” ، ورغم اللهجة المعتدلة لهذا الخطاب الا ان الاوساط الاسرائيلية اعتبرته ، مع كلمات الوفود الاخرى المشاركة في الاجتماع وخاصة خطاب عدنان مندريس رئيس وزراء تركيا ، موقفاً غير ايجابي بأعتبار ان اعتماد القرارات الاممية كمرجعيةً لحل النزاع يعني الاعتراف بحق العودة للاجئين الفلسطينيين وانسحاب ” اسرائيل ” من الاراضي التي تحتلها خارج ماخصص لها بموجب قرار التقسيم .

كانت ” اسرائيل ” تعطي ايران اهمية كبيرة في ستراتيجيتها العامة في الاقليم . لقد تبنى بن غوريون ستراتيجية ” الاطراف Periphery “ والتي تتضمن اقامة علاقات تحالف مع دول الطوق غير العربية المحيطة بدول المواجهة العربية ، وتم اعتبار ايران وتركيا واثيوبيا احجار الزاوية في هذا التحالف ، اضافة الى اعتماد ستراتيجية التحالف مع الاقليات في المشرق العربي وخاصة الاكراد ليكونوا ورقة ضغط على حكومات دول الطوق العربي وعامل زعزعة وعدم استقرار . وكلتا الاستراتيجيتان تلتقيان في ايران التي تعتبر الجسر الطبيعي للوصول الى اكراد العراق ، وهي بالرغم من اية علاقات او تحالفات قد ترتبط بها مع العرب ستظل اسيرة كره العرب الكامن في الشخصية الايرانية لاسباب تاريخية وطائفية ، مما يجعلها ساحة مهمة بشكل استثنائي للنشاط الصهيوني المعادي للعرب .

اما من الجانب الايراني فقد كانت ” اسرائيل ” تعتبر مصدرًا مهما لجزء كبير من احتياجاتها في مجالات عديدة وخاصة الزراعية والعسكرية ، كما يؤمن اللوبي الصهيوني في واشنطن منفذاً الى اهم مراكز القرار الامريكي وخاصة الكونغرس ، فضلاً عما يمكن ان تلعبه ” اسرائيل ” من اشغال وعامل عدم استقرار لقوى عربية رئيسية تعاديها مثل العراق ومصر وسوريا ، وهو عامل تزايدت اهميته بعد صعود التيار القومي العربي ” التقدمي ” الذي توثقت علاقاته مع الاتحاد السوڤيتي ، والذي كان سيمثل عامل حث مؤكد لتنامي المشاعر القومية في اوساط العرب في اقليم الاحواز العربي المحتل من جانب ايران . لقد كانت ايران تعتبر صعود التيار القومي العربي وتنامي الوجود السوڤيتي في جوارها العربي عاملاً مشجعاً لعدوها الداخلي اللدود المتمثل في الحزب الشيوعي الايراني ” تودة ” وتنظيمات يسارية اخرى .

خلال الفترة بين عامي ١٩٥٢ و ١٩٦٧ شهدت كل من طهران وتل ابيب زيارات رسمية متبادلة للمسؤولين من الجانبين ، ولكنها كانت تجري بتكتم شديد ودون مراسم . لعل اهم هذه الزيارات كانت زيارة بن غوريون الى طهران عام ١٩٦١ .

مثل عام ١٩٦٧ نقطة تحول في هذا الموقف بشكل عام بعد هزيمة حزيران وتراجع المد القومي العربي ” التقدمي ” وظهور بوادر بداية تراجع للنفوذ السوڤيتي في الاقليم في مرحلة قريبة لاحقة .