23 ديسمبر، 2024 1:03 ص

ايام الجحيم / الحلقة الأخيرة

ايام الجحيم / الحلقة الأخيرة

عندما أكدت له بأننا سنبقى في البيت ولن نخرج الى أي مكان قال لي ” أنت شجاع ” . قبل الهجوم بأسبوع طلب مني أن نجلس في كازينو قريبة من موقع وزارة الأعلام لنتحدث بصراحة عن أشياء مهمة تتعلق بعمله وكيفية التصرف أثناء الهجوم . حينما جلسنا راح يحرك ملعقة الشاي في قدحهِ بهدوء تام وهو يحدق في وجهي بكل جدية . قال برزانة مطلقة ” إسمع ..أريد منك شيء واحد هل تستطيع أن تنفذه لي؟ ” حينما أكدتُ له بأن واجبي الرسمي هو البقاء معه حتى آخر لحظة من وجودهِ في بغداد ولن يُسمح لي بتركهِ وحيداً مهما كانت الظروف شعر بالأرتياح ونظر نحوي بسعادة مطلقة وهو يقول ” اسمع ياصديقي – وكانت أول مرة يناديني بكلمة صديقي – أريد أن أصور الجنود الأمريكان عندما يدخلون بغداد ولكن هل تعدني بأن تأخذ جثتي الى السفارة الروسية في بغداد إذا قتلت أو حدث لي أي شيء يمنعني من الحركة ؟ ” حينما أقسمتُ له بأنني سأظل معه حتى آخر لحظة من حياتي إبتسم وربت على كتفي قائلاً ” الآن أستطيع أن أعمل بكل جدية وراحة بال ” . بدأ يحبني بشكل كبير جداً وكان يحدثني عن عائلته كثيرا وعن كل شيء يتعلق بحياته الشخصية . كان يجبرني للذهاب الى أفخر المطاعم في العرصات ويدفع ثمن طعامي كل وجبة وكان كريماً جداً معي. قال لي مرة ونحن جالسان في إحدى مقاهي بغداد الشعبية ” هل تصدق بأنني كرهتك في اليوم الأول عندما شاهدتك في دائرة الأعلام الخارجي لأن مديرك المباشر أجبرني على العمل معك ..في البداية كانت هناك فتاة تتحدث الروسية بطلاقة وهي رافقتني لمدة يومين فقط وفجأة إستدعاني مديرك وأخبرني بأن الأنسة ” س ” لن تخرج معي بعد الآن وأنك ستكون المرافق الرسمي لي . غضبتُ كثيراً وشعرت أنني أواجه أكبر مشكلة في عملي في العراق ولكن عندما رجعتُ الى فندق الزهور ووجدتُ الصحفي – سيرجي – وأثنان من القناة الروسية المركزية وأخبروني بأنني محظوظ لأنك ستكون مرافقي الرسمي لم أصدقهم في بداية الأمر ولكن اتضح فيما بعد أن كلامهم كان صحيحاً .” .
للتاريخ أقول بأنني كنتُ خائفاً جداً في ذلك الوقت وحاولت أن أقول له بأنني سأذهب الى البيت ولن أعود الى أن ينتهي الهجوم الأمريكي ولكن خفت أن يقول عني بأنني جبان وخائف . على حين غرة حدث شيء ليس بالحسبان جعله يغضب كثيراً جدا ووقفتُ عاجزا عن فعل أي شي . جاء الأمر من المدير العام – عدي الطائي – أن أبلغ المصور بالعودة الى بلده خلال 24 ساعة وهذا أمر من المخابرات العراقية . قابلت المدير العام وشرحت له كل شيء عن المصور وأنه يريد البقاء شهر بعد الهجوم وهو غاضب جدا جدا . نظر إلي المدير العام وقال ” نفذ ما أقوله لك ” . كانت أكبر عملية بشعة في حق ذلك المصور . عرفت فيما بعد أن أحد رجال المخابرات – وكان يعمل معنا في مرافقة الصحفيين – أراد أن يبدلني ويكون هو مرافق له ولكن المصور لم يوافق مما جعل رجل المخابرات يخبر المدير بضرورة تسفير المصور لأنه غير مرغوب فيه . هنا يجب التوقف قليلاً والحديث عن شيء – عن المخابرات – في تلك الأيام العصيبة . بدأت دائرة المخابرات ترسل لنا رجال كل يوم للعمل معنا كمرافقين بحجة المراقبة وشيء من هذا القبيل مع العلم أننا لانحتاج الى أي مرافق لأن عددنا يكفي ويزيد ولكن تبين فيما بعد أنهم راحوا يدركون أن قضية العراق منتهية مئة بالمئة ومديرهم بدأ يرسل عدد من المرافقين للصحافة الأجنبية على شرط أن يتقاسم مع المرافق أي مبلغ يستلمه من الصحفي الأجنبي . حينما لم يتمكن رجل المخابرات من مرافقة المصور الذي كان معي ذكر ذلك الى مديره المباشر ونسق مع مديرنا العام لتسفير المصور. كانت أكبر نكبة لعمل الأعلام في العراق في ذلك الوقت . في الساعة الخامسة صباحا ودعته عند مدخل فندق الزهور بعد أن استأجرتُ له سيارة – دولفين – باتجاه الأردن . قبلني وهو يقو ل ” سنلتقي عندما يسقط صدام وتتحول دولتكم الى دولة أمريكية ” قالها بحسرة وقبل أن يستقل السيارة أخرج من جيبهِ نقود عراقية وهو يقول ” هذا كل ماتبقى معي من النقود العراقية خذها أنت تستحقها. لن أحتاجها بعد الآن . لاتنسى أن ترسل لي نسخة من كتابك – عندما يتكلم الجندي المجهول – وأعاهدك بأنني سأنشرها باللغة الروسية . حينما بدأ الهجوم على بغداد تكورت مع عائلتي في غرفة واحدة خالية من الزجاج وكانت أصوات الدبابات تزمجر عند الخط السريع المؤدي الى بغداد وصوت القذائف يهز الفضاء بشكل مرعب . شعرتُ أن الزمن قد توقف وأن الحياة تنذر بالموت المؤكد . تذكرت في تلك اللحظة كل الحروب التي مرت على مر العصور . في اليوم التالي جازفت بالخروج الى مركز بغداد كي اشاهد ما حل بدائرتنا أو فندق ميريديان أو أي شيء آخر . كان المشهد مرعب . وزارة الأعلام تحترق واللهب يتصاعد من جميع النوافذ وأشخاص يدخلون ويخرجون وهم يسرقون كل شيء . كل شخص يحاول أن يحمل أي شيء يقع في طريقه ويعتبره نصراً عظيما . استمرت عمليات السطو على الأماكن الحكومية فترة من الزمن وكنتُ اسمع حكايات عن عمليات النهب والسلب يشيب لها الرضيع . قررتُ الاعتكاف في البيت كي لا أشاهد الجرائم التي يرتكبها أبناء البلد . حاولت أن أجد لي أي عمل مضني في البيت لكي أنسى الواقع المزري الذي يمر به العراق الجميل . كانت هناك مساحة من الأسفلت خارج البيت بمحاذاة الجدار الخارجي . .قررت إزالتها وزرعها بأنواع من الأشجار .

بدأتُ اضرب الأسفلت بالمعول الصلب وكانت كل ضربة تصدر عنها شرارة نارية أضع فيها كل غضبي وكل الثورة المعتمرة في صدري. كنتُ أعمل كل يوم بمعدل تسع ساعات. كان العرق يتصبب من جسدي ولم أعد أشعر بأي شيء حولي . نسيتُ القوات الأمريكية التي تمركزت في كل زاوية من زوايا البلد الحبيب ونسيتُ كل الدوائر الحكومية التي أحرقها وسلبها أبناء البلد الواحد. فجأة رحتُ أفكر في – صدام حسين – أين هو الآن؟ ولماذا تلاشى هو ورفاقه الحزبيين في لمح البصر؟ لماذا سقطت بغداد بهذه السهولة؟ أين الجيش العراقي وأين الجيش الشعبي وأين المخابرات الذين كانوا يتبخترون هنا وهناك؟ وأين الأمن وكل منظمة لها علاقة بالدفاع عن البلد في حالة حدوث الكوارث؟ هل كان كل شيء مجرد خدعة وكذبة يفتعلها القائمون على حكم العراق ؟ أي مهزلةٍ هذه المهزلة التي عشنا فيها. في مرحلة الطفولة والصبا والشباب كنت قد قرأت قصص حربية كثيرة عن دول كثيرة وكيف كان الشعب يربض في المدن ويدافع عنها ضد الأحتلال أو العدو القادم من خلف الحدود وكم كنت اتفاعل مع تلك الحكايات وكنت اتمنى ان يأتي عدو لبلدي كي اندفع مع أبناء الشعب في الطرقات والساحات لنحيل حياة المعتدي الى جحيم حقيقي , وجاء العدو بدباباته على الطريق السريع ولم يستطع اي جيش عسكري او مدني إيقافه . أين الحرس الجمهوري وأين الحرس الخاص ؟ كم أنا خجلٌ الآن ومحبط المعنويات . ماذا جرى للخطب الحماسية التي كان يلقيها صدام في حضور قادته الكبار؟ يبدو انها لم تكن اي شيء الا كذبة في تاريخ العراق. لقد كان الجزء يكذب على الكل والكل يكذب على الجزء وهذا هو الذي قادنا الى هذه الحالة المأساوية. لم يكن أي قائد عسكري يقول الحقيقة في حضرة صدام ابدا , فالكل يرتعش خوفا والقائد الأحمق يعرف هذا ولايتدارك الأمر. ( ملاحظة ..وأنا أكتب هذا الكلام قال لي شخص مقرب من وزير الأعلام السابق لطيف نصيف جاسم بانه اي الوزير كان يتناول اقراص حبوب مهدئة لأنه كان يرتعش كلما اراد مقابلة صدام او طلب منه صدام الحضور وهذه الحبوب المهدئة تساعده على الحفاظ على رباطة جأشة….) . يبدو اننا كنا نبني دولة من ورق أو دولة مبنية على الخوف المطلق. تأسفتُ كثيراً على حالي لأنني كنتُ أعتقد أن كل ماكان يقوله صدام هو الحقيقة ولم أتصور أنه لم يكن يفهم حتى في السياسة ولو كان يفهم فيها لما جرنا وجر البلاد الى هذه الحروب الطاحنة المتلاحقة .

توالت أيام العمل في الحديقة الخارجية – لإزالت الأسفلت- قرب جدار المنزل اكثر من شهرين بذلتُ فيها جُهْداً استثنائيا . كان كل من يراني يضحك ويتهمني بهدر الوقت لكنني في حقيقة الأمر اتخذت من العمل وسيلة للهروب والتفكير مع ذاتي لا بل محاسبة نفسي على اشياء كثيرة . جلبتُ اشجاراً كثيرة وزهوراً جميلة وتحولت القطعة الأسفلتية الى حديقة خضراء نالت إعجاب الجميع. وتوالت الأشهر ونفذت كل نقودي وذهبتُ مع موظفي وزارة الأعلام نجوب الشوارع في مظاهرات كي يرأف بحالنا الأمريكان ويعيدوننا الى وظائفنا ولكن كل هذا ذهب مع الريح ولم يهتم أحد لنا. ضاع الأمل وتمزقت وزارة الأعلام وتحول الحلم الى سراب. عاد الأسر يلفني من جديد ولكن هذه المرة كان الأسر في بلدي على الرغم من انني اتحرك بكل حرية وليست هناك قضبان حديدية ولكن كانت هناك قضبان اخرى معنوية تحيط بروحي وكياني الشخصي فالقوات الأمريكية في كل مكان ولايستطيع احد التقرب منها . كلما شاهدتُ عسكرياً أمريكياً اشعر بالخجل والحياء واقول مع نفسي كم ان العراقيين كذابين لأنني في يوما ما وقبل الاحتلال كنت ارافق الصحفي الروسي – اليكسي- من التلفزيون الروسي وكنا نسير في احد اسواق بغداد التاريخية وطلب مني ان اسال الناس السؤال التالي بالحرف الواحد ونصّاً ( اذا شاهدتَ جندياً امريكياً يسير في شوارع بغداد ماذا تفعل؟) . كان جميع الناس يقولون بالحرف الواحد( سنحطم ذلك الجندي بأي سلاح نملكهُ واذا لم يكن لدينا سلاح سنستعمل الأحجار الصغيرة ) . وها هو الجندي الأمريكي يسير في كل شوارع بغداد ولا احد يستطيع الاقتراب منه. توالت الايام واذا بصورة صدام تظهر على شاشة التلفاز عجوز ممد على الأرض والجندي الامريكي يلتقط معه صورة تذكارية. صورة اخرى يفحصه الطبيب الأمريكي مرتدياً قفازاً وكانه لايريد ان يكتسب منه مرضاً ما. هذا هو صدام حسين الذي شغل الدنيا والعالم وهذا هو الذي يتغنى به الشعراء! يالهذا العار الذي لحق بالأنسان العربي في كل زمان ومكان . أين المعارك الطاحنة التي خاضها الشعب العراقي مع الدول المجاورة ومساكين أؤلئك الجنود وكافة الرتب العسكرية العراقية التي تحولت الى رماد وجثث متناثرة في الفضاء ومنهم شقيقي الصغير- عامر- وصديق شبابي ابراهيم الجنابي- ضحوا بحياتهم في صحاري قاسية البرد والحر ومن أجلِ من؟ من أجل شخص لم يستطع حتى الأنتحار أو اطلاق طلقة واحدة على الجيوش التي احاطت به من كل الجهات؟ يالهذا العار الذي لحق بالرجولة هنا في بلد التاريخ العريق! لو كنتُ أعلم ان – القائد الضرورة – يكون مصيره هكذا لما ضحيتُ بأحد عشر عاما من حياتي في معسكرات الخوف والذل والجوع والعطش وفي النهاية صرتُ مشردا في الطرقات ابحث عن لقمة عيش . لكنت قد هربت من الجيش منذ اليوم الاول . ستة عشر عاما وبلدي الحبيب ينزف كل يوم دماء عزيزة جدا . تحول البلد الى غابة مرعبة من خوفٍ مستديم . القوي يفترس الضعيف والضعيف ليس لديه الا الدعاء ليمر يومه بسلام . متى سننهض من جديد؟ متى سنعود الى الحياة الأعتيادية كباقِ مخلوقات الله من البشر؟ مهما كانت الظروف لابد للشمس ان تشرق من جديد . من يحاول العمل الجاد لابد أن يصل الى الهدف المنشود . لقد ضاعت خطابات صدام والمباديء التي كان يوجع فيها رؤوسنا وبقيت روح كل مواطن مخلص يحاول أن يعمل من أجل بلدهِ دون الألتفات الى المصالح الشخصية . هذا هو التاريخ وهذا هو الزمن . الزمن لن يتوقف عند ضياع قائد او شخص مهم . الزمن يتقدم والحياة مستمرة مهما كانت الظروف . سأمسح دموعي التي ذرفتها في مناسبات عديدة عند الاسر وعند ضياع البلد وسأعمل مع كل انسان مخلص من أجل تسوية هذا الخراب الذي حل بالبلد بسبب مغالطات الذات . سنبني العراق من جديد فألأجيال الصغيرة تكبر كل يوم وسيتقدم البلد وسنبني دوائر حكومية جديدة ومنتزهات للأطفال وطرق سريعة . أيها الأنسان الساكن في هذه الارض الطيبة تعال لنعمل معا لنحيل هذه الارض المحروقة الى أرض خضراء تُثمر فاكهه ونبني المصانع من جديد . الجنود المجهولين سينهضون من جديد ولن يعودوا مجهولين لأن الصورة اتضحت والنور الساطع قادر على إحالة الظلام الكثيف الى سعادة حقيقة يرفل فيها ابناء البلد الواحد . ستعود الحياة من جديد وسيختفي الخوف من قلوبنا التي سيطرت عليه زمرة لم يكن همها سوى الحياة على رفات الآخرين…أنهم يخافون عندما يتكلم الجندي المجهول .

– تمت –