عنوان هذه القصة القصيرة هو – رسالة الى جار عالم , وقد نشرها تشيخوف عام 1880 , عندما كان طالبا في الصف الاول بكلية الطب في جامعة موسكو , وهي ليست اول نتاج ادبي كتبه تشيخوف, وانما اول عمل ابداعي نشره ( والفرق كبير طبعا بين الكتابة والنشر) , وبما ان هذا ( الطالب الشاب) كان في بداية الطريق الى عالم الادب والمساهمة به , ولأنه لم يكن واثقا من نفسه في مسيرته الابداعية , فقد نشر هذه القصة القصيرة باسم مستعار وهو – ( ….ف) , وهذا استخدام طريف جدا ومبتكر فعلا , اذ جرت العادة على الاشارة الى الحرف الاول للاسم في مثل هذه الحالات, اما تشيخوف فقد استخدم الحرف الاخير من اسمه, علما ان تشيخوف استخدم في بداية حياته الادبية العديد من الاسماء المستعارة الطريفة, وقد تمّ جمعها بعدئذ في قوائم خاصة, وهي منشورة الان بالروسية , وذلك باعتبارها جزءا لا يتجزأ من تراث تشيخوف الابداعي.
لازالت قصة ( رسالة الى جار عالم ) معروفة ومشهورة لحد الان , اي انها ( اخترقت !) القرن التاسع عشر والعشرين ونحن الان في بداية العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين . ومن الطريف الاشارة هنا, الى انها اصبحت القصة رقم واحد في مؤلفات تشيخوف المختارة بترجمة المترجم المصري الكبير المرحوم د. ابو بكر يوسف , والتي نشرتها دار رادوغا السوفيتية باربعة أجزاء في حينها ( وتم اعادة طبعها ونشرها في عالمنا العربي عدة مرات ), والتي تعد الان واحدة من اهم المصادر لنتاجات تشيخوف الادبية باللغة العربية , وبالتالي , يمكننا ان نقول وبدقة , ان هذه القصة القصيرة للطالب الروسي الشاب معروفة للقارئ العربي ايضا, وقد اطلعت مرّة على تعليقات كثيرة و متنوعة من القراء العرب حول هذه القصة القصيرة , منها على سبيل المثال , تعليق طريف باللهجة المصرية الجميلة حول رد فعل العالم بعد قراءة الرسالة ( مع صورة لفنان كوميدي مشهور) وهو يمسك بيده رسالة و يقول – لو سمحتم شوفولي مين الاهبل اللي كتب الرسالة دي .
عنوان هذه القصة عندما تمّ نشرها هو – ( رسالة من الاقطاعي بمنطقة الدون ستيبان فلاديميروفيتش ن الى الجار العالم الدكتور فريدريخ), وقد ظهرت بموسكو في العدد العاشر من مجلة (ستريكازا ) الفنية الفكاهية بتاريخ 9 آذار / مايس عام 1880 . حاول تشيخوف ان يصدر مجموعة من قصصه عام 1882 , وأدخل هذه القصة في تلك المجموعة , وعدّل العنوان الاصلي الى عنوان – رسالة الى جار عالم , الا ان المجموعة لم تصدر آنذاك لاسباب عديدة لا مجال للكلام عنها الان .
مضمون القصة بسيط جدا , اذ يكتب أحد الساكنين في قرية روسية ( وهو عسكري بسيط متقاعد ) رسالة الى جاره العالم, الذي وصل من بطرسبورغ للعيش في تلك القرية , والقصة القصيرة هذه لا تتضمن غير هذه الرسالة , التي تبدأ – مثل اي رسالة – بالتوجّه الى المرسل اليه , وتنتهي باسم المرسل . ويكتشف القارئ لهذه الرسالة مستوى كاتبها الضحل جدا ( شكلا ومضمونا ), والذي يحاول في رسالته هذه ان ( يتباهى !) بمعلوماته العلمية وبشكل مضحك جدا وبلغة ركيكة ومليئة بالاخطاء الاملائية والاسلوبية , لدرجة ان واضعي المناهج في المدارس الروسية أدخلوا هذه القصة ضمن الدروس التعليمية , وذلك كتمرين لغوي للتلاميذ , ويطلبون منهم الاطلاع عليها وايجاد تلك الاخطاء , ويعد هذا التمرين من انجح الدروس , لأن التلاميذ يقرأون القصة بمتعة كبيرة ويصلّحون النص ذاك .
لقد كتب شقيق تشيخوف ( واسمه ميخائيل) في ذكرياته عنه , ان تشيخوف في صباه كان يلقي امام ضيوف بيتهم ( محاضرة!) ساخرة , يجسّد فيها شخصية بروفيسور يتحدث عن اختراعاته العلمية , ويقول شقيقه , ان تشيخوف استخدم تلك الصور الفنية , التي كان يلقيها آنذاك , وكان الضيوف يستمعون اليه ويقهقهون من اعماق قلوبهم . بل ان أحد الباحثين كتب مرة عن هذه القصة قائلا , ان طالب الكلية الطبية تشيخوف أراد ان يسخر من المضادين لافكار دارون , متأثرا بأحد اساتذة تلك الكلية , الذي كان مغرما بالدارونية ويتكلم دائما عنها , وان ذلك انعكس بشكل مباشر في تلك القصة .
قصة تشيخوف القصيرة ( رسالة الى جار عالم ) هي بداية لمرحلة مهمة جدا من مراحل مسيرة تشيخوف الابداعية , تسمى الان مرحلة القصص القصيرة الفكاهية الساخرة , والتي كتب فيها تشيخوف قصصا عديدة و شهيرة جدا , مثل الحرباء وموت موظف والبدين والنحيف وغيرها, هذه القصص التي لازالت حيوية في روسيا و في بقية بلدان العالم ايضا , بما فيها طبعا عالمنا العربي , وهي قصص قال عنها أحد النقاد الروس , لو ان روسيا تختفي من الوجود , فيمكن اعادتها على وفق قصص تشيخوف هذه…