كانت الساعة تشير الى الرابعة عصرا تقريبا وكان الجو حار جداً وكنا نبحث عن الظل تحت احد حيطان تلك البيوت الطينية واتذكرها جيدا عندما سمعت صراخ إحدى النساء في القرية وهي تولول بأعلى صوتها. خرج ابناء القرية جميعهم يصيبهم القلق ومسرعين الى مكان الصوت وربما كنت اول من وصل الى ذلك المكان كنت في حينها لا اعرف عن الحياة والموت اي شيء ولكنني وجدت صندوق خشبي ملفوف بالعلم العراقي فوق تلك السيارة الشيفروليت موديل 1955..
سمعت تمتمت الرجال وهم يرددون رحمه الله رحمه الله سألت الشاب الذي يقف بصفي وكان بيني وبينه فارق بالعمر سبع سنوات فقال لي انه الشهيد ابو جاسم لم اسمع قبل بهذه الكلمة فلقد تعودنا عندما تحدث حالة اي وفاة نذهب مع المشيعين الى المقبرة الموجودة في اطراف القرية ثم نقوم بواجبات الدفن وكنا نسمي الميت متوفي ولكن كلمه شهيد بالنسبة لي كلمة جديدة لم اسمع بها من قبل تجمعت القرية شيباً وشباباً والنساء تصرخ وتولول فقام رجال القرية بإنزال الصندوق الملفوف بالعلم من فوق السيارة التي كانت قادمة من مدينة الموصل وبعد ساعه او ساعتين تقريبا ومع صوت النحيب لكل اهالي القرية وبعد ان كفكفت الدموع بدأ رجال القرية بالتشاور فيما بينهم ولكنهم قد اختلفوا بآرائهم حول تغسيل الميت فمنهم من قال لا يجوز الغسل للشهيد ومنهم من قال ان الغسل واجب وبين هذا وذاك تمت استشارة شخص كبير في السن يسمى( المله) والذي لم يكون موجود غيره في القرية فهو الوحيد الذي يجيد الاذان والصلاة ولديه معلومات عامة عن الافتاء وقد صدرت التعليمات بانه لا يجوز غسل وتكفين الشهيد ويجب ان يدفن في ملابسه العسكرية..
خرجت القرية بأكملها لتوديع هذا الشهيد الذي يعتبر اول شهيد في قريتنا وقد خيم الحزن على الجميع خاصة وانه انسان طيب وله فضل كبير على كل ابناء القرية..
اقتربت الشمس من الغروب وقد انهينا مراسيم الدفن وبعدها عادت كل العوائل في القرية الى بيوتهم ينتظرون صباح الغد حتى يبدأ مراسيم مجلس العزاء والتي كانت تطول ايامه لسبعة ليالي متتاليه يأتي فيها كل ابناء القرى الساكنة في تلك المنطقة بمواساة اهالي الفقيد..
كنا نحن الصغار لا نعرف الموت ومسمياته جيدا وكل مانعرفه عند حالة أي وفاة سواء لرجل او امرأة تحزن القرية لمدة اكثر من عام والحزن هنا يشمل عدة حالات فلابد للنساء ان ترتدي الملابس ذات اللون الاسود ويمنع الاستماع الى اغاني المذياع او الراديو الذي كان هو الوحيد الموجود في القرية..
وتجد الحزن قد خيم على وجوه كل من يسكن تلك القرية والجميع يقومون بالعطف على ابناء المتوفي فتجدهم المدللين دوما بين ابناء كل القرية..
وما ان مرت سته سنوات تقريبا على هذه الحادثة حتى بدأنا نسمع من المذياع والتلفزيون الذي دخل بيوتنا مع دخول الطاقة الكهربائية في بداية الثمانينات من القرن الماضي وتحديدا عام 1980 بيانات واهازيج وطنية تعلن بداية حرب جديدة بعدها تعودت قريتنا على استقبال كل شهر تقريبا شهيد جديد وعرفنا ماذا يقصدون حينها بالشهادة وما زالت بلادنا تقدم الشهداء قرابين من اجل الوطن والدفاع عن المبادئ كما يدعون في الاعلام المزيف هذه الكذبة الكبيرة التي صنعها رجال السياسة ورسم حدودها الاستعمار ودفع ثمنها الشعب من دماء ابنائه…
نعم في بلادنا نحن جميعاً شهداء فمنا من قضى نحبه ومنا من ينتظر……