23 ديسمبر، 2024 7:06 ص

اهتمامات عصفورية

اهتمامات عصفورية

إن للناس مذاهباً كثيرة، وطرائقَ قِدَداً، في نوعية الاهتمامات في هذه الحياة الدنيا..

قليلٌ منهم جداً، لهم اهتماماتٌ عاليةٌ، وكبيرةٌ، ولهم طموحاتٌ سامقةٌ، تناطح السحاب، وتعانق الثريا، وتتجاوز مجرات الأفلاك، وتتعالى على السفاسف، وعلى التفاهات..

ويمكن أن يضحي الواحد منهم بحياته، ويقدم روحه، فداءً للمبادئ السامية، والعقيدة العالية التي يؤمن بها، ويبذل ماله في سبيل الله، مترفعاً على اهتمامات القطيع، ذي الاهتمامات الصغيرة، التافهة، البسيطة، الدونية، السطحية..

وقد قال قديماً، الشاعر المتنبي: واصفاً هؤلاء الكبار، العظماء، الأفذاذ، النجوم المنيرات، والأقمار المضيئات..

وَإِذا كانَتِ النُفوسُ كِباراً *********** تَعِبَت في مُرادِها الأَجسامُ

يقول: إذا عظُمت الهمة، وكبُرت النفس، تعب الجسم في طلب المعالي من الأمور الكبيرة، العظيمة، ولا يرضى بالمنزلة الدنيئة، فهو يسعى دائماً إلى طلب الرتبة الشريفة.

ويقول أيضاً:

لا يُدرِكُ المَجدَ إِلّا سَيِّدٌ فَطِنٌ *********** لِما يَشُقُّ عَلى الساداتِ فَعّالُ

يقول: لا يدرك المجدَ إلاّ سيدَ لا وارثٌ، أي لم يرث أباه شيئاً، لأنهُ كان جوادا فلم يخلف مالا، ويقوم بما يصعب على الزعماء، والاقوياء، والسادات فعله.

غير أن هذه الفئة الكريمة العظيمة، ذات الروح الوثابة، وذات الطموح العالي، وذات التطلعات السامقة، الشاهقة، وذات الأحلام والأماني الكبيرة.. قليلة جداً في عالم الأحياء، بل هي نادرة جداً.

لأن غالبية الناس، يصعب عليهم التضحية، ويشق عليهم الفداء، والبذل، والعطاء.. ويميلون دائماً إلى الاسترخاء، وإلى الاستكانة للعادات والتقاليد، والخنوع للمستبدين، وإلى الخضوع، والاستسلام للطواغيت، والتذلل للكبراء.

ومن هذا المنطلق، سنتحدث بإفاضة كبيرة، عن هذه الشريحة العريضة من الناس، التي تنحصر اهتماماتهم، بأمور صغيرة، بسيطة، تافهة، وسخيفة، ودونية، تشابه اهتمامات العصافير.

ولذلك أطلقنا عليها اسم اهتمامات عصفورية

فهذه الفئة الغالبة في المجتمع، تعيش على هامش الحياة، وفي سفح الجبل الشامخ، العالي.. بل في أدنى نقطة منه ملاصقة للأرض.

وهذه الفئة الكبيرة العريضة، الواسعة، المتسعة لمعظم بني البشر.. تتخوف، وتتهيب أن تصعد ولو متراً واحداً في الجبل الشاهق. لأنه ليس لديها عزيمة الحصول على المجد، ولا رغبة في نيل المعالي.

إن هذه الفئة الغالبة في المجتمعات البشرية، أقصى ما يُهمها، أن تأكل، وتشرب، وتستمتع بملذات الحياة المتنوعة، وشهواتها السفلية، وأن تكتنز الأموال بأية طريقة، وبأية وسيلة – سواءً كانت بالحلال أو الحرام أو كانت بطريقة شرعية أو بطريق النصب والاحتيال أو السرقة أو الاغتصاب -.

المهم لديها تكديس الأموال، والتقاطه ولو من أفواه الفقراء، والمساكين.

وكما قال قديماً الشاعر التونسي الشاب، اليافع، الثائر، الممتلئ بالعنفوان، والقوة، والإباء، والشموخ، أبو القاسم الشابي:

ومن يتهيب صعود الجبال *********** يعش أبد الدهر بين الحفر

نعم، هؤلاء المجموعات البشرية، ليس لهم اهتمام، إلا الراحة، والاسترخاء، والخنوع، والخضوع للطواغيت، والاستكانة للجبابرة المستبدين، والتذلل للحكام الظلمة الفجرة الفسقة.

 

أشكال الاهتمامات العصفورية العامة

 

1- تجد الواحد منهم – ذكراً أو أنثى – أكثر أمانيه، وأكبر أحلامه، وأعلى اهتماماته، أن يظهر أمام الناس، كل يوم بلباس جديد، وحلية جديدة!

فهو ينفق معظم ماله، لشراء الملابس الجديدة، والساعات الجديدة، والمجوهرات، والحلى الجديدة، متعللاً بهذه الآية ﴿ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (١١) ﴾ الضحى.

وكأنه لم يقرأ من القرآن إلا هذه الآية! ولم يقرأ قوله تعالى: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١) ﴾ الأعراف. يعني لا تتجاوزوا الحد الطبيعي المعتدل في أي أمر من أمور الحياة، والأكل والشرب مثالاً لذلك، وليس على التخصيص.. فالله جلَّ شأنه، لا يحب المتعدين لحدود الحلال والحرام.

2- وتجد إنساناً آخر، كل اهتماماته، أن يبدل كل بضعة أشهر، سيارته بسيارة جديدة، بل بعضهم يشتري عدة سيارات من أنواع مختلفة، ليركب كل يوم سيارة مختلفة، وليتفاخر ويتباهى أمام أصحابه بسياراته الفارهة.

3- اتباع الموضات، وآخر التقليعات عن الأزياء، أو تغيير شكل الإنسان، شعره، أو أظافره، أو لباسه، فلا تستحي الأنثى؛ أن تكشف عن جسدها، حسبما تطلبه الموضة الأخيرة في اللباس، ولو اقتضى الأمر، أن يظهر معظم جسدها عارياً..

4- ملاحقة آخر الموديلات في صناعة الهواتف النقالة، وانتظار صدورها على أحر من الجمر، والوقوف في طابور طويل، لشراء الموديل الجديد.. كل ذلك بقصد الرياء، والسمعة، والشهرة، والأبهة.

5- ملاحقة آخر إصدار من المسلسلات، والأفلام، والأغاني، والمسرحيات، والحرص الشديد على مشاهدتها، والاستمتاع بما فيها من رقص، وغناء، وطرب وسواه.

 

أشكال الاهتمامات العصفورية على وسائل التواصل

 

وهنا تجد الاهتمامات الدونية الصغيرة، السخيفة، التافهة، السطحية، من نوع آخر، مختلف كل الاختلاف عن الاهتمامات العامة السالفة الذكر، والتي تثير العجب العُجاب. وتثير الدهشة، والاستغراب من تصرفات طفولية، خالية من العقلانية والمنطقية بتاتاً..

وليس من ورائها متعة حسية، أو لذة مادية – كما هو الحال في الاهتمامات العامة – بل مجرد هَوَس حول الحصول على أكبر عدد من الاعجاب، في عالم افتراضي، خيالي، وهمي، ليس له على أرض الواقع الميداني أي وجود.

إذ كل التواصل يتم مع أناسٍ، معظمهم لم يسبق أن رآهم الشخص في حياته، أو سمع عنهم، أو شاهدهم عيانياً وبشكل عضوي..

ولهذا تنشط عمليات النصب، والاحتيال، والسرقة، واللصوصية، والابتزاز، ونشر الفضائح، وهتك أستار الناس، وتحطيم الأسر العفيفة المحافظة الطيبة، وتفكيك روابطها، وتمزيق أواصرها.

1- تجد الواحد منهم، أكبر همه، وأكثر ما يحرص عليه؛ أن يكتب كلاماً يُضحك الناس؛ ليحصد أكبر عدد من الإعجابات..

2- وإنسان آخر، يضع صورته مع صورة زوجته، أو صديقته، أو صورة أولاده وبناته، أو مع صورة أصدقائه.. والهدف من كل ذلك التأطير، والظهور، والتباهي، والتفاخر، وكسب الشهرة الدنية، والسمعة الجسدية العضوية، وسواها من اهتمامات طفولية صغيرة.

3- والأعجب من ذلك، أن الواحدَ منهم، كلما جاءَه مولودٌ له، أو لأولاده، وضع صورته، وتفاخرَ، واختال طرباً؛ بأن هذا هو الحفيدُ التاسع والتسعون، أو الحفيدُ المائة.. أو العددُ الذي وصل إليه…

وتجد قطيع الخاوين من طلب المعالي، والفارغين من الاهتمامات الراقية السامقة، يتزاحمون، ويتراكضون؛ ليباركوا له، ويضعوا له إشارة الاعجاب، لينتفش ريش هذا الإنسان، ويزهو مختالاً، فخوراً بشيء لم يصنعه بيده، وإنما جاءه هبةً من الله تعالى، ويصبح مسروراً، وسعيداً، ومغتبطاً، ويكون يوم عيد عنده.

وهنا يطرأ سؤال مهم جداً، ماذا يهم البشرية أن يصبح عند هذا الإنسان مائة حفيد يزيد أو ينقص قليلاً؟ ما الذي سيقدمه للبشرية من منافع وفوائد من وراء ذلك؟ وماذا يهم البشرية انشغالها بهذه الأخبار الخصوصية؟!

4- والأكثر عجباً أيضاً، أولئك الذين يتباهون بأولادهم، وبناتهم، كلما انتقلوا من صفٍ دراسي إلى صف آخر.. فيعرضون شهاداتهم على الملأ، وكأنهم أحرزوا نصراً كبيراً، لا يوازيه أي نصر..

5- وأعجب العجب، وأغرب الغرائب، في هذه الاهتمامات العصفورية الطفولية.. أن عدداً غير قليلٍ منهم، يدَّعي أن صفحته – سواءً على الفيسبوك أو التويتر – تتعرض لتبليغات، ويطلب من الناس، بشكل مهينٍ، وذليلٍ.. وفيه استجداءٌ، وتسولٌ؛ للحصول على إعجابات، وتعليقات كثيرة.. يزعم إفكاً، أنها ستدعم صفحته!

ويستهبل الناس، ويستخف بعقولهم، ومع ذلك فالدهماء، والغوغاء، يتجاوبون، ويتراكضون، ويتسابقون إلى وضع بصمتهم الذهبية، على صفحته.

مع العلم، أن الجميع يعلم، أن هذا الادعاء غير صحيح. وأنه لا يوجد شيء اسمه تبليغات، وأن صاحب الصفحة، حالما ينشر منشوراً مخالفاً لتعليمات الموقع.. فوراً، وحالاً، يتم منعه من النشر، لفترة زمنية معينة، بدون سابق إنذار، ولا إعلام، ولا إشعار، ولا ما يحزنون..

بل أحياناً تُلغى الصفحة كاملة – كما حصل مع الكاتب منذ عدة سنوات، وحصل مع غيرة – بل إن مواقع إخبارية قوية، ومرموقة، ومشهورة، تم حذفها من الشبكة نهائياً.

ويتساءل الإنسان العاقل، الحكيم، الأريب، الكريم ذو النفس الشامخة، والهمة العالية.. لماذا يلجأ بعض الناس إلى هذه السلوكيات المهينة، المُسِفَّة، وما الفائدة التي يحصل عليها؟!

وحتى ولو حصل على مليون إعجاب، وتعليق.. فإن هذه اهتمامات دونية، سفلية، لا تليق حتى بالعصافير؟!