11 أبريل، 2024 10:37 ص
Search
Close this search box.

انفصالية البصرة وكوابح الوطنية العراقية

Facebook
Twitter
LinkedIn

منذ  الغزو الامريكي للعراق عام 2003، صار يتزايد الحديث عنامكانية قيام اقليم شيعي في جنوب العراق او حتى نشوء دولة شيعيةمنفصلة، ويعتقد الكثيرون ولا سيما في الغرب، هناك رغبة جامحة لدىسكان جنوب العراق لخلق كيانهم السياسي الخاص. وكتابنا الذينحن بصدد مراجعته تناول لاول مرة، السجل التاريخي للانفصاليةومطالب اللامركزية في جنوب العراق. ويوضح، ان الانفصالية فيجنوب العراق كانت من الناحية التاريخية ظاهرة هامشية، وحينكشفت مطاليب الاستقلال في الجنوب عن نفسها، فقد كان ذلك علىاساس مدني وليس على اساس طائفي.

ويتوفر المثال الافضل عليها في حركة البصرة الانفصالية فيالعشرينات من القرن الماضي التي تزعمها تحالف واسع من النخبالحضرية، شمل السّنة والشيعة واليهود والمسيحيين، ودعا الى اقامةكيان سياسي منفصل من الفاو حتى القرنة الى الشمال من البصرة،على ان هذه الحركة الانفصالية اخفقت اخفاقاً ذريعاً ولم تكن هزيمتهانتيجة عنف او اضطهاد بل نتيجة انتشار افكار الوطنية العراقية بيننخبة شباب البصرة. ولهذا التراث التاريخي مضامينه بالنسبة الىالنقاش السياسي الحاضر، فهو في الحقيقة يكشف ان اهم اتجاهفي التاريخ الحديث لجنوب العراق، هو الوطنية العراقية وليس سواها،والتيار المهم الآخر في جنوب بغداد هو الاقليمية على نطاق صغيركالذي ظهر في الحركة الانفصالية في العشرينات، ومن ناحية اخرىفان الفكرة التي سادت منذ عام 2005، حول الانفصالية او الاستقلالالطائفي للشيعة من الخليج حتى بغداد لا تتطابق مع اية تجربةتاريخية.

حرص المؤلف ريدر فسر، على تناول تعقيدات الوضع السياسيالبصري بلغة حيادية، وهو الباحث العلمي الذي قدم المادة الاساسيةلمشروعه هذا ضمن بحث اكاديمي لشهادة الدكتوراه من جامعةاكسفورد. يهتم بالتاريخ والسياسة المقارنة، له الكثير من الكتابات حولتاريخ جنوب العراق وقضايا اللامركزية والفدرالية في العراق. ولايستطيع القارئ الا ان يثني على ما قام به المؤلف من جهد استثنائيفي مراجعة مواده ومصادره وفحص الاسس الفكرية التي تغذيهابنزاهة وحيادية مثلى تحسب له.

المؤلف في كتابه، ركز على هذا الفصل من تاريخ البصرة القريب منذاواخر العهد العثماني وبالتحديد عريضة البصرة الانفصالية التيرفعها نفر من وجهاء البصرة الى سلطات الانتداب البريطاني عام1921، متناولاً المواجهة التي حصلت بين الانفصاليين والوطنيينوبالتالي بالمفاهيم الثلاثة للعراق التي تكونت في ذلك العهد: المفهومالثقافي للعراق، والمفهوم الجغرافي، والمفهوم القانوني. وحين يحاولالكتاب اعادة ما قام به الوطنيون من خلط هذه المفاهيم ببعضها ولاسيما في الحركة الانفصالية ذات الطابع الشيعي عام 1927، يجد انعلماء الشيعة قد انقسموا الى معتكفين هجروا السياسة وترفعوا عنالخوض فيها، وحركيين تبنوها وانهمكوا في اهتماماتها..

ان الدعوة لانفصال الجنوب في العشرينات، لم تحظ بأي اهتمام منلدن المؤرخين الذين يكتبون عن العراق الحديث. ومع الاعتقاد بانالانفصالية في الجنوب تمثل تهديداً للوحدة العراقية، يكتسب هذاالالغاء دلالته. والحركة الانفصالية في البصرة هي المظهر التاريخيالوحيد في القرن العشرين تمثل مشروع انفصالي يتحدى هيمنةبغداد ويشكل حالة مثالية لدراسة كل من المطامع الاستقلالية المحلية،وكذلك القيود التي تعرضت لها فضلاً عن ذلك فهي تكون مثالاً تاريخياممتازاً للتركيز على بواعث الوطنية العراقية حين اصبحت القوىالمعارضة للانفصال تتحرك الى اقصى مدى خلال هذه الحادثة التيتمثل التحدي الجذري بالتحديد.

والمؤلف استخدم في كتابه هذا حركة البصرة الانفصالية فيالعشرينات لتفسير السبب الذي اختفت بموجبه الانفصالية الجنوبيةاختفاءً مبرماً من السياسة العراقية طوال بقية القرن العشرين، وكيفافلحت الوطنية العراقية في الحلول محلها. وتسأل المؤلف: ما اذا كانهذا الانتصار الواضح للقوى الوطنية يعتبر نهائياً؟

في الوقت الحاضر تجري في الجنوب اتجاهات سياسية جديدة مثيرةلها نظائر سطحية متعددة مع ما حدث في العشرينات، فهل تمثل هذهالميول الاقليمية الاخيرة احياءً فعلياً للدعوة الاصلية لبصرة ذات وضعيةسياسية خاصة؟

حين اعلنت الانفصالية في البصرة في العشرينات من القرن الماضي،فشلت فشلاً بائساً، اذ سادت الوطنية العراقية حتى حين كانت الدولةالعراقية في اوهن حالاتها في السنوات الحاسمة بعد سقوط الدولةالعثمانية في اثناء الحرب العالمية الاولى. ويقتنع الباحثون الغربيونفي العادة بان الشيعة جميعا من البصرة الى بغداد، يريدون دولةفيدرالية خاصة بهم. ويخشى زعماء عرب كثيرون من احتمالات وجودهلال شيعي يمكن ان يهب لطهران السيطرة على مصادر النفطالواسعة في البصرة كنوع من الدولة الشيعية الكبرى التي تهيمن علىمنطقة الخليج باسرها.

ومثلما كان الحال في العشرينات، تحظى الافكار الاستقلالية اليومفي الجنوب باهتمام كبير من لدن الغرباء الخارجيين، لكن الاشاراتتدل على ان شعبيتها لدى سكان المنطقة قد تكون اكثر محدودية فيالغالب هناك امكانية متميزة بانها ستكون اصداء للقوى الوطنيةالعراقية التي هزمت انفصالية البصرة في العشرينات سلمياً ودون انتكون لديها ثروة من الموارد المادية.

لقد انحصرت الانفصاليات الفاشلة حين تعرضت لكراهية المستعمرينوالوطنيين على السواء، بهوامش كتابة التاريخ، وكثيراً ما توصفمشاريع من هذا النوع في الروايات التاريخية بانها مجرد ضجيجاجوف، اي رؤى يوتوبية لا تتحقق توقف المسيرة المتواصلة نحو مشروعبناء امة اكبر. ويمكن العثور على مثل هذه الميول الفكرية حتى فياعمال كتّاب لا تربطهم صلة نهائيا بالنماذج الوطنية المعينة.

كثيراً ما توقع بعض الباحثين ان يتحرر جنوب العراق من سلطة بغداد،وبنى بعضهم اراءهم على اساس عوامل تاريخية واصفين العراق بانهاختلاف حديث وهش ومصطنع، وهو مجرد خليط موروث عن الولاياتالعثمانية السابقة التي تجمعت اعتباطاً بعد الحرب العالمية الاولى،وافترض آخرون ببساطة ان التعايش بين الشيعة في الجنوب والسّنةفي الوسط في دولة واحدة امر مستحيل، وان المطامح الشيعيةالانفصالية هي سمة كامنة متواترة في السياسة العراقية.

ان فحص فكرة العراق كتكوين حديث تعتبر اليوم واجباً ضرورياً مادام البرهان على اصطناعية البلاد نادراً ما يستدعي للمساءلة وماان يترسخ مفهوم الاصطناع حتى تظهر في الغالب الاستنتاجاتالمتعلقة بالنزعات الانفصالية المتوسطة لدى الشيعة في الجنوب دوناية مناقشة متأتية.. ويعِّير حتى مؤلفو بعض احداث التأويلات واكثرهاتوازناً للتاريخ العراقي عن درجة الارتياب في الايحاء بان هناك هويةعراقية يمكن ان يعود تاريخها الى ما قبل الاحتلال البريطاني عام1914.

ان اغلب الدراسات التي تهتم نقدياً بهوية الاراضي في عراق القرنالعشرين، لا تضفي على البصرة سوى وجود شبحي. وغالباً ما يسلمالكتّاب الذين ينطلقون من موقف بنائي خصوصية البصرة عائدينللنموذج التبسطي ولكن غير الصحيح تماماً عن بصرة شيعية وبغدادسنية وموصل كردية، واحيانا يحدسون وجود خصومات اقليميةمحصنة فقط على اساس هذه الاداة التحليلية.

والحقيقة، ان ولاية بغداد العثمانية كانت تضم اربع مدن مقدسة شيعيةبالاضافة الى اكثر العشائر في منطقة الفرات الاوسط مما يتركالفكرة القائلة بان البصرة هي المعقل الرئيس للتشيع في هذه الفترة،فكرة يتعذر الدفاع عنها تماماً. ومن ناحية اخرى تغيب الحركةالانفصالية التي تجسدت في البصرة عام 1921، غياباً ملحوظاً عنهذه التحليلات، والحقيقة انها تركته ولم يشعر بها ابداً الكتّاب ذووالنزعات الوطنية والبنائية ونزعات المراجعات على السواء.

واذا سلمنا بالتوتر بين مختلف التأويلات لظهور العراق باعتبارهمفهوماً عن الهوية الوطنية، فان اهمال حركة سياسية محلية اصيلةذات برنامج مضاد للعراق يمثل ثغرة تاريخية حقيقية بالذات، لان هذهالحركة بقيت معادية للوحدة مع بغداد طوال العشرينات لتنهار فجأةوتختفي دون ان يلاحظها احد. وبهذا المعنى تلقي النزعة الانفصاليةلدى البصرة من خلال قصة انحطاطها ضوءاً على واحد من اهمانجازات الوطنية العراقية ادهاشاً.

ظهرت اول بوادر الحركة الانفصالية البصراوية خلال اجتماع بينبرسي كوكس واثنين من كبار التجار من ملاك الاراضي في المدينةهما احمد الصانع وعبد اللطيف المنديل في 7/ نيسان/ 1921. وقدطالب البصراويان في المقابلة بأدارة منفصلة للبصرة تحت الحكمالبريطاني المباشر، وزعما ان البصرة مدينة تجارية ذات مصالحتختلف عن مصالح بغداد. وقد اعربا عن مخاوفهما بأن يكون حكمبغداد بلوى اسواء من بلوى النظام العثماني. وفي الوقت نفسه بدأتتصل شبكة الاستخبارات البريطانية شائعات، بان عريضة قيدالاعداد تطالب بانهاء النفوذ العربي في الادارة المحلية واعادة تأسيسنظام بريطاني خالص يمتد من الفاو الى القرنة.

وفي ايار رفع عبد اللطيف المنديل واحمد الصانع عريضة للمندوبالسامي يطلبان فيها الحكم البريطاني مساعدتهم في تنفيذ هذاالمشروع. وقد اقر المسؤولون البريطانيون رسمياً بوجود حركة انفصاليةبينما في الوقت نفسه اوعزوا فيه للصحف المحلية ان تعيد نشر خطبةمناصرة لفيصل القاها تشرشل في مجلس النواب مندداً فيهابالمخططات التي تتحدى رؤية المملكة المتحدة، وقد ورد فيها ذكرالبصرة بالتحديد.

وفي 20/ حزيران قدم العريضة رسمياً الى المندوب السامي وفد يتكونمن ستة اشخاص سافروا الى بغداد من البصرة. كانت العريضةتنطوي على عنصرين:

الاول: تقديم الحجج لدعم دعوة البصرة في المعاملة الخاصة وتشملهذه الحجج المناخ المؤيد للبريطانيين في البصرة منذ الاحتلال عام1914، وعدم وجود اخلال بالامن في المنطقة خلال ثورة 1920 والموقعالخاص للبصرة كميناء دولي منفتح ذي طبيعة تجارية قوية، والاعتقادبان تقدم البصرة سيكون مخالفاً في نوعه وسرعته لتقدم العراق. وكانت هذه الاحوال تعني ان اهالي البصرة يجب النظر اليهم بوصفهمفئة الاقلية بين سكان المناطق الخاضعة للسيطرة البريطانية ولا توجداية اشارات الى اي تراث تاريخي او ديني او عرقي بمعزل عن وضعالبصرة كمنطقة منفتحة عالمياً.

ثانياً: قدمت العريضة مخططاً لاستقلال سياسي منفصل للبصرة،ويعتمد هذا في الجوهر على صيغة اتحادية حيث توضع ولايتا العراقوالبصرة المتحدتان تحت الوصاية البريطانية ويحكمها امير عربي اواي حاكم ينتخبه اهالي العراق وفق اجراءات لم يرد لها تحديد. على انالجزء الاكبر من العريضة كان يهتم بقضايا الحكومة التي يجبفصلها عن السلطة الاتحادية وتفويضها بدلاً من ذلك الى الحكومةالمحلية: تسمية حاكم محلي يعينه حاكم الولايتين المتحدتين من بينثلاثة افراد ينتخبهم مجلس البصرة وقضايا الدفاع والامن الداخليحيث للبصرة جيشها الخاص وقوة من رجال الشرطة خاصة بها،وكذلك قضايا التشريع ونظام الضرائب، فللبصرة مجلس تشريعيمنفصل يسيطر على المداخل المحلية. ويجب حصر الوظائف الحكوميةالمسندة للسلطات الاتحادية بالانظمة المشتركة للبريد والبرق والنقودوالمقاييس والاوزان وسكك الحديد وطرق الملاحة الداخلية والخدمةالدبلوماسية في الخارج ومسؤوليات الاشتراك في دفع الغاراتالخارجية والدفاع عن البلد، ولم تتضمن العريضة اية مطالبة بوضعيةخاصة للغة العربية ولا الدور العربي في الادارة كما لم يتم تعيينصدور الدويلة المقترحة للبصرة برغم ان المنطقة الممتدة من الفاو الىالقرنة حصراً كانت تفهم باعتبارها المنطقة المستهدفة بالحكم الخاص.

كان نظام الحكومة المقترح يؤكد على الانفصال بين العراق والبصرةاكثر من تأكيده على وحدتهما، وقد ذهب باتجاه اللامركزية الجذريةاكثر من مخطط الحكومة المحلية الذي كان يتطلع اليه بعض البصريينقبل الحرب الاولى.

ان غالبية كبار اهالي البصرة كانوا ينحازون للعريضة، وصارت توصف الحركة الانفصالية باستمرار، بانها التيار السياسي المحليالاكثر شعبية ولم يستطع المستشار البريطاني للبصرة ان يذكرسوى شخصيتين اثنتين فقط لم يوقعا على الوثيقة التي تدعوللانفصال، وقد اخبر برسي كوكس لندن، انه برغم وجود عريضة مقابلةتحمل 1500 توقيع فان جميع الافراد ممن لهم وزن من الناحية العمليةيقفون الى جانب الانفصاليين. واعتقدت المس بيل ان العريضة تحظىبدعم التجار والملاك المتنفذين عملياً وبعد سنة واحدة من تقديممطاليب البصرة نشرت الصحافة الوطنية في بغداد عدة مقالات تناولتالظروف المحيطة بالمشروع ووصفت العريضة بانها في جوهرها مجردعملية احتيال اذ لم يعرف الغرض الحقيقي من هدف الانفصال سوىسبعة اشخاص ولم يكن على دراية بمحتوياتها الدقيقة سوى اثنينفقط، وينحدر هؤلاء الرجال السبعة من النخبة التقليدية للمدينة. امااهل المدينة الاميون فقد خدعوا او اجبروا على توقيع العريضة وقدوصفت بالمقابل خصوم المشروع بانهم احرار المدينة اي مفكروهاالاحرار.

ان حركة خلق كيان سياسي منفصل في البصرة اخفقت لان الاحتمالالذي وجد لم يشتغل فلم يكن الفشل بسبب الافتقار الى الموارد المادية،لان داعمي المشروع كانوا ينتمون الى جماعات اجتماعية مهيمنة فيالبصرة فرضوا سيطرتهم على التجارة المزدهرة للمدينة، وكذلك علىالاراضي الزراعية التي امتازت بانتاجيتها الزراعية العالية، وكذلك لميأت الفشل نتيجة قمع مارسه بريطانيون عليهم. وبرغم ان كبار صناعالقرار السياسي البريطاني كانوا يضمرون العداء لرؤى انفصاليالبصرة، فان معارضتهم للمشروع كانت تلطفها معرفتهم بالموقفالداعم لبريطانيا وراءه وكثيراً ما وضعت كبار الشخصيات في الادارةالبريطانية في العراق وفي لندن ايضاً نصب اعينها امكانية انسحاببريطاني محتمل الى رأس الخليج العربي حتى بعد ان تلاشت الحركةالانفصالية وكذلك لم يتحطم مخطط الانفصال على يد النظام العراقيالجديد الذي اقامته بريطانيا على العكس من ذلك اتخذ هذا النظامموقفاً سلبياً جداً في مواجهة المشهد السياسي المحلي في البصرةفي اثناء النصف الاول من العشرينات واستمرت هيمنة المحرضينالذين كانوا يدعمون المطاليب الانفصالية لبعض الوقت.

بل يكمن السبب الرئيس للفشل الانفصالي في الخيارات الاستراتيجيةالتي تبنتها النخبة الاجتماعية وراء المشروع. فبعد ان خاضوا حركتهممن منطلق مديني منفتح عالمياً وعلماني بعريضة تطالب بنظامسياسي خاص ركن الزعماء الانفصاليون الى السلبية. فلم يطوروااحلامهم في المخطط لكي تتوافق مع التدابير الفعلية للسياسة العمليةاخفقوا في ان يثيروا الحماس الشعبي لتصورهم عن المستقبل المثاليللبصرة، ولم يفعلوا شيئاً يذكر لتوسيع التحالف وراء المخطط.

وكنتيجة لهذه السلبية تمكن المدافعون عن الرؤى المنافسة من فرضسيطرتهم على المسرح السياسي. وكانت الطاقة السياسية للسكانالمحليين تصب بالنتيجة في عدة اتجاهات مختلفة: حاولت بعضالجماعات ان تقيم اطراً محلية اضيق بتقسيم منطقة البصرة نفسهاالى اقسام اخرى، وبحث اخرون عن انصار في اماكن اخرى فيالمنطقة بما فيها طهران والرياض والمدن المقدسة عند الشيعة ولا سيمافي النجف وكربلاء، بينما اكدت فئة ثالثة ممن تحدوهم على الروابطمع العاصمة العراقية الجديدة في بغداد. ولكن لم ير اي من هذهالمشاريع في مدينة الميناء ومنطقتيها الخلفية المباشرة نقطة مثاليةللتركيز على جماعة سياسية. وهكذا تهشمت النظرات السياسيةللاقطاب الاقوياء الذين يدعمون الرؤية الانفصالية بالتدريج برغمالعوامل المادية التي تعمل لصالحهم.

ولم ينبثق المشروع الانفصالي الشيعي الطائفي الخالص في الجنوبحتى عام 1927، وسرعان ما اثبتت انه لا يقل عدم فاعليته عن حركةالحكم الذاتي التي تأطرت بالفاظ مدنية منفتحة كوزوموبوليتية ولكنلاسباب مختلفة. ولم يتردد الزعماء الشيعة في نقل افكارهم الىالميدان العام وتمكنوا من دعم مطاليبهم برمزية قوية. لكن مشكلتهمكانت كانت تكمن في موقفهم كنخبة داخل الطائفة الشيعية.

بالتأكيد كانوا شباباً واصحاب افكار ابداعية غير ان موقعهم فيالتراتب الشيعي المدرسي كان متواضعاً في الاغلب. فهيمنت مثل عليااخرى اكثر رسوخا في النظام لان نزعة الاعتكاف عن السياسةوالنزعة المعارضة للطائفية اللتين مارسهما كبار العلماء كانتا قد غلبتاعلى التقاليد السائدة في الفكر السياسي الشيعي، ولم يكن فيهاتين النزعتين خزين فكري يمكن ان تستمد منه وتبني عليهالانفصاليات الطائفية، ولذلك سرعان ما انقلبت الحركة السياسيةالشيعية في فترة الحرب الى برنامج غير اقليمي تاركة للآخرين انيحددوا الاطار الجغرافي للسياسة المحلية.

وبالنتيجة كان الوطنيون العراقيون اكثر منافسي انفصالية البصرةفاعلية. ولم يكن تحقيق هذه البروز في المواقف قدراً محتوماً، فقد كانتالبصرة قبل الحرب العالمية الاولى محوراً يربط الهند وجزيرة العربوفارس بالمقاطعات العثمانية الداخلية وتضم شبكة مواطنيها سكاناًمن جميع هذه المناطق. وكانت الروابط المناطقية بالمحمرة والكويت لاتقل قوة عن الروابط ببغداد في ذلك الوقت. ومن ناحية اخرى فان الزعمالمتكرر بان العراق لم يكن يوجد على الاطلاق في الازمنة العثمانيةالاخيرة مما لا يمكن الدفاع عنه ايضاً، لانه كان يوجد فعلاً على الاقلفي اذهان بعض البصريين الذين فهموا منه المنطقة التي تمتد منالخليج حتى الحدود الشمالية لولاية بغداد العثمانية.

لقد تمكن هذا الجيل الجديد من المثقفين الذين يصدرون عن خلفية منالطبقة الوسطى او الدنيا في الاغلب من فرض رؤيتهم حول الاراضيالعراقية في البصرة في سنوات الانتداب الانتقالية الحاسمة. واذ كانوامعروفين بتنبؤ سلم المناصب الادارية في مناطق شمال المدينةالخليجية، فقد بذلوا وسعهم في العشرينات لترقية جماعة سياسيةاكبر تتناغم مع منطقة نشاطهم الجغرافية في اثناء الحقبة العثمانيةرابطين البصرة ببغداد وما وراءها من المناطق. وقد تمت تصفية مفهومالعراق الموحد بالتدريج من خلال الصفوف الدراسية والصحفوفعاليات التنظيمات الطوعية وفي المبادئ الاولى للجمعيات السياسية. وكان الاثر التراكمي لهذه الجهود في الميدان العام الذي ساعدت عليهعطالة الانفصاليين مساعدة كبيرة من الفخامة بحيث ان اغلب البدائلالمناطقية حين استقل العراق عام 1932 كان قد تم ركنها على الجانبفي الاجزاء الجنوبية من البلاد، وكان هذا انجازاً ملحوظاً لكونالنقاش ظل ذا طبيعة مفتوحة النهاية لمدة عقد وعلى الرغم من الوسائلالاقتصادية المحدودة التي توفرت تحت تصرف الوطنيين العراقيينالشباب. والموضع الذي تمكنوا فيه من كسر شوكة وجهاء البصرةالاثرياء واقنعوا علماء الشيعة فيما بعد في الوقوف الى جانبهم هوالميدان العملي لبناء وطنيات جديدة . ولقد كان على انتصارهم انيمارس اثراً باقياً في السياسة العراقية دام بقية القرن العشرين ومازال يمارس فعله حتى اليوم اذ شرع العراقيون ببناء نظام ديمقراطيجديد للمستقبل.

ان المبادرات الانفصالية الفاشلة جم غفير في التاريخ الدولي للقرنالعشرين. وقد تمكن عدد كبير من هذه الحركات الانشقاقية المجهضةمن البقاء بعد انطفائها كمعارضة سرية او في المنفى ترعاها بعضالقوى الاقليمية التي تجدها مقيدة لها او في المدن الكبرى البعيدةالتي تتقبل افكارها وعادت كثير من الانفصاليات الهاجعة الى الحياةخلال التسعينات حين سهلت وسائل الاتصال الحديثة من ايصالوجهات نظر الاقليات.

اما الجماعات الفرعية الاصغر ذات النزعات الانفصالية الفاشلة فهيالمخططات التي اختفت اختفاءاً كاملاً عن سياسة الدولة التي توجهتضدها ولم تبدر عنها اية مبادرة انبعاث حتى خلال مراحل الاضطرابالشعبي الجذري، في مثل هذه الحالات تنطفئ شعلات الانفصاليةالتي غالباً ما ينظر لها كسلاح كلي القدرة في ايدي نخب اجتماعيةمستعدة لاستغلالها دون ان تترك حتى ولا جذوة خابية. وقد لا يتمالقضاء على نظرات الوجود السياسي المنفصل لكنها بالتأكيد تمسحمن الميدان العام. والجوانب المثيرة في مثل هذه الامثلة هي اولاً مايمكن ان توضحه عن القيود والعوائق التي تواجه النخب التي تسعىالى اعادة رسم المشهد السياسي في دعوة لتثبيت حدود وهوياتجديدة وثانيا البصائر التي تقدمها حول قضية الكيفية التي تحرز بهاالانتصار المتنافسون من حملة الايديولوجيات التي تشير الى مدياتوطنية اكبر وهو انتصار غالباً ما يصل الى حد التأسيس لاحتكارحقيقي.

ان مظاهر التيار الانفصالي في الجنوب كانت ذات نتائج ضعيفةوقياساً بالمناطق الشمالية من العراق حيث تكرر ظهور الانفصالية اواطلاق الدعوات القائلة بنموذج دولة اقل مركزية على الشائعات غيرالمؤكدة وهو نموذج استمر منذ استقلال العراق عام 1932 حتى سقوطنظام البعث عام 2003، وبرغم عقود من الضغط السياسي المتطرف لمتتبلور مشاريع محددة للانفصال الاقليمي ولم يتجسد مخطط مثل هذااثناء السنوات الثمان الطويلة مع ايران، وكانت الانتفاضة ضد النظامبعد حرب الخليج الثانية عام 1991 كهدف الى السيطرة الشاملة علىالدولة العراقية باسرها وليس عزل الجنوب وخلال الاعداد لحرب العراقعام 2003 برز شيعة الجنوب على انهم من بين اكثر النقاد حتىلمشروع محدود لاستقلالية مناطقهم بصورة اجراءات فدرالية. صحيحان نظام البعث كان يستخدم الانفصالية في الجنوب شعاراً لتبريرسياساته القمعية في المنطقة وبين الحين والاخر كان الغربيون يدعونلتدخل اجنبي لتقسيم العراق معتقدين ان التوتر السياسي يمكن انيقل ببتر الجنوب والشمال عن بغداد لكن سكان المنطقة انفسهم لميظهروا اهتماماً يذكر بمثل هذه المشاريع.

المؤلف، حين بدأ بدراسة تاريخ انفصالية البصرة توقع انه سيكونمحاولة لخلق دولة شيعية منعزلة. ولكن ما كان ابعده عن ذلك وسرعانما ظهر ان حركة انفصال البصرة في فترة الانتداب البريطاني كانيقودها تحالف اقليمي متعدد الطوائف وكانت تهدف الى اقامة دولةخليجية صغيرة وليس الى دولة شيعية تمتد من البصرة الى بغداد. وحين تجسدت في عام 1927 حركة انفصال شيعية اصيلة لاول وآخرمرة في التاريخ العراقي كانت من الناحية العملية محدودة بمجموعةصغيرة من السياسيين في بغداد والنجف واختفت هي ايضاً فيغضون سنة من ظهورها.. وشهدت اتجاهات مماثلة منذ عام 2003،فلقد كانت المبادرة الفدرالية جنوب بغداد اقليمية لا طائفية وارادت خلقوحدة فدرالية على نطاق صغير محدودة باقصى الجنوب بالبصرةنفسها وربما محافظة او اثنين من المحافظات المجاورة لها. ولم يخصاحد في مخطط فدرالي طائفي الا مؤخراً في اب/ 2005 وفي بواكيرعام 2007، ما زال هذا المشروع يكافح لكي يصير ذا فاعلية خارجقاعدة دعمه الاساسي في النجف وبغداد.

ولكون جهد البصرة الانفصالي في العشرينات شهد الفشل والاخفاقفان تاريخها يجب ان يقدم الكثير من العبر لاقليميَّ الجنوب العراقياليوم وبالتحديد هناك معرفة متبصرة بحاجة البصرة الى نقل تميزهاودعاواها الخاصة الى المجتمع العراقي الاكبر. وتبرز الحاجة الىالتمثيل والحوار والحلول المؤسساتية التي تستطيع ان تبدد المخاوفعلى كلا الجانبين كأولوية اولى، اذ لفترة طويلة ظل الوطنيون العراقيونالمتحمسون يخشون تاريخ حركة انفصال البصرة واليوم بعد 9/ نيسان/ 2003 يستطيع هذا التاريخ ان يسهم في تطوير العلاقاتالطيبة بين البصرة وبغداد والنجف وبقية انحاء العراق في اطارعراقي موحد.

* الكتاب:

البصرة  وحلم الجمهورية الخليجية، حدود الانفصالية الجنوبية ومنابعالوطنية العراقية، تأليفريدر فسر، ترجمةسعيد الغانمي، ط1، دارالجمل، كولونيا (المانيا)/ بغداد، 2008، 444 صفحة.

[email protected]

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب