وطبعاً هذا الامر يفترض وجود استثناءات وكفايات صوتية مهمة، وهذا الواقع يعني ان الاغنية فقدت كثيراً من قيمتها الشعرية والموسيقية والصوتية وبالتالي قوة تأثيرها في خلق اغنية عراقية تختلف من حيث المستوى الفني والصوتي عن الاغنية العراقية التي انطلقت نموذجاً غنائياً وموسيقياً منذ مطلع الخمسينات وخلال عقد الستينات.
ان الاغنية لها دور كبير وخطير، فهي تتسلل الى الجميع ويرددها الكبير والصغير، لذا لابد من مراعاة مستوى الكلام الذي يؤدى في هذه الاغاني.
ان الاغنية العراقية لم تصل الى مستوى من الانحطاطية في وقت سابق مقارنة بوضعها الحالي. فهي ركيكة الكلمات، سمجة، ذات تعابير فجة يندى لها الجبين، تختلق المواضيع الضحلة المتصلة بالعواطف والعشق والغزل الفاضح والجنس الدنيء. واذا كانت هناك مركبات نقص يعاني منها الانسان العراقي، فهي اكثر وضوحاً في هذه الاغنيات التي تتداولها العامة والخاصة بشكل خطير بعيداً عن عيون الرقابة او قل انها تمثل دور الذي لا يسمع ولا يرى تحت اعتبار دع المواهب تبرز الى النور، وتضج وسائط السمعيات والمرئيات.. باغنيات تخدش الحياء العام وتعطل كل ملكات الشعور والوجدان الفني، وتصبح ذائقة المتلقي كمكب للقمامة يستقبل النفايات من مختلف الجهات.
ونتيجة للدور الخطير الذي تلعبه الاغنية في مفاصل حياتنا الاجتماعية، ودخولها الى بيوتنا ومدارسنا ومسامعنا.. بغير استئذان، حيث يجد المرء نفسه مضطراً لسماع الجيد والرديء منها رغماً عن انفه، كان لزاماً ان يوضع حد على هذا النوع الهابط ومحاولة التقليل من خطورته باكثر من طريقة واسلوب، فليس هناك اشنع من ان نتلاعب بأذواق الناس ونسيرها حسب مصلحة البعض الذي يلهث وراء الكسب ولا يشبع، فيجب ان توضع شروط صارمة للحد من انتشار الكلمة الهابطة.
الاغنية، عبارة عن مثلث موسيقي، اضلاعه الكلمة، واللحن والصوت. والكلمة، وهي اصل الاغنية، فهي العنصر الاول الذي يوجه، سواء كانت اغنية وطنية ام وجدانية، هي التي يكون لها التوجيه والاهتمام الاول التي على قياسها يترتب اللحن، قوة اللحن من قوة الكلمة، وضعف اللحن من ضعف الكلمة.
فاذا كانت الكلمات رديئة نجد ان الملحن ايضاً ينزل من تلحينه الى هذه الرداءة، وهذا ما تعاني منه الاغنية العراقية، رداءة الكلمة التي دفعت بالذوق العام ان يستنجد بمن في يده المسؤولية، ان ينتقده من الاسفاف والكلام الركيك المعبر عن الحب المريض.. ما هذا الانحدار والهبوط الذي تسعى اليه حثيثة الخطى. انها لم تكن في يوم من الايام بهذه الضحالة والاسفاف.
اننا ندين شعراءنا وملحنينا المبدعين، فهم الذين تركوا الساحة لتصول وتجول فيها الاغاني التي لها اصوات دون كلمات، هذه الاغاني التي امتلئت اصواتها بما يوحي بالتفاهة التي تغيظ. حتى الاغنية الوطنية اصابها ما اصاب الاغنية الوجدانية. هي الاغنية التي من المفروض ان تكون نابعة من اعماق الاحساس بالوطنية والانتماء للوطن، اما ما نسمعه هذه الايام فهو كلام يقصد منه الابتزاز فقط على حساب الوطنية والولاء للوطن.
كم كان صائباً ذلك الحكيم الصيني حين قال “اذا فسدت الكلمة شاع الفساد في الامة”. فبقدر ما تكون الكلمة صادقة الاحساس بعيدة عن الترهل والتفاهة والمعاني الرخيصة، تستطيع ان تؤثر بشكل ايجابي على متلقيها سواء تطرقت للمشاكل العاطفية او الاجتماعية او الوطنية، فهي قادرة على بعث روح التفاؤل بين قلوب المحبين بعيداً عن التباكي والحسرة والضياع والندم والخنوع والانكسار حسب الموجة التي تغرق الاسواق في هذه الايام.
هل نحن مجتمع محكوم علينا ان نتشرد ونضيع حتى في اغانينا الوجدانية؟ الا يكفي ما نواجهه من ويلات ومصائب.. ان الفنان الكاتب يجب ان يعي الدور الذي يعيشه ومن ثم محاولة الاسهام في تغييره بالنقد والتوجيه وليست مشاكلنا كلها غارقة في الغرام والهيام. والجمال ليس فقط في مفاتن المرأة، فعلى الكاتب يجب ان يعي الدور الذي يعيشه ومن ثم محاولة الاسهام في تغييره بالنقد والتوجيه . على الكاتب ان يفتش عن الكلمة المناسبة، لا ان يصبح آلة استنساخ يعيد ويكرر كلمات عفى عليها الزمن لكن المشكلة تكمن في مدى تقبل هؤلاء الكتبة لما يقال ويردد حول انحدار مستوى الاغنية، فاذا سألت احدهم اجابك، اننا نكتب عما يعانيه المجتمع، تصوروا مجتمعاً بكامل فئاته وافراده يُسخر كل وعيه وطاقاته ليستمع فقط لمشكلة عاشقين فقدا روح الالفة والمودة.
الا يدعونا ذلك لنقول بأن المشكلة لا تكمن فيما يغنى بل في كاتب الاغنية نفسه، فقد يكون انساناً معقداً او فاشلاً في علاقته العاطفية او محطماً نفسياً فيحاول ان ينقل هذه الاخفاقات الى غيره من البشر عن طريق الاغنية. فبقدر ما توضح كلمات اغانيه من انعدام للرجولة والكرامة فهي تحمل اجابة صريحة لما يعانيه انسان هذا المجتمع من الضياع والذل والتفاهة والتحقير للنفس خاصة حينما يرددها كثير من الناس وتصبح اغنيتهم المفضلة.
وتهبط الكلمات الى مستوى الاسفاف حينما نسمع:
كتله احبج، غمتني
وتعجب بل ونصاب بشيء من الذهول حين نسمع بأن احدى (المؤديات) في مقابلة متلفزة لها تصرح بأن اكثر اغنياتها انتشاراً وشهرة اغنية حازت على اعجاب الشباب حيث يرددون كلماتها ويحفظونها عن ظهر قلب ويؤدون حركاتها ايضاً. وتقول الكلمات:
يبوووه، يبوووه، شد الهوى حبلي
يبوووه، يبوووه، عسى الله يفرجلي
اما مواضيع الحب المطروحة في الاغنيات والتي تشكل الجانب الرئيسي فيها فلا تعدو ان تكون في مستوى المغازلات المكشوفة يسيطر عليها الحب من اول نظرة. ويشيع فيها الحزن والندم لعد ماستطاعة المحبين ان يجهرا بعلاقتهما للآخرين نتيجة للقيود والاعراف والتقاليد الموروثة. وبدل ان يقاوم المحب ويذلل الصعاب محاولاً اقناع الآخرين بصدق وشرعية علاقته، يصب اللوم على نفسه محقراً اياها ومتهماً نفسه بشتى انواع التهم لكي يقنع ذاته بالوضع التعس الذي رسمه لحياته.. ومن جانب آخر يشن حرباً شعواء على الحبيبة واصفاً اياها بمختلف الاوصاف والنعوت، فهو يتهمها بالمكر والخديعة والخيانة والغدر ونكران الجميل واللعب بالعواطف.. وبذلك يفرغ كل مكنوناته الذاتية وعجزه في المرأة، حتى لو لم يكن قد مر كاتب الاغنية بتجربة عاطفية مع امرأة الا ان هناك شعوراً سائداً وعداء دائماً للمرأة، فهي حبيبة وامرأة تنحو اتجاه الكلمات التالية:
حسافة بيك الحب
وحسافة الصرف الي صرفتة عليك
ألسنا مطالبين اليوم للوقوف بشكل حازم ضد هذه الترهات؟ واذا لم يستطع كتّاب الاغنية ان يفعلوا ذلك، فعليهم ان يفسحوا الطريق لشيء افضل نسبياً ولا يتصوروا انفسهم عباقرة الفن، فالفن لم يقم الا بهدف تهذيب الذوق والاخلاق، ونحن في حاجة لتذوق الاغنيات، لكننا لسنا مستعدين ان نكون بلا اخلاق.
الاغنية العراقية اليوم تعاني في خضم ما تعاني ازمة كلمة، علما ان عدد شعراء الاغنية في ازدياد مطرد وازدهار مستمر لاعتبارات اجتماعية وثقافية .. مما يعكس فوضى واسفافاً في مستوى هذه الاغنية التي تختصر على كل الصُعد في:
ان، اي فضائية تحترم جمهورها يجب عليها اخضاع اي اغنية جديدة للجان مراقبة وتقييم كلمة وصوتاً ولحناً فتسقطها اذا كانت رديئة وتتبناها اذا كانت جيدة. اما اليوم فالحبل متروك على غاربه والفوضى ضاربة اطنابها مدى ارضنا ومدى ثقافتنا.
انا اتمنى ان تطرح هذه القضية وبالحاح على كل المستويات الاعلامية الخاصة والرسمية لتسليط الضوء على خطورتها، وانادِ بالحاح على حلول لها وألا فسنصل الى زمن لا يعود ينفع معه اي التفات الى ماض واي تطلع الى مستقبل.