مرت الإنتخابات ، بكل فواجعها وأوهامها ، رعب ودماء ، فوضى وسوء إدارة ، أصوات تُشترى ، وناخبون لايحسنون الإختيار، مرشحون مفروضون من قوائمهم التي لا تفكر إلا بالعوائد المادية التي ستنهال عليها بعد الفوز بالكراسي الوثيرة استعدادا للسيرك الكبير الذي سيقام بعد عام ، اقبال ضعيف ، وتوقعات أن حجوم المتغانمين على السلطة لن تتغير كثيرا. انفض السامر وعدنا إلى حيث كنا.
خبراء الإنتخابات يقولون (ان التحضير للإنتخابات يبدأ من اليوم الثاني لنهاية الإنتخابات) إدارة الحملة الإنتخابية أعقد من فتح دكان انتخابي قبل شهر من بدء الإنتخابات ، وجمع عشوائي لأشخاص من الأميين ، عاطلون فكريا ، معوقون اجتماعيا، …….
بينما ألف باء النجاح تقتضي البدء بإعداد فريق متنوع مؤمن بالديمقراطية فلسفة قبل أن تكون إجراءات تختزل بصندوق انتخابي . وبعدها سيكون كل شيء يسير بعد تجاوز هذه المعضلة الفكرية .
فالذهاب إلى الإنتخابات قبل إجراء (صيانة فكرية) جهود ضائعة ، وأموال مهدورة ، وحسرات لا تنتهي ، وتجربة موجعة ، لأن (الصيانة الفكرية) تعني الجاهزية لإعادة النظر بالقناعات المريحة وفحص المُدخلات الفكرية وتنظيم الخارطة المعرفية وتكوين ملكة النقد الحر ، والإطلاع على شتى أنواع الدراسات والإستفادة من الخبرات المتراكمة في التعامل مع العراقي المقهور المحبط .
الصيانة الفكرية تُؤشر على نقاط القوة والفرص المتاحة من أجل اعادة اكتشاف الشخصية العراقية البناءة المتفائلة بعد أن كانت ولعقود طويلة (حلفائية) كما يصفها علي الوردي ، ويعني أنها سريعة الغضب والرضا ، تشتعل كعود الحلفاء بسرعة ثم لاتلبث أن تنطفىء ، هذه الشخصية التي تجمع بين مظاهر البداوة وقشور الحضارة ، تعاني من ازدواجية راسخة في شخصية ادعائية تجمع بين التناقضات في أقوالها الفارغة وأفعالها البعيدة كل البعد عن ماتدعيه من فضائل ومناقب و…..
هذا التشخيص الموغل في الدقة والعمق لايزال المختبر العراقي الإجتماعي يؤيد مخرجاته ، ولاسيما بعد الكواراث المتلاحقة في الخمسين سنة الأخيرة ، والتي لازالت تفغر فاها مسرعة نحو الجحيم ، إلا أن نتدارك المجتمع المشلول بمصل العافية الفكرية.
هذا التشخيص يأتي من أجل ابتكار الأفكار الحضارية لاجلدا للذات ، تحتاج الشخصية العراقية في مرحلة مابعد الإنتخابات إلى رحيق فكري وغذاء معرفي عبر آليات مناسبة تسهم برفع المناسيب الفكرية.
الصيانة الفكرية ليست أقوالا نظرية أو عبارات انشائية ، انها مشروع صناعة العراقيين من جديد ، معلوماتيا ، معرفيا ، فكريا ، حضاريا ، وبعبارة أخرى مايجب على كل عراقي أن يدركه من أفكار ورؤى وتصورات ، أو هو محو الأمية الفكرية والمساهمة الجادة في صناعة فضاء فكري تتهامس فيه النظريات وتتخايل بإغراء من أجل حاضر بهي وغد مشرق.
الصيانة الفكرية تتضمن تعليم وتدريب في مراكز ومؤسسات تنموية تُلهم الفاعلية وتُغير القناعات وتُكسب المهارات ، ومنها دورة في ( البرمجة اللغوية العصبية ) فهي الحد الأدنى لحسن ادارة الذات ومعرفة الواقع على نحو أعمق.
الصيانة الفكرية صُحبة للأفكار المتنوعة ولذة التأمل المعرفي من أجل الوصول إلى الرُشد الفكري عبر التعامل الموضوعي مع الأفكار والطروحات والنظريات والشخصيات الفكرية على مقربة واحدة . فمتى رأيت يدك تمتد لما يخالف قناعاتك المريحة وتقرأه لا لمحاكمته بل من أجل التجسير مع المشترك الفكري فيه ، تكون بذلك قد بلغت أولى مراحل الرُشد الفكري المأمول.
الصيانة الفكرية طريقنا إلى تبني مفهوم روح الفريق ونبذ الفردية والعشوائية والإرتجال والعبور إلى تكامل الجهود وحُسن التنسيق ، وثقافة المشروع للوصول المضمون إلى الأهداف المتوخاة .
انتهاء السيرك الإنتخابي ، فرصة للبدء بالصيانة الفكرية اللازمة استعدادا للجولات الإنتخابية القادمة ، عبر فكر أرحب ورؤى أعمق واختيار أدق.
إضاءة : حيث يوجد الشقاق، مهمتنا أن نأتى بالاتفاق. وحيث يوجد الخطأ سنأتى بالصواب. وحيث يوجد الشك، سنأتى بالإيمان. وحيث يوجد اليأس، سنأتى بالأمل .(مارجريت تاتشر، رئيسة وزراء بريطانيا 1925- 2013).