انتهت الحياة بالنسبة لي وبمجرد أن أهالوا التراب على القبر الطري بدموع الباكين من نساء ورجال، أحسست حينها أن كل شيء قد تغير والأغاني لم تعد كذلك بل هي تسابيح النادمين والمتاملين للنهايات القريبة والاحزان القادمة التي لن تترك مساحة في الروح إلا واحتلتها وجعلتها موطنا ثابتا لها تستنزفه وتتربع على السلطة فيه.
الحزن بعد العام 1998 أصبح لصيقا بي فحبيبتي تلك وزوجتي وام أولادي كانت متألقة بروح الحياة وكانت تملأ روحي بهجة حين جعلتني أشعر أن الأغنيات ليست للاستماع فقط بل هي حالة معبرة عن فرح وعن رغبة وعن جموح وطموح لاينتهي بل يتجدد لكن حين شعرت بالمرض لأول مرة بدأت الغيمة السوداء تتشكل في سمائي وتتحول الى عاصفة ملتوية في الأفق رمادية وسوداء وماطرة ومخيفة ومعها صرير مخيف وريح باردة سامة تخترق الأرواح والأجساد والعظام ولاتترك من الجسد والروح سوى بقايا كبقايا البيوت المتهدمة من عصور سحيقة.
حين ماتت أم كلثوم ومات عبد الحليم وفريد الأطرش ومات الشعراء والفنانون الحقيقيون ومات الحب معهم والرومانسية الحالمة لم يكن غريبا علي أن أستقبل الحزن وان أتجرع كأسه التي كانت لاذعة تلهب الحلق والأمعاء وتترك الوجدان ينتظر النهاية فالرومانسية هي الممتزجة بعمق وجداننا الجمعي وكانت أفكارنا كذلك تروح وتجيء وتنهب الطريق معنا عندما نتحرك ولانعيش إلا وهي معها لأنها شكلت هاجسا لنا وسجلت لنا كتابا من الأحداث والوقائع والذكريات المفرحة والمبكية.
اليوم لم يعد شيء من ذلك في حياتنا بل بقي الحزن والقلق وترقب لحظة الموت القادمة التي انتظرها بشغف لانني لم أعد أحتمل البقاء في دنيا ليست لي بينما احبتي تحت التراب ومنهم من شكل وعيي الاول من مثقفين وأدباء وفنانين وشعراء كلهم رحلوا ولم يعد من الدنيا ما يغريني سوى أن اعيشها لأرتب طقوس رحيلي عنها.