من الأمور التي تؤثر على استقلال المحامين، تفتيش مكتبه وحجز ما فيه من كتب ورسائل متبادلة بين المحامي وموكله، أو بينه وبين باقي زملائه لأمور تتعلق بالمهنة، وقد لاحظنا في السنوات الاخيرة هناك تجاوز كبير على مكاتب المحامين من خلال مداهمتها واعتقال بعض المحامين وممارسة الاساليب التعسفية في التعامل معهم؛ مما يشير الى ان تلك الممارسات ادت الى اسقاط لهيبة المحامي في المجتمع وتنذر بخطر كبير اذا لم يتم وقفها وتقنينها بالطريقة التي تضمن احترام كرامة وهيبة مهنة المحاماة.
1- تفتيش مكتب المحامي:
في هذا الصدد اختلفت الآراء حول جواز تفتيش مكتب المحامي إلا إذا كان متهما. فإذا كان المحامي متهما في جريمة فانه يجوز تفتيش مكتبه أو منزله للبحث عن أدلة الجريمة المسندة إليه ويكون للمحقق الحق في ضبط أوراق المحامي الخصوصية، ولكن ينبغي احترام مصلحة الغير الذي يعد أجنبيا عن الموضوع الذي حدث بسببه التفتيش، والذين يكون لهم ملفات بمكتب المحامي متضمنة الأوراق والمستندات سلمت إليه للدفاع عن مصالحهم، أما إذا كان المحامي وكيلا عن المتهم في الدعوى، وفي هذه الحالة لا يجوز تفتيش مكتب المحامي للبحث عن الأوراق والرسائل والمستندات التي سلمها أو أرسلها المتهم إلى محاميه وإلا كان التفتيش باطلا، ولكن يجوز للمتهم ان يقبل اطلاع سلطات التحقيق على الخطابات المرسلة إليه منه إلى محاميه بشرط ان يثبت هذا القبول صراحة في محضر التحقيق، لأنه من التناقض أن يكون القاضي على علم بحق المدافع في حفظ السر ثم يرغب من جهة أخرى في ضبط الأوراق، فالتزام المحامي بالسر لا يقتصر فقط على إعفائه من الشهادة وإنما تمتد الحماية القانونية للسر إلى مكتبه الذي يجب أن يكون بمنأى عن التفتيش والبحث في مستودع السر عن القرائن أو أدلة الاتهام المسندة إلى عملائه، حفاظا على كرامة المحامين ومصالح العملاء.
أما إذا كان المحامي متهم وغير وكيل في الدعوى، ففي هذه الحالة يجوز تفتيش مكتبه بكل احترام وضبط أي أوراق تتعلق بجريمة لم يوكل إلى المحامي الدفاع عن المتهم فيها.
وقد ذهب رأى ثان إلى إن للسلطات العامة حق البحث عن الحقيقة أينما وجدت فليس لمكاتب المحامين حصانة خاصة، وإلا أصبحت ملاجئ للمجرمين ومخابئ لأدلة الإثبات فيستطيع المتهم أن يودع لدى المحامي كافة الأشياء والارواق التي تحمل الدليل على إدانته فلا يخشى اقتحام رجال السلطة لذلك المكان، فلا يتمتع مكتب المحامي بحصانة أكثر مما للمنزل المسكون ويمكن تفتيشها طبقا للقانون في حالتي التلبس أو بأذن من سلطة التحقيق، فحظر تفتيش مكتب المحامي ليس مطلقا، بل هو مقيد بالأشياء اللازمة للدفاع عن موكله، وعلة ذلك إن المحامي ملزم بعدم إفشاء كل ما يتعلق بسر مهنته، ويقتضي احترام هذا السر إلا يجيز القانون الاطلاع عليه عن طريق التفتيش كأن يكتب الموكل لمحاميه خطابا يعترف فيه بارتكاب الجريمة أو إن يذكر بعض الوقائع التي تفيد في إثبات التهمة ضده، ويرى الفقهاء المصريين، إن القول المعقول بالنسبة لمكاتب المحامين هو جواز تفتيشها باطر قانونية، أما الضبط فلا يجوز بالنسبة للمستندات والمراسلات التي تمس أسرار الموكل احتراما لسر المهنة.
وقد جرى العمل على ذلك في اغلب الدول العربية على انه لا يجوز تفتيش مكتب المحامي إلا بحضور النقيب او من يمثله، وتعقيبا لذلك نصت المادة 51 من قانون المحاماة المصري رقم 17 لسنة 1983 على انه (لا يجوز التحقيق مع محام أو تفتيش مكتبه إلا بمعرفة احد أعضاء النيابة العامة، ويجب على النيابة العامة أن تخطر مجلس النقابة أو مجلس النقابة الفرعية قبل المشروع في تحقيق أية شكوى ضد محام بوقت مناسب، وللنقيب أو رئيس النقابة الفرعية إذا كان المحامي متهما بجناية أو جنحة خاصة بعمله أن يحضر هو أو من ينيبه من المحامين، التحقيق، ولمجلس النقابة الفرعية المختصة طلب صور التحقيق بغير رسوم) وقد نصت المادة78/أ من قانون المحاماة السوري على انه “لا يجوز تفتيش المحامي أثناء مزاولته عمله ولا تفتيش مكتبه أو حجزه، ولا استجوابه، إلا بعد إبلاغ رئيس مجلس الفرع ليحضر أو يوفد من ينتدبه من أعضاء المجلس، ولا يعتد بإسقاط المحامي حقه بذلك تحت طائلة بطلان الإجراءات”.
ويلاحظ في القانون المصري لا يجوز تفتيش مكتب المحامي إلا بواسطة احد أعضاء النيابة العامة ولم ينص القانون السوري على ذلك، ويشترط كل من القانونين ضرورة إبلاغ مجلس النقابة ليحضر أو ليوفد من ينتدبه من أعضاء المجلس، لكن كل من القانونين لم يحددا مهمة النقيب أو من يمثله، والقضاء يجري على إن مهمة النقيب هو التأكد مما نسب الى المحامي من تهم. ذلك فهو وحده الذي يقوم بفتح هذه الملفات والبحث بنفسه عن وجود جسم الجريمة فيه.
على انه لا يمتد التفتيش ليشمل الخطابات السرية المتبادلة بين المحامي وعميله وكذلك لا يجوز تفتيش شخص المحامي لضبط أوراق معه أثناء ممارسته لمهنته، وقد خلا قانون المحاماة العراقي من هذه النصوص واكتفى بحظر تفتيش نقابة المحامين فقط في المادة (32) من القانون، ولم يشر إلى مكتب المحامي إطلاقا، وهذا عيب جوهري يخل باستقلالية المحامي.
على انه بالرغم من النص على وجوب أخطار مجلس النقابة قبل الشروع في التحقيق مع المحامي بوقت مناسب إلا انه قد يتعذر مثل هذا الإخطار إذ كانت الجريمة في حالة تلبس.
إن تفتيش مكتب المحامي لا يشمل المراسلات المتبادلة بين وبين موكله أو بين المحامين أنفسهم أو بين المحامين والموظفين الرسميين لأمور تتعلق بالمهنة واحترام المراسلات السابق الإشارة إليها ليس سببه فقط المحافظة على سر المهنة، بل يستند إلى احترام حق الدفاع فحرية الدفاع تتطلب إزالة كل عائق عن طريق الاتصال بين المحامي وعميله، فليس من الجائز القبض في موطن المحامي على الأوراق والخطابات المرسلة إليه من عملائه أو تلك التي يكون في طريقها إليه، ويتفق الفقه على حظر ضبط المراسلات المتبادلة بين المحامي وعميله تمتد لتشمل المحادثات التلفونية. بالرغم من إن معظم القوانين العربية لا تتضمن نصوصا صريحة في هذا الشأن، فانه طبقا للقواعد العامة، فانه لاتصالات المحامي التليفونية بموكله أو بغيره حر فيها لأنها لا تخرج عن كونها مرسلات شفوية، فكلمة المراسلات لفظ عام يشمل المراسلات البريدية والمرسلات السلكية واللاسلكية، فإذا تم مراقبة المحادثات التلفونية بين المحامي وموكله، واستند إليها كدليل، فإذا هذا الدليل يعد باطلا.
2- الحجز على مكتب المحامي:
من العوامل التي تؤثر على استقلال المحامين الحجز على مكاتبهم، فالحجز هو وضع مال تحت يد القضاء لمنع صاحبه من أن يقوم بأي عمل قانوني أو مادي من شأنه إخراج هذا المال أو ثماره من ضمان الدائن أن يستوفي حقه منها، فغرض الحجز هو تقييد سلطات المدين عليها حتى يستطيع الدائن أن يستوفي حقه منها، فإذا كان المحامي مدين وقيدت سلطاته(على النحو السابق) في استعمال مكتبه لمزاولة مهنته، فان الحجز عليه سيؤثر بلا شك على استقلاله، وسيوقع به اشد الضرر، ومن اجل ذلك نصت معظم القوانين العربية، على عدم جواز الحجز على مكتب المحامي ومن ذلك نصت المادة 31 من قانون المحاماة العراقي انه “لا يجوز حجز وبيع مكتب المحامي وموجودات مكتبه الضرورية لممارسة مهنته” وكذلك نصت المادة 54/1 من قانون المحاماة المصري رقم 17 لسنة 1983 على انه “لا يجوز الحجز على مكتب المحامي وكافة محتوياته المستخدمة في مزاولة المهنة.” ونصت المادة 77 من قانون المحاماة اللبناني على انه ” لا ينفذ أي قرار قضائي أو إداري يقضي بتفتيش مكتب محام أو بحجز أموال موجود فيه أو بجرد موجوداته، إلا بعد إبلاغ نقيب المحامين خطيا ودعوته لحضور الإجراءات بنفسه أو بواسطة عضو ينتدبه لهذه الغاية من أعضاء مجلس النقابة، على أن يجري التبليغ قبل موعد التنفيذ بما لا يقل عن أربع وعشرين ساعة” وكذلك نصت المادة 68 من قانون المحاماة الجزائري على انه “لا يجوز إجراء أي تفتيش أو حجز في مكتب المحامي بدون حضور النقيب أو ممثله الدعوى لذلك قانونا”.
والواضح من النصوص السابقة. إن عدم جواز الحجز هنا مطلق، فلا يجوز الحجز على مكتب المحامي أو أثاث مكتبه وفاء لأي دين ولو كان ثمنها أو مصاريف صيانتها أو نفقة مقررة، ويلاحظ أن منع الحجز يشمل ما يلزم لمزاولة مهنة المحامي بنفسه ولم يبق النص المصري او العراقي أن يلزم ذلك لمزاولة المحامي المهنة بنفسه، واللزوم مسألة موضوعية يستقل قاضي التنفيذ كقاضي الموضوع ببحثها، على انه إذا كان القانون المصري والعراقي قد جعل المناط هو اللزوم للمهنة، فيجب عدم المغالاة فيما يترك للمحامي ولأجل ذلك تحدد بعض التشريعات الأجنبية قيمة الكتب التي لا يجوز عليها ومنها القانون الفرنسي “لائحة 26 أكتوبر 1959” إذ يحددها بما قيمته 1500 فرنك فرنسي.
ولعلنا نجد في المجتمع العراقي وبشكل واضح معوقات كثيرة تعوق المحامي عن أداء رسالته في تقديم الحماية والمساعدة القانونية لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان .