18 ديسمبر، 2024 7:41 م

من رواية قنابل الثقوب السوداء
لم يمضِ على مظاهرات المسيحيين سوى ثمان وأربعين ساعة حتى عُقد المؤتمر، ولم يتركوا الميادين إلا بعد رضاهم عن الكلام الذي تحدث به مهديّ.
ففيه، استطاع أن يكظم غيظ قلوبهم من خلال بعد القرارات والإصلاحات التي من شأنها تشعرهم بأنهم سوف يمارسون حقوقهم بكل حرية وأريحية تامة.
ولقد تكلّم فيه عن أهمية وحدة الوطن، والتعليم، وحريّة العبادة، واستقرار الأمن، والاهتمام بالصحة. ولقد ركز على القضايا الأساسية التي يشكو منها المسيحيين وأوجد حلولا لها كتنصيب الأكفأ في المناصب بغض النظر عن دينه أو انتمائه السياسيّ، وكذلك البعد عن التطرف الدينيّ والسياسيّ. وأهم ما أشار إليه هو أنّ مصر مثل الأمّ؛ تحتوي الجميع، فلا انفصال عنها، لا انفصال عنها، فكل من عاش فيها يحكمهم دستور واحد، ولا استبعاد لأحد مواطنيها، وأنّها لم تكن أرض المسلمين، ولا أرض النصارى؛ وإنما هي أرض مَن عاش عليها كافٍ الأذى عن غيره. بيد أن مسألة الانفصال عن الدولة في العلمين وجنوب سيناء والتي أشار فيها مهدي بقوله الذي كرره: «لا انفصال عنها.» لا يزال ضمن مخططاتهم الضرورية.
***
حكمة:إذا عقم العالم إنجاب الرجال حمله رضيع وكهل وسيدة.
طال أمد الحصار؛ مما تسبب في فقد مخزون رجال اتحاد المقاومة، الروحيّ والماديّ معًا، وتفاقمت مشكلة الحصار أكثر بتصفية العديد من الأنفاق حال اكتشافها. ولكن ثَمّة عوامل كانت تثبت أقدامهم ضد العدوان الإسرائيليّ عليهم، من بينها الرغبة في الاستشهاد، وكذلك الرغبة الشديدة في العودة إلى أزواجهم وآبائهم وأولادهم الذين تركوهم بلا مأوى أو حمى.
فصرخ الاتحاد من أجل فكّ الحصار، داعيًا المجتمع الدولي إلى رعاية الرضيع والسيدة والكهل، لكن لم يستجب لهم أحد سوى بضع كلمات الشجب والاستنكار، ليس دفاعًا عن قضية فلسطين؛ وإنما من أجل حفظ ماء وجوههم خشية أن يتهموا بالنفاق إزاء دعوتهم المستديمة والصارخة إلى الديمقراطية والإنسانية.
أما الأنظمة العربية، فمارست دأبها وهو الخيانة على طول الخط، فخذلتهم، وهذا لم يكن جديدًا على تلك الأنظمة؛ ولكن الجديد أن الثورات التي حدثت على أراضيهم دفعت تلك الأنظمة لبيع القضية برمتها وتسليم دماء وشرف اتحاد المقاومة إلى إسرائيل يدًا بيد.
أمّا الجيش الإسرائيليّ؛ فكان مدفوعًا أيضًا بالعقيدة؛ لكنهم أحرص على الحياة، كما أنّ التهاب المنطقة العربيّة بمنزلة الشدّ على أياديهم للخلاص من اتحاد المقاومة بصفة نهائية. وكان معول الهدم وعصا القيادة نحو استمرار الحصار هو الرئيس الأمريكي.
كلُّ هذا ألقى بظلاله على كلّ بيت في فلسطين، فقام الصبيان والنساء والعجائز لعمل انتفاضة عظيمة في كافّة أرجاء فلسطين اعتراضًا على محاصرة الأنفاق.
فالصبيان -تتراوح أعمارهم ما بين 6-11 عامًا- يحملون الحصى والثرى وبعض أعواد الثقاب الخشبيّة الخاليّة مِن مادة الاشتعال وورق الكرتون، ثمّ يرمونها على الجنود الإسرائيليين. بينما النساء يحملنّ رايات مرسومًا عليها أثداءً جافة، ويلقمها أطفالٌ رُضّع ليطعموها، لكن بلا طائل، لذلك كان النساء يضعنّ أصابعهنّ في أفواه صغارهنّ الرّضّع إشارة منهنّ إلى فراغ الأثداء مِن اللبن.
أمّا العجائز فكانوا يرفعون عصيّهم إلى السماء إشارة منهم أنّ الربَّ موجود، وذاك لأنّ أصواتهم ما عادتْ تبلغ المسامع إلّا همسًا.
وكانوا يسيروا متّكئين على العِصيّ قائلين: «لا انهزام ولا انكسار.» وقد رمى أحدهم عصاه -وكان طاعنًا في العمر- ثمّ قال: «ولا اتكاء.»
وللأسف، وقع على الأرض؛ فناوله أحدُ المنتفضات عصاه قائلاً: «لا اتكاء بقلبك جدّي الأعلى.» فقام الرجل ورمى بعصاه تجاه المنطقة العربية وهو يقول: «ولا خيانة، وخزي، وعار، يا سفلة هذا الزمان (يقصد الأنظمة العربية).» صمت هنيهة يتأمل أطفال الحجارة التي ترمي بذرات الرمل ثم قال متوجعًا دامعًا: «وكل زمان.» وأشار بالسبابة نحو السماء وهو يقول متألمًا: «إلى الله، إلى الله، نشكو منكم، حسبنا الله ونعم الوكيل.»
حدثتْ مناوشات كثيرة فيها، وتكررتْ المناوشات لدى كلّ انتفاضة تلتها فيما بعد، إذ كانت لا تتعدّى أكثر من إلقاء المئات مِن القنابل المسيلة للدموع على الانتفاضة، باستثناء بعض الحالات التي اُستخدم فيها العدوان الإسرائيلي الرصاص الحيّ. ومن جراء الانتفاضات المستمرة المتوالية اضطر الجيش الإسرائيلي لتحويل كلُّ أحياء فلسطين وشوارعها ومبانيها إلى ثكنات عسكريّة إسرائيليّة خالطها وجاورها ثكنات المآتم، والصراخات، وأنهار الدموع الحارة؛ التي كان ينصبها أهل فلسطين.
وطالت الانتفاضات؛ الواحدة تلو الأخرى، لم ينقطع فيها:
نضال أطفال الحجارة
وشيوخ العصي
ورايات أثداء النساء
رغم قتْل المئات منهم، وهذا لم يعجب الإدارة العسكريّة الإسرائيليّة، فرفعتْ الأمر إلى الأمم المتحدة بأدلّة مصوّرة مزيفة تبيّن سقوط آلاف القتلى مِن الجنود الإسرائيليين بسبب قيام رجال الانتفاضة بعمليّات استشهاديّة بوساطة أحزمة ناسفة تحتوي على قنابل هيدروجينيّة صغيرة. كما أسمعوهم عشرات الرسائل؛ تلك التي كانوا يرسلونها إلى المنتفضين في الشوارع والميادين لتناشدهم بالرحيل والمكوث في بيوتهم وعدم إثارة الشغب على أرض إسرائيل (بحسب زعمهم).
وكان ردّ الأمم المتحدة على هذه الصور، وتلك الرسائل، بالصبر عليهم، ومحاولة أخذهم باللين والحكمة حتى يكفّوا عن جرائمهم.