اول من فرق بين حراك 2009 وانتفاضة ديسمبر – يناير 2017 هو الرئيسة رجوي ،وقد تبعها الكثيرون في قرائتها التحليلية تلك وبخاصة بعد ان اخذت انتفاضة ديسمبر يناير تسمية انتفاضة الجياع تمييزا لها عن الحراك النخبوي الذي فجره الاعتراض على نتائج الانتخابات بين فريقين من فرقاء ولاية الفقيه .
وهذا هو السر في ضعف حراك 2009 وقصر عمره وسرعة انهائه, طما يرى عدد من الكتاب والمحللين العرب المعنيين بالشأن الايراني ، ليعود الحراك الشعبي الإيراني مجددا متمايزا عن “الحركة الخضراء” بدوافعها السياسية على خلفية تزوير الانتخابات, بمحركات الانتفاضة, يقف على رأسها الجوع الذي يفتك بنصف الشعب الإيراني, وهذا ما جعلها ذات مخالب, وتنتشر بسرعة في الأوساط الشعبية في مختلف أنحاء البلاد المتماثلة بالمجاعة نتيجة سياسة نظام الملالي في تصدير الثورة إلى الخارج, والمشاركة في قمع ثورات الربيع العربي, وعلى رأسها الثورة السورية التي أنفقت إيران في محاولة القضاء عليها مليارات الدولارات على حساب تجويع الشعوب الإيرانية التي خرجت من بيوتها تهتف بالموت لروحاني وللديكتاتور خامنئي.
هذه الورقة, تناقش أسباب انفجار الشارع الإيراني ومحركاته الدافعة, اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا, وتقف عند مطالب المحتجين وعلى رأس ذلك خروج ميليشيات الملالي من سورية والتوقف عن دعم الاضطرابات في المنطقة العربية, وانعكاس الانتفاضة على المشهد السوري بسيناريوهاتها المختلفة.
وللاقتراب مما يدور في إيران من انتفاضة شعبية واسعة, وتناوش سياسي بمخالب مسلحة, ولتفهم طبيعة الحراك الذي يعصف بإيران وآفاقه المستقبلية، سنناقش ذلك من خلال مجموعة من المحاور الرئيسية والفرعية, التي تكتمل بها رؤية ما يجري وما يُتوقَّع.
جذور الانتفاضة الإيرانية ومنعطفاتها المستقبلية
تشكل الانتفاضة الإيرانية الجارية في عموم البلاد ضد نظام الملالي, نتيجة طبيعية للاستفراد بالسلطة, وما أحدثه من تغييرات في الأبعاد المختلفة لكيان الدولة وعزلها عن محيطها في سياق تأجيج الصراع التاريخي الذي تحركه معتقدات إيديولوجية تتداخل معها مصالح ذاتية متعارضة مع مكونات الشعوب الإيرانية.
عبرت عن هذا انتفاضات مدينة “مشهد” قبل ربع قرن في العام 1992، حيث أعدم سبعة محتجين على خلفية مسؤوليتهم عن احتجاجات مشهد بأمر من “محمد يزدي”، رئيس السلطة القضائية في ذلك الوقت، كما شهدت مدينة قزوين احتجاجات مماثلة أثناء رئاسة هاشمي رفسنجاني، في عام 1994، وشهدت مدن شيراز، ومشهد، وأراك، احتجاجات جرى قمعها. وفي عام 2001، شهدت إيران احتجاجات المعلمين ضد حكومة خاتمي، وفي العام 2009 انفجرت “الحركة الخضراء” السياسية التي قمعها نظام الملالي بكل عنف, وفي عام 2015، انتفض عمال المناجم على خلفية إغلاق عدد من المناجم دون حفظ حقوقهم.
تلك الانتفاضات بمجموعها كانت تحركها المطالبة بتحقيق مكاسب سياسية أو تحسين الأوضاع المعيشية, قابلها نظام الملالي بحرب إيديولوجية, جوهرها: تمسك الولي الفقيه بفكرة باطلة هي أحقيته بالحكم.
أبرز الأسباب الراهنة التي تقف خلف الانتفاضة الجارية, سياط الفقر المُوجعة التي تضرب 50 مليون إيراني من أصل 80 فيماعائدات النفط والأموال المرفوع عنها الحظر بعد الاتفاق النووي ينفقها نظام الملالي على قوات نظام الأسد وميليشيا “حزب الله” اللبناني وحركة “الحوثيين” في اليمن والميليشيات العراقية والأفغانية, مع ارتفاع مضاعف لميزانية “حرس الثورة” الإيراني المرتبط مباشرة بالولي الفقيه.
انطلقت الانتفاضة من مدينة “مشهد” ثاني أكبر المدن الإيرانية، وراحت تمتد أفقيا في عدد من المدن مثل “كرمانشاه وساري والأهواز وقزوين وكرج وأصفهان وقم وزاهدان وأراك”، وكذلك بعض مناطق طهران.
إلى ذلك، ينتفض الايرانيون على جملة من الأسباب التي تعد شكلا من أشكال تعاظم الانتفاضة, ويتصدر هذه الأسباب ما يلي:
– أسباب اقتصادية: تمثلت بالاحتجاج على الغلاء، نتيجة سياسة حكومة روحاني ومن ورائه المرشد خامنئي, تجسد ذلك في الشعارات التي هاجمت الغلاء وانتقلت إلى “الموت لروحاني” وإلى مرشد الثورة الذي وصفوه بالديكتاتور.
كان تراكم الركود الاقتصادي متوارثا بين الحكومات المتتابعة منذ انقلاب الخميني عام 1979, حيث ارتفع معدل التضخم إلى ما يقارب 50 بالمئة مع التصاعد نتيجة سياسة الإنفاق الكارثية خلال أكثر من قرن يرزح فيها الشعب الإيراني تحت سياط الجوع, بينما تذهب عائداته النفطية وغيرها إلى ميليشيات المرتزقة خارج البلاد.
– أسباب سياسية: تشهد إيران حالة استقطاب سياسي لقوى مختلفة داخل إيران وخارجها ضد نظام استبدادي, أقصى شرائح اجتماعية عريضة عن المشاركة في الحياة السياسية التي يشترط فيها الولاء للولي الفقيه الذي انتهج سياسة القمع والتضييق والتمييز. إذ قمع نظام الملالي كافة الأصوات التي تعارضه في الداخل واغتالت الكثيرين في الخارج, وأغلقت الكثير من مواقع التواصل الاجتماعي والصحف، وزجت بالكثير من النشطاء في السجون، كما حرمت المرأة الإيرانية من أبسط حقوقها ومنعتها من الحضور في الملاعب الرياضية حتى وهي أبسط الحقوق. وتفشى الفساد والظلم والحرمان مما جعل الإنسان الإيراني يكافح لكي لا يموت من الجوع.
لذلك تحولت الانتفاضة إلى مطالب سياسية دعت للاقتصاص من نظام الولي الفقيه وحكومته الفاسدة, تجسد ذلك في الشعارات المعلنة وممارسات المتظاهرين في إحراق صور خامنئي وروحاني.
– أسباب خارجية: تتمثل في تدخل إيران العسكري إلى جانب نظام الأسد في محاولة لقمع ثورة السوريين, وتوجيه العائدات المالية للدولة إلى غير أوعيتها الرسمية من خلال دعم ميليشيات الأسد وميليشيات “حزب الله” اللبناني و”الحشد الشيعي” العراقي ومرتزقة أفغان وغيرهم, وبذلت إيران مليارات الدولارات في حروبها الإقليمية المبنية على الطائفية وبث الكراهية, لذلك صدحت أصوات المتظاهرين في مدينتي “كرمانشاه وشيراز” بشعارات “انسحبوا من سوريا وفكروا بنا” و”لا للبنان ولا لغزة.. نعم لإيران”، و”الموت لحزب الله” معلنين معارضتهم لا للسياسات الإيرانية داخليا فقط, بل وخارجيا أيضا.
– أسباب أخرى: بالإضافة إلى الأسباب أعلاه، تبرز أسباب أخرى, كالتعيين في مناصب سيادية مدنية وعسكرية, دون الأخذ بعين الاعتبار حقوق الشعوب الأخرى من قوميات مختلفة كالعرب والبلوش والأكراد, وبقاء “الحرس الثوري” كقوة مستقلة عن الجيش والشرطة خارج الأطر الرسمية للدولة, وقيادة العملية التربوية والتعليمية وفق رؤى أحادية الجانب, وتسخير الإعلام الرسمي للتعبير عن نظام الملالي دون باقي شرائح الشعوب الإيرانية المختلفة.
تصاعد الصدام بين الشعب ونظام الملالي
مع كل منعطف تمر به إيران؛ كان الصدام بين الشعب وحرس نظام الملالي يزداد عمقًا واتساعًا، خاصة مع سعي الملالي للاستفراد بكل مكامن القوة، تحسبًا لما يجري الآن من احتجاجات شعبية واسعة, وجدوا فيها أنفسهم هدفا مشروعا للمحتجين, لذلك أمر خامنئي ذراعه الأمني شامخاني بالتوجيه لقتل واعتقال المتظاهرين, وفرض وجودهم العسكري في المناطق المكتظة بالمتظاهرين, لمراكمة مزيد من القوة أمام المد الشعبي المتعاظم.
ومما زاد من تصاعد الاحتجاجات واتساع الفجوة بين الشعب ونظام الملالي, الاشتباكات الدامية بين المتظاهرين والشرطة في مدينة شيراز بعد أن رفع المحتجون شعارات مثل: “الحرية أو الموت”، “اذهب أيها الشرطي وألقِ القبض على السارقين”.
وأعلن مسؤول في الأمن الإيراني بمدينة “مشهد” اعتقال 52 متظاهرا إثر اندلاع مظاهرات في شوارع المدينة الأكبر بعد العاصمة طهران، بعد أن هتف المحتجون بشعارات ضد الرئيس حسن روحاني والمرشد علي خامنئي, لذلك انتشرت المظاهرات كالنار في الهشيم بعد وصولها إلى العاصمة طهران.
وهدد “محسن نسج همداني”، مساعد المسؤول الأمني في محافظة طهران أن الأمن سيواجه المظاهرات في حال اندلاعها في العاصمة، حيث لم تصدر وزارة الداخلية ترخيصا لإقامة أي مظاهرة, وحذر مثيري “الفوضى” بالملاحقة وسوء المصير.
في ظل التجاذبات والتراشق الإعلامي المتبادل، وتركيز وسائل الإعلام الدولية على الحدث، وفيما يمكن توصيفه بأنه اتساع للفجوة بين المحتجين ونظام الملالي، ازدادت رقعة الاحتجاجات وانفجر الوضع في بعض المدن ونشبت مواجهات مسلحة أدت إلى مصرع العشرات من المتظاهرين ومثلهم من عناصر الباسيج, وجاءت تصريحات أركان نظام الملالي المهددة للشعب تعميقا للفجوة بوصفها نقطة انطلاق متمايزة بين الشعب الجائع والنظام المستبد.
تداعيات الانتفاضة الإيرانية على الحالة السورية
كشفت الاحتجاجات الإيرانية الخلافات الحادة بين الشعب ونظام الملالي, وبالأخص فيما يتعلق بتدخل إيران العسكري في سورية ودعمه المفتوح لنظام الأسد, يتصدرها دعم الميليشيات المتعددة الجنسيات بأموال الإيرانيين الجوعى, وما يمثله ذلك من تحدٍّ إلى جانب تحديات الحصار الخانق للإيرانيين نتيجة التضييق عليهم بالسفر إلى الغرب, أو لزيارة الأماكن المقدسة في العربية السعودية، مما شكل عزلة دولية لإيران. ويمكن تلخيص تلك التداعيات بالتأثير على العلاقة بين المليشيات ونظام الملالي, إذ يشرف على قيادة الميليشيات الشيعية العاملة في سورية, ضباط يتبعون لـ”الحرس الثوري” الإيراني الذي يتسم أداؤهم الوظيفي بشيوع الفساد المالي والإداري, ولما انطلقت مظاهرات المحتجين كان من أولى مطالبها الخروج من سورية, والكف عن دعم ميليشيات المرتزقة على حساب الجياع من أغلبية الإيرانيين, وحملوا مسؤولية ما يجري في البلاد من فقر وويلات للتدخل السافر في الشأن السوري, وفي ضوء كل ما أُثير سابقًا، يمكن تصور مستقبل الانتفاضة الإيرانية وانعكاسها على الحرب الدائرة في سورية في إطار السيناريوهين التاليين:
السيناريو الأول: استمرار الانتفاضة
يفترض هذا السيناريو تزايد رقعة الاحتجاجات انطلاقا من توحد الشعوب الإيرانية حول أهداف اقتصادية وسياسية في مواجهة نظام الملالي، فعلى المدى القريب يتضح أن نظام الملالي غير قادر على حسم الأمور وتهدئة الشارع إلا بالقوة العسكرية, وهذا يؤدي إلى هوة كبيرة وتصدع داخل مراكز النظام الرئيسية, وإطالة أمد الاحتجاجات في ظل تصلب مواقف المحتجين المطالبة بالخروج من سورية والتوقف عن دعم الميليشيات المتعددة الجنسيات والبالغ تعدادهم أكثر من 60 ألفا.
وبالتالي فإن استمرارية الانتفاضة الإيرانية تشكل انفراجا على المشهد السوري سياسيا وعسكريا في حال نجح الضغط الشعبي في تحقيق أهدافه, وعلى رأس ذلك فض الشراكة بين الإيرانيين ونظام الأسد والميليشيات الأخرى.
السيناريو الثاني: قمع الانتفاضة
يفترض هذا السيناريو تمكن نظام الملالي من قمع انتفاضة الإيرانيين, ومع ذلك فإن تغييرات ملموسة وواضحة كشفت طبيعة العلاقة القائمة بين النظام والشعوب الإيرانية, ولكن التصدي المسلح لثورات الجياع لا يحل المشكلة إلا في حال التوصل إلى تفاهم مشفوع بضمانات ذات جدوى اقتصادية وسياسية, ولكن نظام الملالي مثله مثل الأنظمة المستبدة, يلجأ إلى وسائل العنف لوأد الانتفاضة الجارية وفرض إرادته بالقوة على الشعب, وفي هذا السيناريو تزيد فرص انكفاء التواجد الإيراني في سورية، نتيجة الاضطرابات التي تعصف بنظام الملالي في ظل حديث متكرر عن تشكيل تحالف دولي لطرد الميليشيات الإيرانية من سورية.
وبناء على ذلك, فإنه لا يبدو في الأمد القريب ما يؤشر إلى أن السيناريو الثاني أرجح من الأول؛ لأن نظام الملالي يمسك بزمام القوة, ولأن مطالب الشعب المنتفض لا يمكن تجاهلها, وبالتالي فإن تضعضع العلاقة بين النظام والمحتجين يؤجج الداخل الإيراني الذي سيكون من أولى تداعياته الانفراج العسكري والسياسي لصالح الثورة السورية وشعوب المنطقة.