يعكس موقف الجبهة السياسية المعارضة لتولّي السيد المالكي رئاسة الحكومة الجديدة، وعلى اختلاف دوافع أطراف الجبهة ، رغبة عميقة ممتزجة بسبق الاصرار والترصد على تكريس واقع (المحاصصة) كنهج أساسي تعتمد عليه المؤسسة الحكومية العراقية في ادارتها للسلطة، وبما يُفضي الى الزامية التطبيق لهذا النهج القميئ حينما تُسهم الوزارات المتعاقبة بتثبيت أسسه في العقل السياسي الجمعي ليُصبح فيما بعد، وبالتدريج قاعدةً سياسية وعرفاً دستورياً غير قابل للترك والتعطيل.
المثير في الأمر هو أن جميع أطراف الجبهة المضادة (ممّن يعض اليوم على مفهوم المحاصصة بالنواجز)، كانوا قد أفردوا مساحات واسعة لـ (شعار التغيير) كجزء من خطابهم الاعلامي وبرامجهم الانتخابية للتناغم مع وعي المواطن العراقي والتواؤم مع تطلعاته المستقبلية ، خاصة وأن إخفاقات المراحل السابقة كانت قد ولّدت لدى المواطن العراقي إدراكاً تامّاً بأن المحاصصة، وبجميع أشكالها (الحزبية والطائفية والعرقية) كانت قد جرّدت التجربة الديمقراطية في العراق من قدرتها على تعزيز نفسها أو المساهمة في تحفيز النمو الاقتصادي.. فقد خلقت المحاصصة مناخات موبوءة وبيئة خصبة للفساد المالي والاداري يصعب معها ايجاد جهاز وظيفي قادر على ممارسة وتحقيق عملية التنمية الاقتصادية، فضلا عن اسهام المحاصصة في تقويض الاستقرار الأمني نتيجة لتجزئة الملفات الحساسة بين أطراف أثبتت التجربة عدم وجود أي اتساق في النهج السياسي لهؤلاء (الشركاء) مع الحكومة المكلّفة بإدارة السلطة التنفيذية في البلاد.
ما يمكن إدراكه اليوم وبشكل واضح، هو أن الحراك السياسي المضاد الذي تتبناه هذه الجبهة المعارضة كان قد اختزل ما رُفع من شعارات للتغيير في مواقف نمطية مناوئة لاتستند الى أساس دستوري، وتهدف الى السعي لمصادرة الاستحقاق الانتخابي للكتلة الأكبر (دولة القانون)، ومن ثم المحاولة لسلبها حقاّ حصرياً يتمثل في حرية اختيار مرشّحها لرئاسة الحكومة العراقية القادمة من خلال اشتراطات تحمل صفة الاجتهاد الشخصي مقابل النص الدستوريعلى أمل إكتساب ذلك الاجتهاد الشرعية بتصنيفه عُرفا دستورياُ في المراحل اللاحقة.
ذلك في الحقيقة ما تسعى اليه جميع أطراف الجبهة المعارضة للولاية الثالثة للسيد المالكي، ألا أن آمال جميع هذه الأطراف باتت معقودة على بعض مكوّنات التحالف الوطني ممّن يشتركون مع بقية الأطراف في عملية انتاج الأعراف الدستورية (التعطيلية)، التي تتحرك في نطاق عقدة النقص التي تشكّلت بنسب متفاوتة لدى هذه الأطراف، فضلا عن الخشية من دخول نفق (سن اليأس السياسي) التي بدأت تراود الكثير منهم نتيجة المنجز الانتخابي لدولة القانون على الصعيد الوطني، والحضور الدولي والاقليمي الفعّال للدولة العراقية الذي أسهمت حكومة السيد المالكي في رسم معالمه المستقلة بالموازاة مع سعيها الدؤوب للإرتقاء بهذا الحضور لما يعزز المصالح الوطنية ويعمّق ثقة المجتمع الدولي بالعراق الجديد.
وقد بات واضحاً للعيان بأن المجلس الاسلامي الأعلى، وعلى وجه التحديد السيد عمّار الحكيم (زعيم المجلس) قد تصدّر السرب المغرّد خارج الدستور، رافعاً لواء المحاصصة بوجه (مبدأ المواطنة الحقّة) الذي تسعى حكومة الأغلبية السياسية الى إقراره: المبدأ الذي يحتضن المكونّات العراقية بطريقة تُعيد للفرد والإنسان داخل هذه المكونّات مكانته الإعتبارية ، وللكفاءات المواقع الوظيفية المستحقة لها، بطريقة عابرة للوصاية الحزبية التي تفرضها المحاصصة بمنحها الأحزاب السياسية حق التمثيل القسري والوصاية على الفرد العراقي داخل هذه المكوّنّات حتى وإن لم يكن قد أدلى لهم بصوته..!
ودون أدنى شك، وإنطلاقاً من قوة المعايير المعتمدة في تشكيل الحكومة، تُعد حكومة الأغلبية السياسية الأكثر تجسيدا للشراكة الوطنية والأصوب تمثيلاً للمكونّات من (حكومة المحاصصة )، أو “شراكة الأقوياء” التي يدعو لها ويصر عليها الفريق المقابل، فالشعب ليس بحاجة الى (شراكة الأقوياء) بقدر الحاجة الى (شراكة الأكفاء) التي تعتمد معيار الكفاءة وإتساق النهج السياسي لضمان فريق عمل ذو رؤى موحّدة وجهود متناسقة وتكاملية، حينها فقط يمكننا التحدث عن وجود قيادة قوية واضحة المعالم وقادرة على الانجاز، وذلك هو التفسير الأدق لمفهوم القوة عندما يتعلق الأمر بمفهوم السلطة وادارة مؤسسات الدولة.
ولكن، من أين للسيد عمّار الحكيم وللمجلس الأعلى، الإعتقاد بذلك، خاصة وهم الساعون ومنذ البدء لإيقاع القطيعة النفسية والعملية بين مكونّات الشعب العراقي بنهجهم الإعتزالي المتجسد في مشروع “إقليم الوسط والجنوب الشيعي”، الذي أسقطته الجماهير العراقية.. ليس هذا وحسب، بل إيقاع ذات القطيعة بين المكونات السياسية (الشيعية)، ولسنا هنا بصدد السرد التاريخي للأحداث التي تحمل بين طيّاتها الكثير من العبر والعديد من الإدانات، والتي تثير الكثير من التساؤلات وعلامات الاستفهام بوجه من وضعوا ثقتهم في طروحات السيد عمار الحكيم المفتقرة الى الدراية والحكمة.
حيث لم يتوانى السيد المالكي يوما في ايضاح ما يجابه العراق من تحدّيات، لإحاطة الشعب العراقي علماً بمجريات الأمور، وإستنهاض بقايا الضمير الوطني لدى الفرقاء السياسيين، ولكن وللأسف.. لقد أسمعت لو ناديت حيّا .. ولكن لا حياة لمن تنادي!..
ففي وصفه للمحاولات الارهابية التي طالت مدينتي سامراء والموصل، أكّد السيد المالكي بأنها محاولات دائبة وسعي داعشي حثيث لإثارة الفتنة الطائفية، وفك الخناق عن الإرهابيين في الأنبار واحتلال موطأ قدم في مناطق أخرى.. ولكن تلاحم القوى الأمنية وقف حائلا دون تحقيق الدواعش لأهدافهم..
والغريب أن القوى السياسية منهمكة في تكذيب هذا الخبر وتشويه هذه الجهة أو تلك دون أدنى شعور بالمسؤولية تجاه القوات المسلحة التي بذلت دمائها في سبيل الدفاع عن أمن الوطن والمواطن!.
وبما يثير التساؤلات لدى المخلصين من أبناء الوطن.. أليس من حق القوات الأمنية العراقية التي تضع أرواحها على أكفها في مجابهة الإرهاب، أن تحضى بتلاحم سياسي وموقف داعم للجهد الحكومي بدلا من تهافت (سياسيو الساعة التاسعة) على قناة البغدادية التي خرجت عن موضوعيتها وبدت أكثر تطرفاً في شخصنتها للأمور وأشد تزمتاً في تبنيها المفردات التي لايقرها الضمير الوطني ولا يستسيغها الذوق العام..؟
وختاما، أن الأعراف الدستورية وكما هو دارج ومتعارف عليه، تتكون نتيجة انتهاج السلطات التنفيذية سوابق سياسية تأتي لإتمام نقص دستوري ويسهم التكرار المتتابع لهذه العادة السياسية في جعلها قاعدة قانونية وعرف دستوري حينما تكون مكملة لنقص وشديدة الوضوح بما لايقبل معها التأويل. ألا أن ما يصدر اليوم من محاولات حثيثة للسيد عمار الحكيم لـ (دسترة المحاصصة) وإكسائها رداء (العفة) والعرف الدستوري، وذات الحال ينطبق على تحديد رئاسة مجلس الوزراء بفترتين رئاسيتين.. فكلا الأمرين لا يمكن تصنيفهما في خانة النقص الدستوري بل يمكننا القول بأنهما يشكلان معا تجاوزا فاضحاً للدستور العراقي، هذا من جانب، ومن جانب آخر فالسيد الحكيم لايمتلك أية صفة رسمية تؤهله لإرساء أسس الأعراف الدستورية في البلاد.. لذا فمن الحكمة أن يتحدّث كُلّ منّا حسب وزنه، وليرحم الله أمرءِ لجمَ نفسه عن السعي للظهور بطلاً على حساب المصلحة العامة وأمن الأبرياء..!