23 ديسمبر، 2024 6:50 ص

امهات ..في المنفى

امهات ..في المنفى

عبر الهاتف ..قالت لي بصوت واهن اختلسته من بين فكي غصة مشبعة بالدموع :” اريد ان اعود …” …احترت كيف اواسيها ..أأقول لها ان الوطن هو المكان الذي يعيش فيه ابناؤها وانها بدونهم ستظل بلاوطن ..اعرف انها لن تعود فقد تركت حياتها الاثيرة خلفها منذ سنوات بعيدة وحملت اولادها بعيدا لتنقذهم لكنها اكتفت من الغربة بينما اعتادها اولادها ولم يعد البلد الذي غادروه صغارا يعني شيئا مصيريا بالنسبة لهم ..

استجمعت شتات صوتها المتهدج لتندلق الكلمات من فمها متسارعة …قالت : ” فجاة ..استيقظت على بقايا حلم لذيذ ..كان المطر ينث قطراته الصيفية على رصيف شارعنا الترابي فتملأ الجو رائحة التراب المبلل التي اعشقها ..كنت اتقافز فرحا مع جاراتي الصغيرات تحت المطر ثم تجلب كل منا (طاسة ) معدنية فنملأها بالتراب المبلل ونقلبها ونحن نهزج :” طاسة ياكمر طاسة ..منو هيه الكمر طاسة “وبعد ان نرفع الطاسات تظهر الاكوام الترابية الصغيرة تحتها وتعتبر صاحبة الكومة الاكثر تماسكا (الكمر ) بين رفيقاتها ..

استدركت فجأة وكأنها استيقظت من حلمها اللذيذ لتقول : ” كنت (الكمر ) دائما وكانت كومتي الترابية الاكثر تماسكا ..كيف سمحت لها ان تصبح هشه وتتفتت كليا ؟”..تذكرت اين هي الآن حين شاهدت تساقط الثلج من خلف زجاج نافذتها .. عادت لتقول :” اريد العودة ..انا بحاجة الى الحنان ..غرست قدمي في ارض الغربة في زمن صار القتل فيه فعلا عاديا ..خشيت ان تستلب مني حياة احبتي لكني فقدت لحظاتي الثمينة ..كل لحظة هي شيء فريد لن يتكرر ابدا لكني تركتها وتعلقت بأهداب الحياة في بلد لاافهم من سكانه سوى انهم ساعات مضبوطة ..ظلت احلام العودة تراودني ..اشم رائحة تراب شارعنا واذوب جوعا لقدر والدتي وشوقا لسماع صوت الاطفال وهم ينشدون نشيد تحية العلم ..

حاولت ان تختبر اولادها قبل سنوات فاصطحبتهم في زيارة الى بلدها بعد زوال الصنم الذي ابعدها عنه ..صدمتها آرائهم الساخرة في وطنها الاثير

..انه عبارة عن اكوام نفايات وتخلف وغياب حضاري في نظر اولادها ..قالت لهم .:”ليس العراق كما ترونه اليوم “..وحاولت ان تشرح لهم تاريخه وحضارته وكيف تكالب عليه الاعداء والطامعين ليحولوه الى مااصبح عليه لكنهم لم يقتنعوا بذلك فاذا كان هناك انسان حقيقي لابد ان تبنى الاوطان ..قالوا لها انهم غير مستعدين للعيش مع اناس غير حقيقيين لايعبأون ببناء وطنهم …قالت لهم :” لطالما حاول العراقيون البناء لكن هناك الكثير من المعاول حولهم …” ..لم يجدوا في كلامها مايغريهم بالعودة فقد وجدوا الانتماء الذي تتحدث عنه والدتهم في البلد الذي لم يسلبهم شيئا من انسانيتهم ..

لم اقاطعها ابدا وهي تقول بعتب :” اخجلني ماآل اليه بلدي وانا كنت اتشدق بجماله وحضارته وصمود اهله ..كيف سأقنع اولادي ان بلدي حضن دافيء وهم يشمون رائحة الموت في اركانه ..كيف ساتباهى بما سيكون عليه في المستقبل وحاضره ملبد بغيوم الشقاق واليأس من التغيير ..

تركتها (تفضفض ) همها ولم اقل لها :” عودي ” فانا مدركة انها لن تعود فقد استقرت الاشياء لدرجة ان فكرة تغييرها تبدو مسألة غير معقولة…فجاة انقطع الاتصال لانقطاع التيار الكهربائي لدينا بسبب هطول المطر بغزارة ..وعلى الفور ، غابت صديقتي وهمومها من بالي وصرت افكر بما سينتج عن المطرمن اضرار وكوارث جديدة ..في بلدي الاثير !