2 نوفمبر، 2024 8:36 م
Search
Close this search box.

امريكا وحساب عوائد المواقف

امريكا وحساب عوائد المواقف

ان الحقيقة الناصعة التي لا تحتاج لأي اثبات او برهان، هي ان امريكا لا تتصرف ولا تتعامل مع غيرها من الدول حسب الاهواء الشخصية والأمزجة الفردية، بل انها تتخذ مصلحتها العليا هدفاً مقدساً فوق كل اعتبار وغاية قصوى لا تتحمل نقاشاً او جدلاً.

فأمريكا، تخطط مسبقاً وتحدد الاهداف لعشرات من السنين القادمات، فتغدو، هذه الخطط والاهداف سلوكاً ثابتاً لجميع مؤسساتها، ولا سيما مؤسساتها الرئاسية، فلا تتعدل ولا تتحور تلك الخطط والاهداف حسب الامزجة والاهواء مهما تبدلت الادارة الا بقدر ما تسمح به هوامش الفروق الشخصية بين هذا الرئيس او ذاك.

وهذا ينقلنا الى التنويه بالخطأ الذي يرتكبه البعض للأسف من المتعاملين مع امريكا، الا وهو محاولة تطبيق المبادئ الاخلاقية على مواقفها وانماط سلوكها في علاقاتها وتصرفاتها، بينما هي لا تقيم توجهاتها الا بحسب ما يجلبه لها هذا الموقف او ذاك من منافع وفوائد لا خسائر وأضرار، فأن المصالح هي التي توجه امريكا لا المبادئ، كما قد يتراءى للبعض.

فاذا ما وصفنا ادارة دولة ما، بانها لا مبادئ لها، فأننا لا نحكم عليها اخلاقياً بالخطأ والصواب بل انها – نعني- بأنها لا تتمتع بسياسة منظمة ومنسقة في مواقفها وتصرفاتها، فالقضية اذن، ليست قضية قيم مثالية بقدر ما هي قضية منفعة او مضرة لبلادها.

وكما قال السياسي البريطاني ونستون تشرشل – ليس لبريطانيا اصدقاء دائمون ولا اعداء دائمون وانما لها مصالح دائمة-. وما ينطبق على تشرشل ينطبق على غيره، وما اختطته بريطانيا لم يكن ولن يكون حكراً عليها وحدها بل اختطته امريكا كقوة عظمى غاشمة بعد ان افل نجم بريطانيا وتقلص دورها العالمي بعد الحرب العالمية الثانية في تعاملها الدولي مع مالها من حول وقوة.

فماذا سيتوقع الواحد منا من سياسة الدولة الاولى –امريكا- مع دول العالم ولا سيما مع الاقطار العربية؟

لطالما افصح اكثر من خبير استراتيجي، بأن تدخلات امريكا العدوانية باشكالها المختلفة للسيطرة على منابع النفط والمنطقة العربية برمتها، قد شكلت على الدوام مفصلاً اساسياً في استراتيجيات الادارات الامريكية المتعاقبة التي سبقت ادارة بوش الاب – التي تمكنت دون سواها من تحقيق هذا المفصل او هذه النقلة الشديدة الخطورة بفعل توفر عوامل اقليمية ودولية مواتية عهد هذه الادارة.

ومع استمرار توفر الظروف المناسبة، ظلت ادارة بوش الاب والادارات التالية لها تعمل دون كلل لاستكمال ما حققته في منطقة الخليج العربي من خلال متابعة عدواناتها على العراق الذي اتخذ وقتئذ شكل استمرار الحصار والتجويع، وتدمير امكاناته العلمية والعسكرية والاقتصادية، وتخريب نسيجه الاجتماعي بشتى الاساليب والوسائل.

كما ان ذات الظروف قد وفرت لامريكا احداث نقلات اخرى في حربها لتركيع الامة العربية من اقصاها الى اقصاها لضرب مقومات تحررها واستقلالها، وامكانات نهوضها من جديد، وتصفية الصراع العربي – الاسرائيلي المزمن من جهة، ومن الجهة الاخرى متابعة السياسة ذاتها لاكمال سيطرتها على نفط العرب بكامله، مما يؤهلها لان تتحكم في امداد العالم بالطاقة الى حين.

وفي هذا السياق تندرج العدوانات الامريكية المتكررة ضد العراق (1991- 2003) التي استمرت صاخبة مستمرة، تغيب وتظهر ثانية باشكال مختلفة، كالحمى، تستهدف اخضاعه نهائياً ان هو لم يفعل بوسائل التهديد والابتزاز العادية. فالعراق سواء السابق او الحالي بالنسبة لامريكا هدفاً مطلوب احتواءه وادخاله في المجال الحيوي للمصالح الامريكي بعد انتزاعه من مدار توجهه العروبي القومي والاسلامي.

فبعد عدوان 9نيسان 2003، عززت امريكا وجودها العسكري في منطقة الخليج العربي، وفرضت على دوله نظام المحميات من جديد ربطتها باتفاقيات أمنية وعسكرية طويلة الاجل، واسقطت على نحو مريع فكرة اقامة نظام أمني عربي قومي اقليمي يراعي ترابط مصالح دول المنطقة وتداخل علاقاتها، ووجهت ضربة في الصميم لعلاقات دول الخليج بمحيطها العربي والجيو سياسي الاقليمي مما افقدها القدرة على رسم سياسات مستقلة، ناهيك عن انها لم تعد تشكل وكيلاً من اي مستوى.

ولأدامة مصالحها لاطول فترة ممكنة، كرست امريكا في هذا الجزء من منطقتنا، النظم العشائرية، القبلية، والثيوقراطية، وشجعت على تعزيز سلطة الاستبداد وتحييد وتحجيم الحريات الفردية والعامة، مما يفصح ادعاءاتها المتكررة بشأن انتهاكات حقوق الانسان والديمقراطية، وبالتالي يكشف عن مكنون الشعارات التي تطرحها والتي لا تستند الى اي مبدأ سوى خدمة المصالح العليا لامريكا.

وفي الاطار الاوسع، عمقت امريكا علاقات التبعية التي تربط دول المنطقة بدائرة النظام الامبريالي العالمي سياسياً واقتصادياً وعسكرياً. وراحت تراقب وتلاحق كل شاردة ووواردة، بهدف تطويع وكسر اي ممانعة يبديها هذا القطر العربي او ذاك، مما عمق ازمة النظام العربي الرسمي الذي اتخذ انهياره آبان وبعد حرب الخليج الثالثة 2003، اشكالاً اكثر وضوحاً ودرامية.

هكذا، حوصرت نداءات قومية عديدة بشأن امكانية اعادة توزيع الثروة العربية، كضرورة قومية تستلزمها رسم استراتيجية عربية جديدة تستهدف معالجة بعض مسببات التخلف العربي والشروع في عملية النهوض بالتنمية في الاقطار العربية الاكثر فقراً، الامرالذي دفع بعض العرب للاسف من المساهمة في توليف تحالف عربي رافض لهذه النداءات شكل غطاءاً للعدوانات المتكررة الامريكية على منطقتنا.

وامعاناً في تقطيع اوصال الامة العربية زيادة على ما هي عليه، دأبت امريكا على منع أية محاولة لاقامة تنسيق او تعاون بين الاقطار العربية كافة او بعضها، سواء بشأن موضوعات الصراع العربي – الاسرائيلي، او في ميادين اخرى دون ان تسلم مؤسسة الجامعة العربية من محاولات ابطال دورها الجمعي او بتهيأته الى ابعد حد، وبالتالي افراغها من مضمونها وتحويلها الى منبر لا يصلح الا لاصدار البيانات.

وقد تركت مثل هذه التطورات اثرها باتجاه تنمية السياسات القطرية وما ينتج عنها من تفشي سيكولوجية استعلائية من قبل عرب الاقطار الغنية تجاه اخوانهم الفقراء لتحل محل النظرة القومية التي تربط على نحو مقبول بين المصالح القطرية والمصالح الجمعية للامة العربية كلها.

وكذلك بينت مجريات الامور بعد حرب الخليج الثالثة ، ان امريكا ليست في نيتها اطلاقاً ممارسة اي ضغط على اسرائيل تجبرها على قبول ما لا تريد ان تقبله، فتكون فكرة الارض مقابل السلام التي بطنت لاحقاً الى الارض مقابل الامن التي طرحتها الادارة الامريكية كأساس للتسوية العربية- الاسرائيلية، ليس سوى طعم لاستدراج العرب الى ميدان المفاوضات الثنائية مع اسرائيل، وتقديم كل ما يخدم عدوانيتها وسياساتها، وفرض الأمر الواقع وصولاً الى توقيع اتفاقيات سلام لا تقدم فيها اسرائيل الا وعوداً كاذبة.

وقد سعت امريكا بعد حرب الخليج الثالثة ، الى اعادة التأكيد على ان اسرائيل هي القوة الاولى التي يجب ان تبقى متميزة وقادرة ضمن دائرتها الاقليمية من العالم، وليس مسموحا لقوة اخرى ضمن الدائرة ان توازيها كي تظل مهما كانت المستجدات وحجمها في محيطها الاقليمي، الركيزة الامبريالية الاولى والاقوى في نظام الاستغلال الاستعماري لهذه الدائرة وشعوبها وثرواتها، وكذلك التسليم بأن اوراق الحل والربط في هذه الدائرة الاقليمية بحوزة اليد الامريكية التي تحمي اسرائيل. وطالما انه لا قبل لنا نحن –بعضنا- العرب بمحاربة امريكا، فلا يبقى امامنا الا التكيف مع سياساتها في المنطقة ، واستطراداً المصالحة مع اسرائيل التي تتولاه بالرعاية والامان.

ولا يخفى على احد، ان هذا المنهج/ السلوك ونتائجه يحقق مصالح الامبريالية الامريكية ويقود الى التسليم بأن هذه المنطقة تمثل منطقة مصالح حيوية لها يجب على دولها ان تسلم باستحقاق هذه المصالح وتستجيب لها. كما يحقق المصالح الطبقية الانانية والضيقة لفئات اجتماعية في بعض الاقطار العربية التي ترى ان مصالحها يمكن ان تتحقق بوكالتها للمصالح الاستعمارية- الامريكية خصوصاً- وبالمصالحة والتطبيع بينها وبين رأس المال الاسرائيلي، الاثر الذي يتطلب تطبيع العلاقات بالتالي مع اسرائيل، وهذا الذي حدث وصار امراً واقعاً.

ان السياسة الامريكية تجاه الآخر، تتمتع بخاصية لا يمكن التنبؤ بها، فهي تترك الاصدقاء والاعداء على حد سواء في حالة من الشك والحيرة والغموض المدروس والمحسوب. ولهذا السلوك اهمية عظمى لها حيث انه يترك الخيارات الامريكية واسعة ولا تنحصر في زاوية معروفة الاهداف.

وانطلاقاً من هذا الفهم المادي للسياسة، يجب على صانعي القرارات في الجانب المقابل عند التعامل مع هذه السياسة، ادراك عقليتها المتقلبة مع تغير الاحوال والمصالح. فامريكا لا تكاد تكون لها سياسة خارجية واضحة المعالم، نابعة من صميم المبادئ التي قامت عليها كدولة متحدة، وهي المبادئ الثابته في دستورها، بل ان مواقفها كانت في اكثر الحالات ومازالت اشبه بمواقف الدول الاستعمارية المنهارة.

صحيح ان مقاليد الامور العالمية وليس الاقليمية فقط هي اليوم بيد امريكا بشكل او بآخر اكثر من اي يوم مضى، لكن الصحيح ايضاً ان مصائر الشعوب لم تفلت نهائياً من ايدي اصحابها، وهي بالتأكيد لن تفلت حتى لو جعلت امريكا العالم وحيد القطب.

اما القول – على الاقل بالنسبة لنا نحن – بعضنا – العرب: ان بعض التنازلات تفيد في كسب ود امريكا واسقاط الذرائع الاسرائيلية، فان استمراءه سوف يحول – بعضنا – في النهاية الى تلاميذ بلهاء في المدرسة الامريكية يسعون – او نسعى – لنيل تقدير ممتاز في السلوك ويرسبون – او نرسب – في بقية المواد.

[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات