نعم للعقل جلالُه ومتّسعاتُه ومداراتُه، لكن لأن له أغراضَه وجموحَه فلا نقبل تقديس كل مخرجاته بلا دليل، فلأمريكا عقلُها الخاص الذي مفرادته قد تبدو غير متوائمة مع العقل السائد والمنطق المألوف، مما يوقع البعض بغرابة المواقف والسياسات الأمريكية واتهامها أحياناً بالخطأ واللامعقولية، أما لماذا هذه الخصوصية؟ فتعود الى طبيعة وجوهر الفلسفة التي ينتمي هذا العقل إليها والمتمثلة بالمدرسة (البراكماتية) وهي إحدى المدارس (الميكافيللية) التي تقوم على (العملية / النفعية) التي لا ثابت لها ولا معيار سوى معيار (المنفعة) لهذا فلابد من دراسة السياسة الأمريكية ومواقفها الدولية على وفق هذه الفلسفة ومنطلقاتها الاستراتيجية وليس على وفق العقل السائد والمنطق المألوف المرتبط بالسكونية و ثبات المقولات…
لا نريد ان نهيم بالتنظير المجرد ولا نريد أن نعمم بعض الوقائع فالعقل قد يقود البعض لأنْ يدمر ويفجر نفسه وهو يظن بأنه العاقل الوحيد في هذا العالم والبعض يقدس عقله ويرفع شعار العقلانية وهو يهدر كرامته ويتاجر بمقدساته ويظن أنه يشتري لنفسه السلامة فيما هو يحفر قبره…
لذا فنحن أكثر حاجة للعقل الذي يعلمنا (فن التفكير) الذي يقودنا الى معرفة (ضرورات الحياة) وكيف نتعايش كبشر للوصول الى غاية وجودنا وحفظ سلامتنا وكرامتنا…
نحتاج أن نحيا بعقولنا لنتجنب غربة النفس ولنسير في طريق (التحرر) و (الحرية) وهما (شرطا التغيير) والكرامة وسيادة الحق… (فالتحرر) للخلاص من (التبعية) للآخر الأجنبي الذي يريد عبوديتنا وإمتلاك ثرواتنا واستخدامنا كأدوات لتحطيم أنفسنا بأنفسنا من خلال إثارة مواطن الاختلاف والتنوع الطبيعي بيننا، فيثير الطائفية والعنصرية والفئوية لتكون مبررات لقتل أنفسنا وقد نجحوا في هذه المنهجية المتوحشة تحت شعارات وعناوين جذابة ليس هنا مجال بحثها… ولكن نريد هنا التأكيد على ضرورات تحكيم العقل والشرع لخلاص أنفسنا من (فخاخ الموت) التي نراها يومياً في العراق وسوريا ومصر ونقع ضحايا فيها… فهل من العقل أو الشرع أو الأخلاق أن يفجر إنسان نفسه وسط مجموعة من الأبرياء والعُزّل لمجرد إنهم يختلفون معه بالطائفة؟ ويظن بعقله أنه ذاهب الى الجنة..!! أو أن يتقاتل أبناء البلد الواحد لهدم بلدهم وقتل بعضهم بأسلحة يزودهم بها عدوهم وبعضهم لا يفعلون سوى ما يريده العدو، إذن أين العقل؟ وأين الشرع؟ وأين الأخلاق والضمائر..؟
إن شرط النجاح لأي مشروع سياسي أو اقتصادي أو ثقافي أو اجتماعي يكمن في (وعي المهمة) و (إدارة المهام) بعد إدراك (قدرات الذات وقواها) و (طبائع وقدرات الآخر وقواه) و (عدم الخوف من المجهول) لأنه معيق للحركة وعلاجه (العلم وإمتلاك الإرادة)… والعمل والممارسة هي التي توجب العلم وإمعان النظر والعقل، فالعلم والعقل أداتان في معرفة الواقع واستشراف المستقبل ومواجهة التحديات وليس (العواطف) و (الأماني) ولا (الشعارات والهتافات) ولا (المغالبة البدوية) و (الكذب والخداع) وإن تسترت (برداء المناورة وضرورات السياسة) فهي ليست أدوات ملائمة لإحراز النجاح أبداً…
فالعلم والعقل اللذان يدلانا ومن خلال الوقائع والأحداث أن أمريكا تسعى للتفرد بحكم العالم بلا شريك أو منازع وإن رضيت بمنح البعض الفتات لأغراض إدامة الصراع المسيطر عليه… إن من أبرز أساليب السياسة الأمريكية في مرحلة بناء (العولمة) التي تمثل ايديولوجيا الرأسمالية المتوحشة هي (إدامة الصراع) و (صناعة الأزمات) و (تغذية التناحرات) و (تنشيط الفعل والحركة في ميادين التخريب) سواء في العراق أو سوريا أو مصر أو تونس أو ليبيا أو اليمن وسيأتي دور سلطنات الخليج، وإدامة الصراع تقتضي صناعة أو تعضيد أو توظيف (أدوات متصارعة) فعندما وجدت في العراق أطرافاً من مكونات متمايزة قومياً وطائفياً تبنت أمريكا توظيف مشروع تحويل هذا التمايز الطبيعي لتجعل منه أداة صراع وهي تحاول كل يوم لتحويله الى تناحر دموي تدفع به وتغذيه الى أن يصل مرحلة إستحالة (التعايش السلمي) وستستمر بتعضيده لاستمرار عملية استنزاف (الجميع) بلا استثناء، فهي سوف لا تسمح بانتصار أي طرف على الآخر لأنها مستعدة لتقوية (الضعيف) حتى (لا) يترك ساحة الصراع (وستقوم بإضعاف القوي) واستنزافه للحفاظ على حالة (توازن الرعب) ولمنع انتصار أي طرف على الآخر ولأجل أن يستمر الجميع في (التعلق بأذيال أمريكا) وطلب المعونة منها وتستجيب لشروطها بما فيها الشروط العقائدية التي تتجاوز المواقف السياسية والاقتصادية، وهذا ما وقعت فيه الكثير من قوى (الإسلام السياسي) التي ظلت تقدم التنازلات وتتعلق بأذيال أمريكا (دفعاً للضرر) وعدم الصدام معها وهي تظن أن أمريكا لا تميز بين الاضطرار والقناعات والمناورة والتكتيك، ويظن بعض الساسة بأن أمريكا تتصرف بمثل عقلياتهم السكونية والشكلية التي لا تميز بين (الظواهر الحقيقية) و (الظواهر العرضية) و (الظواهر الوهمية)، وهناك الكثير من الشخصيات والقوى السياسية أحياناً تطلق آراء تثير السخرية حيث تتحدث عن خطأ أمريكا هنا وسطحيتها هناك وتعتقد أن بإمكانها اللعب معها وطمأنتها وخدمتها دون مساس (بالثوابت والمقدسات) وهذه نظرة غاية في السطحية و التبسيطية وهي تعلم أن أمريكا تمتلك أكبر وأهم مراكز الأبحاث في العالم وتتبنى العقلية البراكماتية التي لا تتمسك بقواعد العقلية السائدة والمألوفة في مقاييسها ومعاييرها للصواب والخطأ أو للخير والشر، لذا فإن الكثيرين يقفون في أنظارهم عند السطوح لا تتعداها الى الأعماق وهي تتقيد بالمنطق وقوانينه الشكلية غير مدركة لعقلية الآخر وتمرده على كل أساليب و وسائل السائد والمألوف وحتى يدرك أولئك أن أمريكا (وحش متوحش) مختلف سيكونون ضحايا ذات العقل السطحي… وهنا يمكننا أن نعطي مثلاً من الصراع الدائر في مصر الحبيبة… فهناك ثنائية (الإسلام والأقباط) كطرفين يمكن توظيفهما لإدامة الصراع لاستنزاف القدرات وتحطيم البنى التحتية للجيش المصري والصناعة المصرية البسيطة وعندما رأى أن هذه الثنائية (إسلام – أقباط) يمكن التعويض عنها بأداة أخرى أكثر فاعلية وتدميراً ،ولها قابلية الاستمرار لمدى أطول وهي ثنائية (إسلامي – ليبرالي علماني) يمكن لها أن تحقق أهدافاً إضافية غير تلك التي ذكرناها والمتمثلة بالاستنزاف و الاستضعاف وتتمثل (بتسقيط) قوى (الإسلام السياسي) و (تغير) الكثير من المسلمين من شعارات الإسلاميين فضلاً عن توفر عامل (التوازن) والتواصل مع التوجهات التي تتبنى مقولات الحداثة والليبرالية والدولة المدنية والمواطنة وغير ذلك من رؤى يتعلق بألقها وجمالية خطابها الكثيرون والتي يمكن أن تثير الكثير من الصراعات الفكرية والعقائدية وتتيح مسارات صراعات خطيرة جديدة…
بالطبع في مصر لا توجد ثنائية (سنة – شيعة) أو (عرب – كرد) لذا ذهبوا لتبني خيار شعارات الحرية والكرامة والتمرد، فلا حسني مبارك بعيد عن أمريكا ولا الجيش بعيد عنها . وهناك إتهامات كثيرة ومتسعة لإتهام (الأخوان المسلمون) بالتبعية لها أيضاً، وقد تعززت هذه الاتهامات بالموقف الأمريكي الحالي الذي اصطف مع شرعية حكم الأخوان وإعلان العداء لحكم العسكر واعتبار حركتهم انقلاباً على الشرعية والديمقراطية تستحق قطع المساعدات الأمريكية عن مصر… والحقيقة هي ليس هناك طرف من الأطراف المتصارعة يعلن عداوته لأمريكا… إذن العقل يقول: إن جميع الأطراف لها علاقات قوية مع أمريكا فلماذا يتأجج الصراع؟ إلا لاستمرار إدامته لاستكمال الاستنزاف والتخلف ومن ثم التقسيم وإعادة البناء من أجل تنشيط استثماراتها وجلب منتجات شركاتها الرأسمالية لترميم البنى التحتية التي هدموها من جديد لإنقاذ الاقتصاد الأمريكي الذي لازال يعاني من الأزمة المالية العالمية…
ما نريد قوله هو أن محاولات استرضاء أمريكا والانبطاح لها لا تنفع الأوطان والإنسان، نعم قد تنفع بعض القوى والأشخاص الذين يرضون أن يتحولوا الى أدوات وسلع رخيصة للبيع ولحين نفاد الصلاحية وهي بالتأكيد قصيرة… ولكي نزيل عن أذهان البعض (شبهة التشدد) والابتعاد عن العقلانية والواقعية والاعتدال وعدم الوقوف بوجه أكبر قوة عالمية فنقع في محذور (الإنتحار) أو (إلقاء النفس في التهلكة) ولكي لا نُتهم بالحماسة الفارغة التي حذرنا منها مسبقاً… نقول ونؤكد أن هناك فرقاً بين المناورة المطلوبة و الانبطاح المطلق الذي يطال الثوابت…
نعود لنؤكد أن للعقل مداه، وللمنطق سقطاته، وللسياسة فخاخها، وللممارسة قوانينها، ولأمريكا ومعسكر الشر الحليف لها وحشيتها المتلازمة مع رأس المال المتوحش الذي استعبدها ووظفها لاستعباد الآخرين، ولكن تظل منهجية الحق ذات أفق غير متناهٍ لابد من إدراكه بالعلم والعقل ولكن من دون تقديس… ولابد من الثبات والانفتاح معاً، فأمريكا ذات العقل (البراكماتي) نفسها لا تحترم من يفرِّط بكرامته وسيادته ويخون بلده ويقتل أبناء شعبه وإن منحته بعض المال والسلطان…
فـ (النعاج) دائماً تأكل من يد راعيها الذي يذبحها عند الحاجة…