19 ديسمبر، 2024 4:52 ص

امريكا خسرت العراق .. والعراق كسب ايران – ٢

امريكا خسرت العراق .. والعراق كسب ايران – ٢

في الحلقة الأُولى من هذا الموضوع، استعرضتُ بايجاز مختصر، بعض الأَحداث التي صَنعتها أَمريكا، في عدد من شعوب العالم، خدمة لمصالحها التي لا تتحرج أَبداً من أَجل تحقيقها، و إِنّْ كان ذلك يتطلّْب تدّمير عدد من الشعوب. و الشَّعب العراقي، كان أَحد تلك الشعوب، التي دمَّرها المستعمر الأَمريكيّ. و الآن أَستأْنفُ مواصلةَ موضوع الحَلَقَة الأُولى فأَقول:

من أَجل الإِمعان في خلط الأَوراق في العراق، أَوكلت أَمريكا هذه المهمّة للإِرهاب العَربي و العَالمي، ليصبح العراق ساحته الكبرى في العالم. و ظلَّ الموقف الأَمني في العراق مرتبكاً، بالرغم من جميع الجُهود السّياسيَّة و الأَمنيَّة، التي بُذلت لاحتواء الإِرهاب. لكنّْ كلّ المساعي ذهبت سُدى، و كان أَكبر خرق أَمني واجهه الشَّعب العراقي و حكومته، سُقوط مدينة الموصل، بيد منظمة داعش الإِرهابيَّة بتاريخ 9/6/2014.

و إِزاء هذا الموقف الصَّعب، أَصدرت مرجعيَّة السيَّد السيستاني، فتوى الجهاد الكفائي بتاريخ 13/6/2014، فانخرط ثلاثة ملايين متطوِّعٍ، مُلبيّن نداء المرجعيَّة، مُلتحقين جنّباً الى جنّْبٍ، بصفوف القوّات المسلحة العراقيَّة، ليكونوا تحت تصرفها و يأْتمرون بأوامرها. و هؤلاء المتطوعين عُرفوا بعنوان قوّات(الحشّْد الشَّعبي).

و كانت باكورة هذا العمل الجماهيري الواسع، تحرير منطقة جُرف الصَّخر بتاريخ 24/10/2014. و بتاريخ 24/2/2015 حُرِّرَتْ محافظة ديالى بقيادة النائب هادي العامري. و في 11/3/2015 بدأَت القوّات العراقيَّة و معها قوَّات الحشّْد

الشَّعبي، بتطّويق مدينة تكريت، بعدما حَرَّرت القُرى و القَصبات التابعة لمحافظة صلاح الدّين.

و لأَجل أَنّْ تكون أَمريكا صاحبة الموقف الأَقوى في العراق، بادرت لعقد مؤتمرات عالميّة، لمناهضة الإِرهاب، و شكّلت في 5/9/2014، قوّات من عدد من الدول، اسمتها (قوّات التّحالف الدّولي لمحاربة الإِرهاب). و بدأَت تصريحات المسؤولين الأَمريكان تتصاعد، بأَنَّ القضاء على داعش في سوريا و العراق، مهمّة صعبة تحتاج لعدّة سنوات من الحرّب، قدّ تصل الى ثلاثين سنة، و قدّ تبلغ تكّلُفة هذه الحرب (500) مليار دولار. إِنَّه كلام سماسرة الحروب و نَخَّاسيّْها، للمتاجرة بأَرواح و أَموال الشعوب. لكن الإِرادة الوطنيَّة العراقيَّة الصَّادقة، أَسقطت هذا الرِّهان بالمرّة. وظلَّ التَّحالف الذي أَسَّسته أَمريكا غير فاعل، في استئصال شأْفة الإِرهاب في العراق.

و عودةٌ الى الوراء، تذكِّرنا بأَنَّ أَمريكا لمّْ تَفِ بالتزاماتها، المبرمة مع العراق، بموجب الاتّفاقيَّة الأَمنيَّة الموقعة بين الجانبيّن، لتزويد العراق بما يحتاج من أَسلحة لمكافحة الإِرهاب. كما أَنَّ أَمريكا تلكأَت بتجهيز العراق بطائرات(أف-16)، بالرغم من تسديد العراق، لكامل ثمن هذا العقدّ في عام 2013. لكنَّ العراق لمّْ يستلم من هذه الصِّفقة، غير طائرة واحدة فقطّ، و لمّْ تدخل للخدمة لحدّ الآن، بسبب وجود بعض المشاكل الفنيّة.

إِنَّ أَمريكا عنّدما لاحظت، انتصارات القوَّات المسلَّحة العراقيَّة، بمساندة الحشّْد الشَّعبي، و المساعدات الإِيرانيَّة للقوَّات العراقيَّة، على مستوى التَّسليح و الخبرة، شَعَرَتّْ أَنَّ حساباتها العسكريَّة، و تصوّراتها الاستراتيجيَّة، حول الوضع في العراق، كانت خاطئة. فإِنَّ أَمريكا طالما خطَّطت لستَّة أُمور في العراق، و هي تنّْتظر أَنّْ تحصل كلّها و تصبح واقعاً. و هذه الأُمور هي:

أولاً: أَنّْ تكون الحكومة العراقيّة الاتّحاديّة ضعيّفة. و أَنّْ تكون حكومات المحافظات و إِقليم كردستان، غير متوافقة مع الحكومة الاتّحاديّة، كخطوة استباقيّة تُهيء الظروف الاجتماعيّة سلَفاً، لتقسيم العراق مستقبلاً.

ثانياً: شَعّْبٌ مُمزقٌ تنهكه الخلافات السياسيّة و الحرّب الطائفيّة.

ثالثاً: أَنّْ لا خيار أَمام العراق، غيّر التَّقسيم على أُسُس طائفيَّة و قوّْميَّة.

الرابع: أَنّْ يكون العراق ضمن المنَّظومة الأَمريكيَّة في منطقة الخليج.

الخامس: نظام الحكم في العراق يجبُ أَنّْ تقودَه القوى العلمانيَّة.

السادس: من مزايا الإِرهاب الحَسَنة في العراق (من وجهة نظر أَمريكيَّة)، إِنَّه سيُخَلِّف ملايين الأَيتام و الأَرامل و المعوّقين و المُعوَزين ماديّاً. و هذا الحجم البشري من هذه المكونَّات، يساعد على انتشار الفساد الأَخلاقي في المجتمع العراقي. و بالنّتيجة فإِنَّ الإِرهاب في العراق، سيُنتج بيئة اجتماعيَّة مُتَفَسِّخة، تستطيع أَمريكا تشّْكيلها وفقَّ الرؤْية التي تلائم إِرادَتها.

الصَّدمة التي تلقتها أَمريكا (انتصارات القوّات العراقيّة بمساندة الحشّْد الشَّعبي و الدَّعم الإِيرانيّ)، جعلت عدداً من المسؤولين الأَمريكان، يصرّحون أَمام وسائل الإِعلام، بصورة متكرّرة، بأَنَّهم قلقون على مستقبل السُنَّة في العراق. و في ذلك إِطلاق إِشارة الى الأَنظمة العربيّة و المؤسّسات الإِعلاميّة، السائرتين في الفلك الأَمريكي، أَنّْ باشروا بطرح نغمة (الخوف على سنّة العراق من إِيران).

و فعلاً قد تمَّ ذلك، فقدّ صرَّح (سعود الفيصل) في المؤتمر الصّحفي، الذي عقده مع (جون كيري)، على هامش مؤتمر وزراء الخارجية العرب في 5/3/2015 حيث قال: (عبّرنا لكيري عن قلقنا من تدخل إِيران في سوريا و لبنان و اليمن و العراق، موضحاً أَنَّ إِيران تستولي على العراق، و هي مُشجّعة للإِرهاب فيه. و إِنَّ أَمن الخليج، يبدأ بالحيلولة دون حصول إِيران على النَّووي).

و لأَجل تعزيز أَمن المنطقة، و إِعادة ترتيب الأَوراق لحفظ التَّوازن الأَمني، إِنعقدَ بتاريخ 13/3/ 2015، في مُنتجع (شَرم الشّيخ) بمصّر، مؤتمر بعنوان (مصر المستقبل). إِنَّ عنوان هذا المؤتمر، له الكثير من الدّلالات الأَمنيّة، خصوصاً إِذا عرفنا أَنَّ داعميه، هم أَمريكا و محورها من دول الخليج، و دول عربيّة و غيّر عربيّة أَيضاً. فقَدّ تجسَّد الحضور الأَميريكيّ في هذا المؤتمر، بوزير الخارجية الأَميريكيّة(جون كيري)، و الحضور السعودي بوجود وليّ عهد النّظام، و الكويّت بحضور أَميرها، و البحرين بحضور ملك النظام، و الامارات العربية بحضور

نائب رئيس دولة نظام الامارات، و شخصيات أُخرى لها تأثير اقتصادي، في المنّْطقة و العالم. فقد صرَّح (إِبراهيم محلب) رئيس الوزراء المصري:

(تم الاتّفاق خلال مؤتمر دعم و تنمية الاقتصاد المصري، الذي عُقد بمدينة شرم الشيخ بلغت (60) مليار دولار، بالاضافة الى (12.5) مليار دولار دعم من دول الخليج).

و بالضّدّ من الموقف الدَّاعم لمصر، وقفتّ السعوديّة و عدد من دول الخليج، بمثابة رأْس الحرّبة لتدّمير العراق، عن طريق دعم الإِرهاب، بمختلف الصور و الأَشكال داخل العراق.

أَمريكا خَسِرَتْ الشَّعب الإِيراني، لكثّرة المؤامرات التي حاكتها ضدّه، منذ سقوط نظام شاه إِيران في 1 شباط 1979. في بحّث منشور في عام 1998، لمركز الإِمارات للدّراسات و البحوث الاستراتيجيّة، يحمل عنوان (أَمن الخليج في القرن الواحد و العشرين)، جاء فيه:

(و من الاجراءآت الأمريكية التي فاقمت من شعور الايرانيين بعدم الأَمان، الدعوة التي أَطلقها (ثيون جنيجريتش)، رئيس مجلس النواب الأمريكي، لتخصيص (18) مليون دولار لميزانية الاستخبارات الأمريكية لكي توجه الى الأنشطة السرية (لزعزعة استقرار الحكومة الايرانية)، (وفقاً لما افترضه السيناتور (الفونسو داماتو) حول تنفيذ مقاطعة اقتصادية ثانوية لتشديد المقاطعة الاقتصادية الحالية ضد ايران، وهي بالفعل مقاطعة واسعة النطاق)، و كذلك لاستمرارية تجميد الأرصدة الايرانية في الولايات المتحدة الأمريكية، و الوجود العسكري الأمريكي الضخم المشار اليه سلفاً، و مواصلة واشنطن الضغط بالحاح على حلفائها لايقاف تعاملاتهم الاقتصادية و السياسية مع ايران.)(المصدر المذكور اعلاه ص 118)(انتهى).

و على نفس منهج أَمريكا في تدّمير الشَّعب الإِيراني، فإِنَّ أَمريكا أَقدمت على تدّمير الشَّعب العراقي، و خَسِرَتْه هو الآخر أَيضاً، و يعود ذلك لجملة من الأَسباب منها: دعم أَمريكا لنظام (صدَّام) المقبور، الذي قهر الشَّعب العراقي، و أَدخله في حروب، لا ناقة له فيها و لا جمل. و النتيجة أَفضتْ الى حصار اقتصاديّ، دمَّر الشَّعب العراقي، و أَخيراً احتلال أَمريكا للعراق، و تدّمير بُنيته التَّحتيَّة. و آخر

المؤامرات الأَميركيّة على الشَّعب العراقي، و ليّس أَخيرها، كانت ادخال العراق في فوضى الإِرهاب مُنذ عقد من الزَّمن.

إِزاء كلّ تلك الخلفيّات المأْساويّة، التي مرَّ بها العراق، جرَّاء التآمر الأَميركيّ عليه، سواءً بصورة مباشرة او بالواسطة، أَصبح لزاماً عليّه أَنّْ يأْخذَ موقفاً حاسماً، ضدّ التَّسلّط الأَميركيّ، الذي لمّْ يدّْخر جهداً لجعل العراق، جزءً من النَّظريَّة الأَميركيّة (الفوضى الخلاّقة).

في الحَلَقَة الثَّالثة و الأَخيرة من هذا الموضوع، سأَبحث فيها إِنّْ شاءَ اللهُ تَعالى، العوامل التي تجعل العراق، ينّْفُضُ يده من أَمريكا و وعودها، و إِنَّ مصلحته الوطنيّة، تَفرض بناء علاقة استراتيجيَّة مع الجارة إِيران، لوجود مجموعة من الأُسُس الاستراتيجيّة المشّتركة بيّْن البلدين، بموجبها يستطيع العراق، حفظ أَمنه و ثرواته، و تحّقيق استقراره و الحفاظ على وحدته الوطنيّة.

أحدث المقالات

أحدث المقالات