23 ديسمبر، 2024 5:27 ص

امريكا: تحالف يتراجع، وتحالفات تتقدم

امريكا: تحالف يتراجع، وتحالفات تتقدم

تحالف أوكوس بين امريكا وبريطانيا واستراليا، لم يكن على اهميته الكبيرة؛ هو التحالف الاول الذي تقدم عليه امريكا، بل ان هناك، قبل هذا الوقت، او الزمن بفترة طويلة جدا، اي قبل سنوات من الآن؛ ملامح لتحالفات جديدة اسست لها، او وضعت امريكا، لها قاعدة، للعمل بها مستقبلا، اي في هذا الوقت تحديدا، وتحالف اخر سبق هذا التحالف الا وهو؛ تحالف بين امريكا واليابان والهند واستراليا؛ جميع هذه التحالفات، او ملامح تحالفات اخرى، بمعنى انها لم تبدأ بعد او ان العمل بها لم يبدأ بعد، لكنها في الدرج الامريكي بانتظار الوقت الملائم. جميع هذه التحالفات، او ملامح التحالفات الاخرى؛ الغاية والهدف منها، تطويق الصعود الصيني، وتحجيمه، ومن ثم محاصرته بأسوار من التحالفات؛ لإيقاف هذا الصعود، او في الاقل؛ التقليل من زخم تطوره على حساب التفرد الامريكي. هناك اسئلة على درجة كبيرة من الاهمية، ذات بعد استراتيجي: ما هو شكل النظام العالمي، الذي سوف ينتج عن الصراع الصيني الامريكي، او بتعبير اكثر واقعية؛ الصراع الامريكي مع الثنائي الروسي والصيني؟ ما مصير التحالفات الامريكية القديمة، سواء على الصعيد الدولي او على الصعيد الاقليمي؟ ما هو موقف الاتحاد الاوربي حين يتم تجسيم هذه التحالفات على ارض الواقع، وتصبح حقيقة لها فعل وتأثير وجودي في الصراع الدولي بمعزل عنها؟ ما هو مصير تحالف الناتو، عندما تتخذ اوروبا قرارا مستقلا، يحمي مصالحها، على الصعد العسكرية والسياسية والاقتصادية؟ كيف تكون عليها؛ مواقف دول العالم الثالث، ومنها دول المنطقة العربية، في ذلك الوقت، عندما تتجسد هذه التحالفات بمفاعيل واقعية، لها تأثير وجودي على الصعد الاقتصادية والسياسية والعسكرية والتجارية. للإجابة على هذه الاسئلة بقدر ما تسمح به قدرتي على التحليل والاستنتاج؛ هي كما في التالي:
اولا؛ ان هذا التحول الامريكي لم يبدأ كما سلفنا القول فيه، في الوقت الحاضر، بل انه بدأ، قبل هذا الوقت بسنوات، اي في عام 2008، عندما زار الهند بوش الابن، والذي تمت فيها، بين امريكا والهند؛ عقد أكبر صفقة بين الدولتين، والتي تمحورت؛ حول موافقة امريكا، بنقل التكنولوجيا الامريكية النووية المتقدمة الى الهند، بغرض تحديث التكنولوجيا النووية في الهند. كان الهدف والغرض منها؛ هو بناء او تأسيس منصة لتحالف مقبل، مع الهند في مواجهة الصين، والتي لها او لهما مشاكل حدودية، لم يتم حلها على مدار عقود. كما ان الخلاف الاوربي الامريكي لم يبدأ في الوقت الحاضر، بل بدأ في عام 2003، عندما عارضت كل من فرنسا والمانيا؛ الغزو الامريكي للعراق. حتى وصل الامر ببوش الابن، ان يصف اوروبا بالقارة العجوز، ومن ثم؛ تم التراشق الكلامي بين فرنسا وامريكا في ذلك الوقت. هذا يعني ان هذا التحول الامريكي لم يكن وليد اللحظة او هو وليد المخرجات الظرفية للصراع الامريكي مع الثنائي الروسي والصيني، بل انه وليد ملامح هذا الصراع حتى قبل ان يبدأ فعليا، ويتجسد واقعيا، قبل سنوات من الآن. وهذا يفسر لنا بوضوح؛ ان الاستراتيجية الامريكية الجديدة، كان قد تم رسم ملامحها واهدافها وعملية تحريكها بهدوء، ولكن بفاعلية قبل سنوات. ويعني ايضا وهذا هو المهم؛ انها اي هذه الاستراتيجية؛ تم تبنيها، واعتمادها مستقبلا، او بالأصح اعدادها من قبل دوائر صناعة الاستراتيجيات الامريكية في امريكا العميقة، وما مهمة رؤساء الادارات الامريكية الا العمل بمخارج هذه الاستراتيجية بعمل وخطوات اجرائية تكتيكية مناسبة للظرف الزماني والمكاني؛ خدمة للأهداف الاستراتيجية.
ثانيا: ان الاتحاد الاوربي لم يتفجأ بالتحالف الامريكي مع بريطانيا واستراليا، كما لم يتفجأ بالتأسيس الاولي للتحالف بين امريكا واليابان واستراليا والهند، وما رد الفعل الفرنسي، ما هو الا تحصيل حاصل لواقع معلوم قبل تحريكه فعليا ورسميا. الاتحاد الاوربي تحدث قبل سنوات من الآن عن اهمية بناء جيش اوروبي مستقل عن حلف الناتو، او هو، كما تم تمرير طرحه في وقتها، داعم ومساند للناتو، وليس بمعزل عنه، وهذه هي اللغة الناعمة للتمرير، او لإخفاء الهدف الحقيقي، ثم اعيد طرحه قبل اسابيع، عند الانسحاب الامريكي الفوضوي من افغانستان، من دون اعلام الحليف الاوروبي. وهذا هو ما يؤكد؛ ان الاتحاد الاوروبي كان يعلم بان هناك في الافق؛ تحول امريكي في السياسية الدولية في الذي يخص المصالح الامريكية على الامدين المتوسط والبعيد. لكن الاتحاد الاوروبي ليس بقادر بإمكانياته العسكرية المعروفة، وهنا نقصد؛ توفير الكادر البشري لمهاهم عابرة للحدود، لحماية مصالحه او لتوفير الدعم لأنظمة تشكل مناطق نفوذ له؛ لأن نسبة الشباب في اوروبا قليلة جدا، بما يقيد حركة صانعي القرار في اوروبا لغرض اعلاه( فرنسا والمانيا، وتحديدا في الوقت الحاضر فرنسا). انما هناك طريق اخر بإمكان اوروبا( فرنسا والمانيا) اللعب عليه، الا وهو العلاقة مع الصين وروسيا من النواحي الاقتصادية والتجارية وغيرهما. لذا نلاحظ ان الاتحاد الاوروبي يتقاطع تماما مع الرؤية الامريكية في العلاقة، مع الصين بدرجة كبيرة ومع روسيا بدرجة اقل. لذا، عاجلا او اجلا ان الاتحاد الاوروبي سوف يعقب الثنائي الروسي والصيني في الحقل الدولي، وفي العلاقة البينية، والحديث هنا لا يدور عن ما هو سيحدث في الامد المنظور، بل الحديث هنا، ما سيحدث في الامد المتوسط وما سيليه. ان المتابع للتحرك الاوروبي في المجال الاقليمي في منطقتنا العربية وجوارها الاسلامي؛ يلاحظ حين يتمعن في منطلقات هذه الحركة واهدافها، ان هناك تباعد بين الموقفين الاوروبي والامريكي، ولو انه غير مكشوف اي خفي، في الصراعات البينية في المنطقة وجوارها، وبالذات في الموقف من الصفقة النووية بين ايران والقوى الدولية الكبرى. ان الموقف الاوروبي من الصفقة النووية اكثر ميلا الى الموقف الصيني والروسي. كما ان الاتحاد الاوروبي في الامد المقبل، ولو بعد وقت ما؛ سيقترب كثيرا من الثنائي الروسي والصيني. هناك اسباب لهذا التقارب وهي اسباب سيفرزها الصراع المقبل؛ من بينها، بل ان اهمها؛ هو ان الاتحاد الروسي ليس في وارد الدخول في معارك، اي كان نوعها مع الاتحاد الاوربي اي المانيا وفرنسا على وجه التحديد والحصر، بل على العكس ان هناك مصالح اقتصادية يتم البناء عليها في الوقت الحاضر، وهي بالضد من مصالح امريكا، السيل الشمالي2 مثلا، وغير هذا الكثير، كما ان روسيا لم تعد تحمل كما الاتحاد السوفيتي، ايديولوجيا تهدد نظام اوروبا الاقتصادي والسياسي والثقافي، بل ان الاتحاد الروسي استنسخ معايير الرأسمالية الاوربية في الاقتصاد والسياسية وما اليهما. اما الصين فهي في علاقة قوية على الرغم من الدعوة الامريكية الى اوروبا؛ باتخاذ موقف ما من الصين، لكن اوروبا لم تعر هذه الدعوة من الناحية الواقعية اية اهمية. ان اوروبا وهنا نؤكد ان المقصود الحصري هما فرنسا والمانيا، وبقية دول اوروبا الا بعض الاستثناءات التي سوف نأتي عليها لاحقا؛ تشترك، او هي في الطريق الى الاشتراك مع مشروع الصين المستقبلي، الحزام والطريق، اضافة الى تكنولوجيا المعلومات، والتبادل التجاري. مما يزيد من زخم هذه العلاقة مستقبلا؛ هو ان الصين، تستخدم الاقتصاد والتجارة في تطوير علاقاتها مع دول العالم، ولا تستخدم عصى السلاح في وجه اي دولة، وهي في هذا تتبع سياسة ذكية جدا. في ذات الوقت تقوي نوعا وتزيد كما، من ترسانتها العسكرية في وجه الولايات المتحدة، لغرض ايقاف الاخيرة عند حدودها وليس استعمالها فعليا في حرب، وهي تعلن على الملأ هذه السياسة. اما الحديث عن خسارة فرنسا لصفقة الغواصات الكبيرة، على الرغم من اهمية هذه الخسارة، لكن الاهم في نتائج هذه الخسارة؛ هو التأسيس الواقعي، لبداية تحول استراتيجي اوروبي عن امريكا، ولو بعد سنوات، باستثناء اوكرانيا ودول البلطيق، وبولندا.. التي سيكون لها، في حينه؛ موقف مختلف عن موقف الاتحاد الاوروبي لحسابات التاريخ ومورثات النزاع والصراع، والمصالح..
ثالثا: منظمة شنغهاي للتعاون والشراكة، التي تضم روسيا والصين والهند ودول معاهدة الامن الجماعي، وهي دول اسيا الوسطى، اضافة الى دول اخرى، تسعى بكل جهدها للانضمام اليها. هذه المنظمة ستشكل مستقبلا، محورا للتحالف في مواجهة التحالفات الامريكية. كما ان هذه المنظمة تشكل في انتاجها ربع الانتاج العالمي، كما ان سكانها نصف سكان العالم، يظل سكانها يشكلون ثلث سكان العالم، اذا ما طرحنا الهند منها مستقبلا. اضافة الى انها تمتلك هيكل صناعي منتج، مما يساعدها على الاستغناء عن الدولار في التعامل البيني في التجارة والاقتصاد، والاستعاضة عنه بالعملة المحلية، وهي سياسة نقدية اعلنتها المنظمة قبل زمن، لكنها لم تطبقها حتى الآن، انما هي لم تزل مطروحة للنقاش والعمل، من المرجح جدا، ان يتم العمل بها حين يشتد وطيس المواجهة مع امريكا. اعتقد ان الهند ستخرج من هذا التحالف في نهاية المطاف، او ان وجودها فيه سيكون صوريا، اي غير فعال، لأن بوصلتها سوف تتجه اجلا او عاجلا الى الصف الامريكي، لحساب مستقبل صراعها الحدودي مع الصين، وعلاقة باكستان، خصمها التاريخي مع الصين، وهي علاقة قوية، اخذه في التجذر والتمتين. الهند تحاول ان تلعب على طرفي الصراع؛ بوضع قدم هنا وقدم هناك، لكنها في الخاتمة سيجبرها ميدان الملعب على اتخاذ الموقف سابق الاشارة، عندما تشتد حرارة اللعبة، على الرغم من علاقتها القوية مع روسيا لجهة شراء السلاح او توطين صناعيا بعضه على ارضها؛ لأن مغانمها مع امريكا ستكون اكثر من مغانمها في شنغهاي او مع الاتحاد الروسي، اضافة الى فرصتها ستكون اكبر في الفضاءات الدولية. ان هذه المنظمة وغيرها، والتحول الاوروبي عنها في المستقبل؛ سيقوض هيمنة امريكا، ويقلل من فاعلية تحالفاتها الجديدة، ولو بعد سنوات.
عموما ان العالم يتجه فعليا الى سياسة المحاور والتحالفات، التي تقودها وتهيمن عليها القوى الدولية الكبرى، اي ان العالم سوف تقوده وترسم ملامح حركته، هذه القوى الدولية لمصالحها، وليس لمصالح الشعوب؛ في حرب باردة، من نوع مختلف تماما، بين امريكا وتحالفاتها في المحيطين الهندي والهادي، وفي منطقتنا العربية وجوارها، والثنائي الروسي والصيني في المناطق سابقة الاشارة لها في اعلاه. مع بقاء بعض الدول الكبرى، فرنسا والمانيا؛ تراوح في المنطقة الرمادية بين الفضاءين لزمن ما، لكنها في النهاية ستجبرها الظروف والمصالح على الاختيار بين المحورين؛ ارجح وبقوة، كما بينت في اعلاه؛ من انها اي اوروبا( فرنسا والمانيا) ستختار المصالح على تاريخ العلاقات والقيم المشتركة كما يروق لدهاقنة امريكا؛ توصيفها. هنا تبرز القوى الوطنية الحرة في اجبار انظمتها على ان لا تكون جزءا من هذه التحالفات والمحاور؛ لأنها في النهاية ومهما كانت النتيجة، سوف تكون هذه الشعوب هي الخاسرة؛ اذا ما سارت انظمتها مع هذا المحور او ذاك المحور. لكن وفي الوقت ذاته، من المهم استثمار نتائج هذه الصراعات لصالح الشعوب، ان كانت انظمتها حرة ومستقلة ووطنها ذو سيادة؛ قادرة على اتخاذ القرار الذي يحمي تلك المصالح، كما هو الحال في تركيا وايران، بصرف النظر عن الرأي او الموقف من الدولتين، وعن الموقف من سياستيهما في المنطقة العربية، فالحديث هنا لا يدور عن سياسة الدولتين في المنطقة العربية، بل عن الاستقلال والسيادة، وبذل الجهود في حماية مصالح الشعب.