تشهد السياسية الامريكية في عهد الرئيس اوباما تخبطا ملحوظا في المواقف على الصعيد الداخلي والخارجي بشكل يضعها بمكان لا تستطيع به تحديد اولوياتها وترتيب مصالحها بما يتوافق مع مستوى المتغيرات المتسارعة في الشرق الاوسط والعالم , فأصبحت تحمل الكثير من التصريحات والخطابات الاعلامية وقليل من الافعال الدرامتكية التي ينبغي بها استغلال الظروف المتقلبة لمصلحة الولايات المتحدة الاستراتجية على المدى البعيد ,بل على العكس من ذلك , فقد اثرت الازمة الاولى المتمثلة بالوثائق المسربة لموقع(ويكليكس) سلبا على السياسة الخارجية للولايات المتحدة مع حلفائها ووسعت الفجوة بينها وبين اعدائها ,فكشفت العديد من الملفات الهامة التي لعبت بها الولايات المتحدة دور اللاعب الرئيس ووضعت الولايات المتحدة بمجابهة الرأي العام الداخلي والخارجي بموضع المتهم , والذي لم يشهد إزاءه تغير في الاساليب المتبعة سابقا او تعزيز لدورها في المنطقة , بل استمرت في تخبطها وتشتتها الى حين الازمة الثانية في الولاية الثانية لاوباما بالفضيحة المسربة من قبل المستشار السابق للأمن القومي الامريكي إدوارد سنودن بالتجسس الالكتروني, وما رافقها من ضجة اعلامية واحتجاجية على المستوى العالمي والداخلي , مما اعاد الولايات المتحدة الى الوراء وهزّ الثقة بينها وبين حلفائها الدوليين .
فبدلا من مواجهة الازمة وتخفيف من حدتها وبناء طرق جديدة لتعامل امريكا مع حلفائها والملفات الاقليمية الهامة في المنطقة , فما تزال تسلك ذات الطرق القديمة وتتعامل مع الازمة بعشوائية وتخبط وأولت ملاحقة سنودن الاولوية وان كانت على حساب علاقتها مع روسيا بعد سماح الاخيرة لسنودن الاقامة لديها بشكل مؤقت .
فالولايات المتحدة برئاسة اوباما لم تستفد برغم من الفضائح التي تعرضت اليها من مجموعة الملفات الاقليمية المطروحة في المنطقة بشكل يعيد اليها هيبتها وزمام المبادرة وتغيير للصورة المتقلبة للسياسة الامريكية في العهود السابقة, لتفتح المجال امام اساليب جديدة تعيد الخارطة الاقليمية لنقطة البداية بعد ما يسمى ب(الربيع العربي) .
فهي لم تستفد من الاطاحة بنظام القذافي على الرغم من دعمها للثورة الليبية ومشاركتها في الاعمال العسكرية للأطلسي ,إلا انها لم تحقق سوى خسارة لسفيرها في بنغازي و اعتداء على مصالحها وعدم استقرار امني او سياسي يذكر في ليبيا حتى اليوم ,فهل كان ذلك قصور في فهم الوضع المستقبلي لليبيا والليبين بعد القذافي ؟ ام هو عجز في ادارة اوباما بتحويل المعطيات المستجدة بعد القذافي الى مكاسب حقيقية ؟
اما ما يخص الملف السوري فهو الاكثر جدلية وتأرجح للسياسة الامريكية فهي لا تزال تمسك العصا من المنتصف بالنسبة للازمة السورية فلا تريد ان تدعم المعارضة بشكل علني وكبير يؤثر على الارض عسكريا تخوفا من اعادة السيناريو الليبي بعد انتشار الجماعات التكفيرية الجهادية على ساحات القتال بما فيها تنظيم القاعدة الذي اخذ يتمدد الى مناطق ذات مصالح استراتجية بالنسبة لها في العراق و لبنان وغيرها من بلدان وان كانت بنسب متفاوتة ,ولا تريد السعي مع حلفائها لتسوية جديدة للازمة السورية عبر مؤتمر جنيف الذي تعبث بموعد انعقاده الى اليوم منذ بدء الحوار مع الروس في ايار مايو الماضي وهي ترى عبثية اتفاق المعارضة الخارجية المتمثلة بالائتلاف على صيغة موحدة للتفاوض والإمساك بزمام الامور عسكريا في الداخل وسياسيا في الخارج ,فهل لم تجد ما تنتظره من الازمة السورية كقربان لدماء السوريين ؟ام انها لم تستطع اجبار روسيا وحلفاء دمشق على تقاسم المغانم معها بحصانة اسرائيلية ؟
وفي مصر قبل مرسي وبعد مرسي لم تزل تناور اقطاب السياسة للخروج بدور اكبر للمصالح الامريكية والإسرائيلية بأقل تكلفة , فهل خاب تحالفها مع الاخوان في مصر بعد مبارك ؟ وهل ستعيد صياغتها للقوى المؤثرة في مصر وتبحث بمفاتيح اقفالها عن حل ؟ ام كانت توقعاتها ودراساتها خارج ميزان قوة الشعب المصري الذي لم يقم بثورته الاولى إلا لتحقيق أهداف ثورته الثانية التي لم يفهما اوباما حتى اليوم ؟
اسئلة لربما يحاول اوباما الاجابة عليها بدخوله بأكثر القضايا صعوبة و اقلها أملاَ وهو الوصول الى حل بين الفلسطينيين والإسرائيليين بإعلان اعادة المفاوضات بين الطرفين منذ توقفها من 3 سنوات للتوصل الى الحل النهائي للدولتين وحل جميع القضايا العالقة منذ اوسلو الى الآن لتشمل مجموعة من التعديلات المتعلقة ب:
أولاً: عدم ذكر القرار (194) في الفقرة “ب” من البند الثاني في المبادرة الذي يحدِّد المطالب العربية، واستبدال مطلب “الحل العادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين بمطلب “حل واقعي ومتفق عليه بالمفاوضات
ثانياً: شطب البند الرابع من المبادرة الذي ينص على “ضمان رفض كل أشكال التوطين الفلسطيني الذي يتنافى والوضع الخاص في البلدان العربية المضيفة”.
ثالثاً: تعديل الفقرة “ج” من البند الثاني في المبادرة، التي تؤكد على شرط قبول إسرائيل بـ “قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ الرابع من حزيران (يونيو) 1967 في الضفة الغربية وقطاع غزة وتكون عاصمتها القدس الشرقية”، والمغزى من وراء هذا التعديل هو تعويم الفقرة بحيث لا تُذكر حدود الدولة الفلسطينية المستقلة، أي الاكتفاء بصيغة “قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة”.
رابعا : عدم الربط بين التسوية الشاملة والتطبيع واستبدال ذلك بتطبيع يرافق تقدم الخطوات لسياسية ومبادرة الدول العربية والإسلامية بخطوات تطبيعية سياسية واقتصادية كمبادرات “حسن نية”.
فهي تريد ارضاء الفلسطينيين بالحد الادنى من حقوقهم المشروعة مقابل استقرار محدود ربما يحصل عليه الفلسطينيين في المستقبل ,اما عن الطرف الاخر فهي تريد اسكات الاسرائيليين عن خوفهم من عدم استقرار الشرق الاوسط والدول المجاورة وأثره على امن وسلامة إسرائيل فتتعهد امريكا ببناء علاقات جديدة لها ولإسرائيل اذا ما تٌمم اللاتفاق مع الفلسطينيين .
وهنا نرى مجموعة من المكاسب التي تسعى امريكا لتحقيقها من خلال استئناف مفاوضات السلام فهي:
1. ترمي الى اعادة ضبط وتوجيه سياستها المتخبطة والغوغائية بطريقة منتظمة تواجه به الرأي العام الخارجي والداخلي ويعيد اليها الكثير مما خسرته في التغيرات المتسارعة التي حصلت عالميا وإقليميا.
2. مواجهه تنامي الدور الروسي الذي يبدو اكثر ثباتا فهو يعرف ما يريده من حلفائه وأعدائه في الداخل والخارج ,وموقفه الثابت والمؤثر من الازمة السورية,بالإضافة لخروج الصين عن صمتها المعتاد في كثير من الملفات والقضايا وهي تبحث عن دور اكثر تقدما سياسيا على الصعيد الخارجي .
3. اعادة قلب اوراق المنطقة بإخراج الفلسطينيين ولو جزئيا من دائرة الصراع العربي الاسرائيلي ومن محور الدول الداعمة للمقاومة المتمثل بإيران وحزب لله وسوريا ,وبالتالي عقد تحالفات جديدة مع الدول العربية الداعمة لحل الدولتين وإبراز حلفاء اقليمين جدد بمعايير جديدة تحافظ على المصالح الراهنة والمستقبلية لأمريكا وإسرائيل بوصفهم شركاء في المصالح .
4. منع الفلسطينيين من تحقيق مكاسب جديدة على المستوى الدولي والإقليمي بعد فشل ادارة اوباما في منع الاعتراف بفلسطين كدولة مراقبة بالأمم المتحدة و الانيسكو ,بل حصر الفلسطينيين بانجازات مدروسة تتناسب والمصالح الامريكية والإسرائيلية الواردة في الاتفاق.
5. كبح جماح الاسرائيليين بقيادة حكومة نتنياهو اليمينية من القيام بحل منفرد ومتهور ضد برنامج ايران النووي عسكريا او حزب لله في لبنان او حتى التمادي بتدخل في سوريا عسكريا بشكل قد يشعل المنطقة بحرب سينال لهيبها الولايات المتحدة وحلفائها بالمنطقة .
على الرغم من صعوبة التوصل الى اتفاق بين الفلسطينيين والإسرائيليين إلا انها تمثل بارقة امل بالنسبة لاوباما وللسياسة الامريكية على حد سواء لان ملف بهذا الحجم يتوازى طردا مع فوضى السياسة الامريكية في المنطقة على المستويين العالمي والإقليمي وحتى الداخلي التي اوصل اوباما بلاده بها فهو بشهادة من احبوه و أعادو ا انتخابه لولاية اخرى متحدث بارع ولا يعدو ان يكون اكثر من ذلك .